البوت والسيف في السودان ... كتاب غير مقروء ..!!
** رئيس محليتنا، قبل عقد ونيف، كان عبقريا في حل أزمات محليته.. ذات يوم - وكانت عمليات صيف العبور هي الحدث - رفعت له الأجهزة الأمنية بمحليته تقريرا معلوماته تفيد بأن المعلمين لم يصرفوا راتب شهرين، وأن فيهم من يقترح الإعتصام لحين صرف رواتبهم.. لم يكترث لذاك التقرير، ولم تزعجه تلك المعلومة، بل وجه مدير التعليم بالمحلية بتنظيم ليلة جهادية بإحدى المدارس، وأن يحرص على حشد كل المعلمين، فنفذ المدير توجيهه..نصبوا صيوان الحفل واكتمل الحشد وجاء الفنان قيقم بعد صلاة المغرب بساعة تقريبا، واستقبلوه بالهتاف والتكبير..وفجأة، لمحت رئيس محليتنا - بكامل الزي العسكري - يقف بجوار قيقم رافعا يده اليمنى ومشيرا للناس بسبابته.. وبالمناسبة، رفع السبابة في الليالي الطروبة من الألغاز التي عجزت عن فك طلاسمها، فالمعروف للناس هو أن رفع السبابة والوسطى يعني شعار( النصر أو الشهادة)، لكن رفع السبابة براها ده يعني شنو ؟؟.. المهم، رئيس محليتنا - بالزي العسكري - خاطب المعلمين الذين لم يصرفوا راتب شهرين رافعا سبابته بخطاب جاء فيه : ( اخوانكم يضحون بأنفسهم في سبيل الله بالجنوب، وأنتم تحرضون بعضكم لكنز حطام الدنيا؟، ألا تستحون ؟، ألا تتقون؟, ألا ..ألأ ..)، ثم أجهش بالبكاء، فقلدوا نحيب بنحيب ودموعه بدموع، حتى أشارأحدهم إلى قيقم بأن يبدأ الفاصل الثاني، فتحول النحيب والدموع الى تهليل وتكبير و( رقص جماعي) .. وانتهى الحفل، ولم يعتصم أي معلم من أولئك المتهمين ب(كنز حطام الدنيا) ..!!
** تلك أيام خلت بنفاقها ومنافقيها، وكنت أظنها لن تعود..ولكن ولاية الجزيرة، بفضل واليها الدباب، أعادت تلك الأيام ببعض تفاصيلها، مطلع هذا الأسبوع.. تابعت الإعلانات التي ملأت بها حكومة الجزيرة صحف الخرطوم، بحيث ظلت تبشر الناس على مدار الأسبوعين بقرب موعد إفتتاح بعض المشاريع التنموية .. وهي مشاريع تعكس - لمن تابع إعلانتها الكثيفة- من المفارقات ما تستدعي طرح سؤال من شاكلة : ( أهكذا تدار أمور الناس في ولاية الجزيرة؟) ..على سبيل المثال ( مدارس إنشائية ب" 500 مليون جنيها" .. ولكن الشرطة المجتمعية ب"850 مليون جنيها" ) .. وكذلك ( مزارع البيوت المحمية ب"1.2 مليار جنيها " .. ولكن عزة السودان ب" 5 مليار جنيها ") .. ثم ، على سبيل المثال أيضا ( مركز الأبحاث الجولوجية ب "400 مليون جنيها"..ولكن حاجة كدة اسمها برامج دعوية متنوعة بكل محلية ب"500 مليون جنيها ) .. وهكذا تكشف المشاريع جدواها وميزانياتها، بحيث التي لاتحظى بالجدوى هي تلك التي تحظى بالصرف عليها صرف من لايخشى الفقر، أما ذوات الجدوى فلا تحظى بغير ( عطية مزين )..مشروع برامج دعوية متنوعة - أم خمسمية مليون جنيه - وهو يتوسط تلك المشاريع يذكرني بالبند المسمى ب( منصرفات أخرى أو غير مرئية)، وهو البند الذي يصعب على أي مراجع مراجعة أوجه صرفه.. !!
** وهناك أيضا أشياء أخرى غريبة وطريفة بصفحة المشروعات التنموية، منها ( برنامج الراعي والرعية)، بحيث فيه يخرج المسؤول - ليلا والناس نيام - مصطحبا وفدا صحفيا ليزور بعض المساكين والفقراء، لتصدر صحف الفجر بصوره وهو يمد يد المساعدة للفقراء والمساكين، أ هكذا ينفقون بيمناهم دون أن تراهم يسراهم، فقط تراهم كل أهل الدنيا والعالمين مع ( أول الصباح) .. المهم، هذا البرنامج أصبح مشروعا تنمويا بولاية الجزيرة، حسب إعلانهم ..بل هناك مشروع تنموي آخر منشور في ذات الصفحة الاعلانية، اسمه مشروع ( كرتونة الصائم )، أي ما ينفقه ديوان الزكاة على الفقراء والمساكين في هذا الشهر الفضيل أصبح ( مشروعا تنمويا ).. سبحان الله .. ولا أدري لماذا تجاوزت عبقرية الحكومة الولائية إدارج مشاريع من شاكلة ( صلاة التراويح، زكاة الفطر، التهجد، الإفطار الجماعي)، وغيره في صفحة ( المشاريع التنموية ) ..؟؟
** على كل حال..في حفل إفتتاح تلك المشاريع وغيرها، كان والي الجزيرة يرتدي زيا قوميا كاملا ثم ( بوت عسكري)، أو هكذا رصدته الصحف بدهشة..وفي تقديري ليس في الأمر مايدهش، فالوالي الدباب كان يحرص أن يحضر جلسات مجلس الوزارء بالخرطوم بكامل الزي العسكري، و أن يتخلى عن الزي ويكتفي بالبوت فقط فهذا (تطور مذهل) يعكس بأن والي الجزيرة بدأ يتفهم قضايا أهل ولايته.. أي هم ليسوا بحاجة الي صناديق ذخيرة ولا مدافع وراجمات ليقاتلوا بها سكان الولايات المجاورة ( سنار والخرطوم والقضارف والنيل الأبيض)، ولكنهم بحاجة الى مبيدات يكافحون بها ( الملاريا والبلهارسيا)، ولذلك خاطبهم واليهم مرتديا الزي القومي.. أما ( البوت والسيف) الوارد ذكرهما في ثنايا حدث الوالي وحديث النائب ، فهو بمثابة خطاب رئيس محليتنا ذاك، أي حتى لايشغل أهل الجزيرة واليهم والحكومة الاتحادية بقضاياهم الإنصرافية الأخرى التي من شاكلة مشروع الجزيرة وغيره.. ولذلك، على الولاة وحكومتهم أن يعلموا بأن كتاب (البوت والسيف في السودان )، لم يعد مثيرا ولا مشوقا، ولو صدر في ( طبعة منقحة ) ..!!
الطاهر ساتي
المفضلات