( وهو حوار فلسفي, مداره الحياة والموت, الخلود والكمال )
في ليلة مظلمة من ليالي الصيف, خرج الشاعر بنفسه, من القرية الصغيرة
النائمة في سفح الحبل, وفي ذلك السكون الشامل, والظلام المركوم,
اخذ يمشي بين أشجار الزيتون المزهرة, في مسلك منفرد, ثم اعتلى
تلك الربوة الصغيرة, حيث كانت مدافن القرية, وحيث ينام الموتى في صمت الدهور.
وبين القبور الخرساء الجاثمة تحت أضواء النجوم, حيث يتحدث كل
شئ بجلال الموت, وتفاهة الحياة, جلس الشاعر بإقدام متعبة, ونفس ثائرة,
واجفان قد أذبلتها الأحزان, فطافت بنفسه الأحلام والأفكار والذكريات,
وتقلبت أمامه صور الموت وأمواج الحياة.
وتتابعت أمامه رسوم الأيام الكثيرة, ما نام منها في قلب الأزل,
وما لم يزل ينمو في أحشاء الأبد الكبير, وجاشت في قلبه هذه الصور والخواطر,
وعاجت في صدره عجيج الأمواج الثائرة,
فألقاها إلى الليل في النشيد التالي : ( المتقارب )
أَتَفنى ابتساماتُ تَلك الجفونِ؟
ويخبو توهُّجُ تلكَ الخدودْ
وتذوي وُرَيْداتُ تلك الشِّفاهِ؟
وتهوِي إلى التُّرْبِ تلكَ النُّهودْ؟
وينهدُّ ذاك القوامُ الرَّشيقُ
وينحلُّ صَدْرٌ، بديعٌ، وَجِيدْ
وتربدُّ تلكَ الوجوهُ الصًّباحُ
وفِتْنةُ ذاكَ الجَمالِ الفريدْ
ويغبرُّ فرعٌ كجنْحِ الظَّلامِ
أنيقُ الغدائر، جعدٌ، مديدْ
ويُصبحُ في ظُلُماتِ القبورِ
هباءً، حقيراً، وتُرْباً، زهيدْ
وينجابُ سِحْرُ الغَرامِ القويِّ
وسُكرُ الشَّبابِ، الغريرِ، السّعيدْ
أتُطوَى سماواتُ هذا الوجودِ؟
ويذهبُ هذا الفَضاءُ البعيدْ؟
وتَهلِكُ تلكَ النُّجومُ القُدامى ؟
ويهرمُ هذا الزّمانُ العَهيدْ؟
ويقضِي صَباحُ الحياة البديعُ؟
وليلُ الوجودِ، الرّهيبُ، العَتيدْ؟
وشمسٌ توشِّي رداءَ الغمامِ؟
وبدرٌ يضيءُ، وغَيمٌ يجودْ؟
وضوءٌ، يُرَصِّع موجَ الغديرِ؟
وسِحْرٌ، يطرِّزُ تلكَ البُرودْ؟
وَبَحْرٌ فَسيحٌ, بَعيدُ القَرارِ
يَضُجُّ ويَدْوي دَوّيُ الوَليدْ
وريحٌ، تمرُّ مرورَ المَلاكِ،
وتخطو إلى الغاب خَطَوَ الرُعودْ؟
وعاصفة من بنات الجحيم،
كأنَّ صداها زئير الأسودْ
تَعجُّ، فَتَدْوِي حنايا الجبال
وتمشي، فتهوي صُخورُ النُّجودْ؟
وطيرٌ، تغنِّي خِلالَ الغُصونِ
وتَهْتِف للفَجْرِ بَيْنَ الوُرودْ؟
وزهرٌ، ينمِّقُ تِلْكَ التِلالِ
وَيَنْهَلُ مَنْ كُلِّ ضَوءٍ جَدِيدْ؟
ويعبَقُ منه أريجُ الغَرامِ
ونَفْحُ الشَبابِ الحَيِّيِ، السَعيدْ
أيَسطو عَلَى الكُلِّ لَيلُ الفَناءِ
ليلهُو بها الموتُ خَلْفَ الوجودْ
وَيَنْثُرَهَا في الفراغِ المُخِيفِ
كما تنثرُ الوردَ ريحٌ شَرودْ
فينضبُ يمُّ الحَياةِ الخضمُّ
ويَخمدُ روحُ الربيع، الولودْ
فلا يلثمُ النُّورُ سِحْرَ الخُدودِ
ولا تُنبِتُ الأرضُ غضَّ الوُرودْ
كبيرٌ على النَّفسِ هذا العَفَاءُ!
وصعبٌ على القلبِ هذا الهمودْ!
وماذا على الَقدَر المستمرِّ
لو استمرَأَ الّناسُ طَعمَ الخلودْ
ولمْ يُخْفَروا بالخرابِ المحيط
ولم يفُجعَوا في الحبيبِ الودودْ
ولمْ يَسلكوا للخلودِ المرجَّى
سبيلَ الرّدى ، وظَلامَ اللّحودْ
فَدامَ الشَّبابُ، وَسِحْرُ الغرامِ،
وفنُّ الربيعِ، ولطفُ الورُودْ
وعاش الورى في سَلامٍ، أمينٍ
وعيشٍ، غضيرٍ، رخيٍّ، رَغيدْ؟
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدُّ
يَلَذُّ له نوْحُنا، كالنّشيدْ
وكانت بين القبور روح فيلسوف قديم مجهول , فجاءت تزور جسمها الذي اصبح
رمة بالية في احشاء التراب, فاشفقت على الشاعر المسكين من الامه الروحية,
وحيرته الظامئة, فارادت ان تعلمه الحكمة وتسكب في قلبه برد اليقين
فخاطبته بهذه الابيات :
تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ
ولو دُمْتَ حيَّا سَئمتَ الخلودْ
وَعِشْتَ على الأرض مثل
الجبال جليلاً، غريباً وحيد
فَلَمْ تَرتشفْ من رُضابِ الحياة
ولم تصطبحْ منْ رحيقِ الوُجود
ولم تدرِ ما فتنة الكائناتِ
وما سحْرُ ذاكَ الربيعِ الوَليد
وما نشوة الحبّ عندَ المحبِّ
وما صرخة القلبِ عندَ الصّدودْ
ولم تفتكرْ بالغدِ المسترابِ
ولم تحتفل بالمرامِ البعيدْ
وماذا يُرجِّي ربيبُ الخلودِ
من الكون-وهو المقيمُ العهيد-؟
وماذا يودُّ وماذا يخافُ
من الكونِ-وهو المقيمُ الأبيد-؟
تأمَّلْ..، فإنّ نِظامَ الحياة
نظامُ، دقيقٌ، بديعٌ، فريد
فما حبَّبَ العيشَ إلاّ الفناءُ
ولا زانَهُ غيرُ خوْفِ اللحُود
ولولا شقاءُ الحياةِ الأليمِ
لما أدركَ النَّاسُ معنى السُّعودْ
ومن لم يَرُعْهُ قطوبُ الديَاجيرِ
لَمْ يغتبطْ بالصّباح الجديدْ
وراقَ حديثُ الروحِ الشاعر العائش بين الهواتف والاشباح,
فقال يحاورها :
إذا لَمْ يكنْ مِنْ لِقَاءِ المَنايا
مَناصٌ لِمَنْ حلَّ هذا الوجودْ
فأيُّ غَناءٍ لهذي الحياةِ
وهذا الصراعِ، العنيفِ، الّشديدْ
وذاك الجمالِ الذي لا يُملُّ
وتِلكَ الأغاني،وذاكَ الّنشيدْ
وهذا الظلامِ، وذاك الضياءِ
وتلكَ النّجومِ، وهذا الصَّعيدْ
لماذا نَمرُّ بوادِي الزمانِ
سِراعاً، ولكنّنا لا نَعُودْ؟
فنَشْربُ مِنْ كُلّ نَبْعٍ شراباً
ومنهُ الرفيعُ، ومنه الزَّهيدْ؟
ومنه اللذيذُ، ومنه الكريهُ،
ومنه المُشيدُ، ومنه الُمبيدْ
وَنَحْمِلُ عبْئاً مِنْ الذّكرياتِ
وتلكَ العهودَ التي لا تَعودْ
ونشهدُ أشكالَ هذي الوُجوهِ
وفيها الشَّقيُّ، وفيها السَّعيدْ
وفيها البَديعُ، وفيها الشنيعُ،
وفيها الوديعُ، وفيها العنيدْ
فيُصبحُ منها الوَليُّ، الحميمُ،
ويصبحُ منها العدوُّ، الحقُودْ
وكُلٌّ إذا ما سألْنا الحَياةَ
غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ
أتيناه من عالمٍ، لا نراه
فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقُودْ؟
وما شأنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ؟
وما شأنُ هذا الإخاءِ الوَدودْ؟
روح الفيلسوف :
خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ
وَنُصبحَ أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
وتطهرُ أرواحنا في الحياة
بنار الأسى ......
وَنَكْسَبَ من عَثَراتِ الطَّريقِ
قُوى لا تُهُدُّ بدأبِ الصّعودْ
ومجداً، يكونُ لنا في الخُلودِ
أكاليلَ من رائعاتِ الورودْ
ومر بالمقبرة سرب من الارواح, في طريقها الى العالم المجهول,
فطارت معها روح الفيلسوف, وخلفت عالم الشك والكابة لابنائه البائسين .
وظل الشاعر يردد بينه وبين نفسه :
خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ
وَنُصبحَ أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
ولكن افكاره الثائرة التي لا تهدأ, كانت لا تزال تلح عليه بالاسئلة الكثيرة المرهقة,
فقال يناجي روح الفيلسوف التي حسبها ما زالت قريبة منه :
ولكن إذا ما لَبِسنا الخلودَ
وَنِلنا كمالَ النُّفوسِ البعيدْ
فهلْ لا نَمَلُّ دوامَ البقاءِ؟
وهلْ لا نَوَدُّ كمالا جديدْ
وكَيفَ يكوننَّ هذا الكمالُ
وماذا تراهُ؟ وكَيفَ الحُدودْ
وإنّ جمالَ الكمال الطُّموحُ
وما دامَ فكراً يُرَى من بعيدْ
فما سِحْرُهُ إنْ غدا واقعاً
يُحَسُّ، وأصبحَ شيئاً شهيدْ؟
وهل ينطفي في النفوس الحنينُ
وتصبحُ أشواقُنا في خُمودْ
فلا تطمحُ النَّفْسُ فوقَ الكمالِ
وفَوْقَ الخُلودِ لِبَعْضِ المَزيدْ ؟
إذا لم يَزُلْ شوْقُها في الخلودِ
فذاكَ لعمري شقاءُ الجدودْ
وحربٌ، ضروسٌ، كما قَدْ عهدتُ
وَنَصْرٌ، وكسرٌ وهمُّ مديدْ
وإنْ زالَ عنُها فذاك الفَناءُ
وإن كانَ في عَرَضاتِ الخُلودْ
كذلك ناجى الشاعر روح الفيلسوف, ولكنها كانت إذ ذاك بعيدة عنه
في عالم بعيد لا يسمع نجواه, وكذلك ضاعت أسئلة الشاعر في
ظلمة الليل الذي لا يسمع ولا يجيب.
المفضلات