النتائج 1 إلى 18 من 18

الموضوع: بنِادِى عليك ......

     
  1. #1
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    بنِادِى عليك ......



    بنِادِى عليك ......

    طارق جبريل قلم لا يشق له غبار .... من طراز الطيب صالح عميق يطوع الكلمات ويقهر اللغه بمفردات بسيطه لكنها معبرة ....
    ظللت اتابع ما يكتبه فى بعض المنتديات واصاب كلما قرأت له بدوخة درويش فى حلقة ذكر .... ادعوكم لقراءة بعض كتاباته ليست الاجمل ولكن الاحدث .... اتركم مع طارق جبريل ..
    .

    التعديل الأخير تم بواسطة ahmed algam ; 26-01-2013 الساعة 05:59 AM
    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  2.  
  3. #2
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    حكاية سفر ...

    حاولت أن لا اترك أي شئ دون الخوض في تفاصيله..
    مصاريف الأولاد.. حق المدارس.. حق البنزين لمدة شهر.. دفعات الانشطة الاضافية في المدرسة
    فواتير التليفون والكهرباء والمياه.. حتى «سنكرز» محمد و«شبس» ريم عملت حسابها..
    فضلت وداع أولادي في البيت مخافة أن تفضحني دموعي... لم اتعود تركهم والذهاب بعيدا إلا لـ«الشديد القوي»
    ربما هناك احساس وارتباط قوي في الغربة بالأبناء... مرده الاحساس الداخلي في أنك في لا مكان: الغربة والغموض لا غير..
    لذا أشعر أنني في أضعف حالاتي حين أعانق ريم.. منذ صغرها كانت ملتصقة بي بشكل غريب..
    لذا تفاديت هذا الألم في محطة القطار...
    كانت أسهل الصعاب الإتيان بهم إلى دار جدتهم في الرباط ومن ثم تأخذني «بت شيخي»** الى محطة القطار في الطريق إلى الخرطوم..
    محمد كعادته مارس كل الحيل الممكنة ليغنم أكبر هدية عند عودتي: بابا جيب لي معاك «psp»
    وعدته بها وأصبحت في حكم الفرض...
    ودعتهم وحتى لا تخونني الدمعات كعادتها... لم ألتفت إلى الوراء وإن كانت دموع ريم تتراءى أمامي كما اليقين..
    إمتطيت سيارتي وبقربي «بت شيخي»... تحدثنا عن تفاصيل البيت كعادتنا.. شرحت لها كل ما يشغل بالي عليهم..
    وذكرتها بتليفونات أخواني.. وكعادتها: ياخي انت ليه لمن تكون مسافر بتكون متشائم كدة.. اتوكل علي الله وامشي شوف اهلك ونحن ما بتجينا عوجة
    يا بت الناس الدنيا دي ما مضمونة.. احتياطا خلي كل التليفونات معاك..
    وصلنا المحطة.. انزلت حقيبتي.. توادعنا وكان الله حاضرا بيننا(لا إله الا الله .... محمدا رسول الله)..
    دلفت على المكتبة واشتريت بعض الجرائد وكتاب «عشت لأروي» لغارسيا ماركيز.. ثم استلمت تذكرتي المجانية التي تتيحها لي بطاقة الصحافة..
    محطة القطار في الرباط أگدال تضج بالحركة... فهي تتوسط البلاد بين الشمال والجنوب ويمر منها القطار كل نصف ساعة..
    لا أدري،، لكن اعتراني احساس غريب أن الوجوه حين تهم بالسفر يعتريها شئ من «القبور»... لا أدري إن كان ذلك مرده للوداع،
    أم لوعثاء السفر.. هناك هَمُ خفيف في تقاسيم الوجوه لا تخطئه العين.. يتراءى لك ذلك في طريقة التدخين... أو ارتشاف القهوة..
    أو توتر القراءة.. جريدة كانت أم كتاب.. على كل حال أعلنت المذيعة الداخلية عن قدوم القطار المتجه إلى المطار محمد الخامس بالدار البيضاء..
    يخرج الناس في المغرب ويدخلون إلى القطارات بسرعة كبيرة، فالخمس دقائق المتاحة للتوقف في كل محطة لا تترك لك مجالا لتجاذب أطراف الحديث..
    أو الإفطار من «الزوادة» كما يحدث في «قطر كريمة» الذي تستطيع قبل أن يغادر أن تمارس فيه حياتا عادية حتى «التجكيس» وإن كنت مودعا..
    تحرك القطار وسط زخات من المطر.. وجلست أنا متثاقلا قبالة شباك تتقاذفه حبيبات المطر..
    أتوق إلى «الهناك» لكنني بالمقابل تركت جزءا مقدرا من «دمي» هنا..
    جلست أمامي مغربية تبدو من هيئتها من مغاربة أوربا.. وهؤلاء تستطيع أن تميزهم من لبسهم وطريقة كلامهم وحتى طريقة تدخينهم...
    في العادة يتمشدقون بألبسة مهلهلة لا تساوي حتى مترا واحدا من القماش.. والتدخين بالنسبة لهم برستيج للرقي..
    وضعت كومة الجرائد أمامي.. واخترت الشرق الأوسط التي عادة ما أبدأها بزاوية سمير عطا الله فهي قادرة على تلخيص
    كل ما يدور حولك في هذا العالم الفسيح بالإضافة إلى أن للرجل أسلوب أخاذ ومريح في الكتابة...
    لذا تجدني الجريدة الوحيدة التي أقرأها من «دُبر» دون مثيلاتها..
    مررت على أخبار ليبيا والعراق وسوريا على عجل.. ليس لدي أي احساس بالانتماء لهذا العالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج
    في العادة لا أفرح لفرح هذه الأمة ولا أحزن لأتراحها أيضا.. حسمت أمري منذ زمن: أنا انتمي إلى هذا النيل «ذلك الإله الأفعى»..
    أنا كصحراء بيوضة إن اسرفت في الحياة فذلك لأن المطر مارس كرمه هناك وإن اختصرت حياتي على أن أظل حيا.. لأن الطبيعة نفسها
    تفرض قوانينها علي... وإن كانت نفس الطبيعة تهديني في مساءات الصحراء تلك نجوما وقمرا نشبه به حبيباتنا..
    أنا هو ذاك.. سعيد أقولها... لا يعنيني كيف ينظر الآخرون إلي.. إن كنت أكذوبة فهذا بحكم الدونية التي أرى بها نفسي
    لكن طالما أنا اعتز بهذا النيل وأطراف الصحراء فهذه هي حياتي التي أحب ولا أود أن أكون غير ذلك..
    انتهيت من تقليب الجرائد.. وجدت تلك المغربية تنظر إلي كما تود أن تقول شيئا..
    أومأت لها برأسي إن كانت تريد قراءة الجرائد.. قالت بفرنسية مائعة: أنا لا أقرأ العربية..
    ابتسمت في حدود كلماتها وقلت لها بفرنسية أشبه بالشايقية: أنا لا اتكلم الفرنسية فقط العربي والانجليزي..
    كان هذا إيذانا بحوار بفرنسي «مُشَيقَن» من طرفي وعربية مكسرة وفرنسية عاهرة من طرفها..
    سؤال الهوية نفسه يؤرق هذه الأمة من البحر إلى البحر.. حكت عن عنصرية اليمين الفرنسي..
    وحكيت انا عن عنصرية بني جلدتي وكيف أننا في بلد يعج بمصادر الرزق ضربنا في الأرض بحثا عن الأمان..
    قطع مذيع القطار حديثنا ذاك بقرب وصولنا إلى محطة مطار محمد الخامس..
    تمنيت لها سفرا سعيدا وتمنت لي عطلة سعيدة..
    ودخلت إلى عوالم وزن العفش وملأ استمارة المغادرة وبسمات رجال الجمارك الصفراء..
    ...........


    ـــــــــــــــــــــ
    ** بت شيخي= الجكس حقي

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  4.  
  5. #3
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    وقفت في صف وزن العفش أمامي حقيبتي.. لم يكن هناك ركاب كثر.. هذا ما ظننت..
    - سلام... لا باس.. لا باس.. رجاء وزن حقيبتي إلى الخرطوم رأسا
    - وخا آسيدي اعطيني البسبور ديالك..
    نظرت إلى مهنتي في الجواز وإلى بطاقة إقامتي وابتسمت
    لا بد أنها قالت: يبدو أن هذا القروي لا يفرق بين «موظف» في جوازه و«صحافي» في بطاقة إقامته..
    - صالة 21 وعطلة سعيدة
    - اشكر لك لطفك..
    ملأت استمارة المغادرة على عجل ودلفت إلى أول مقهى في طريقي.. لا زال أمامي متسع من الوقت...
    اتصلت على بت شيخي لأطمئن على ريم تحديدا: بكت شوية وسكتت وهسي بتلعب في «النينتندو»
    يأتيني إحساس بالأسى على هذا الجيل... بحكم طفولتي اعتقد أننا كنا نقضي أوقاتا أجمل..
    ما بين «سكج بكج» و«ألبت يا لبوت» و«حرينا» و«أول حول» كانت لنا مساحات من الفرح خارج إطار المنزل.. هذا ناهيك عن ترصد القمري والدباس وطير الجنة..
    كانت تلك الأشياء أولى خطواتنا في اختيار ما نحب..
    الآن وتيرة الحياة اختلفت لذا أصبحت جل أن لم يكن كل الألعاب منزلية.. لذا يعيش أطفال اليوم في عالم افتراضي بين جدران الشقق..
    اتصلت على شقيقي راشد بالإمارات لأتأكد من سفره غدا وأوصيه أن يجلب لي معه «psp» فلن يقبل محمد أبدا حضوري من غيرها..
    وكان ما أردت.. تسالمنا على أن نلتقي غدا في الخرطوم بحوله تعالى..
    عادة ينتابني قلق كبير حين أكون مسافرا.. حتى ولو كان السفر داخل المغرب في عطلة رفقة أطفالي..
    مسحت المطار جيئا وذهابا.. وداع هنا ودموع هناك... وفرحة هنا بقدوم الأحبة من الديار الأوربية وإشكالات هناك بسبب زيادة الوزن..
    المطار فضاء رحب للفرجة للقلقون أمثالي في السفر..
    حين تبقت نصف ساعة للمغادرة توجهت صوب الجوازات...
    نظر الضابط في جوازي مليا ثم قرأ بطاقة الإقامة وبطاقة الصحافة.. وكعادة المغاربة يخلطون خلطا كبيرا بيني وبين طلحة..
    وهذا الخلط يصب في صالحي دائما... فغالبا ما انتهي من أي إجراء إداري بسرعة فائقة بحكم معرفة المغاربة بطلحة منذ السبعينيات..
    - سي جبريل عطلة سعيدة وعندك ما ترجعش ويشدوك موالين البلاد..
    - الله يا ودي راه المغرب صافي ولى في الدم ديالنا
    - الله يحفظك آسي جبريل
    استلمت جوازي وادخلته في شنطتي الصغيرة ودلفت إلى رجال الجمارك..
    في المغرب يسمحون لك بتحويل 3000 دولار سنويا إلى جيهة تريدها.. ومع حماقات بن لادن وصحبه أصبح هناك تشددا كبيرا في هذا الأمر..
    أخرجت ورقة البنك الخاصة بالتحويلات ويدي على قلبي لأنني كنت أحمل مصاريف أحد الأخوان إلى أهله هناك..
    والمبلغ كان يفوق ما هو مسموح به.. وجدت أمامي ضابطة في الجمارك لها غمازات وشفاه مكتنزة وصدر ناهد يغري بالغواية وعيون عاهرة..
    خامرتني أن هذه مهنة لا تصلح لأمثالها.. هذا الجمال الأخاذ والطاغي لا بد له من مُحب ويحفظ في مكان قصي من الكون..
    نظرت إلى جوازي وإلى بطاقتي وباغتتني: عطلة سعيدة آسي جبريل.. مرة أخرة ينقذني طلحة من الأمر..
    حمدت الله ووصلت آخر محطة لتفتيش الركاب.. وضعت شنطتي في جهاز كشف العفش..
    وحين خرجت من البوابة الإلكترونية باغتني البوليس: انت تحمل دولارات.. لم أنطق بكلمة وتسمرت في مكاني..
    صديقي أهله في أمس الحوجة للمصاريف التي أحملها معي وهذا يعني إما ان اتنازل عن المبلغ أو أعود أدراجي..
    ومرة أخرى يأتي ضابط من خلفي: هادا راه سي جبريل ديالنا.. هادا راه الغزال ديال السودان في المغرب..
    حمدت الله كثيرا وتنفست الصعداء..
    وروحت ازرع صالات السوق الحر جيئة وذهابا..
    حين أعلن عن قيام الرحلة المتجهة إلى القاهرة.. وجدت كما كبيرا من الركاب كانوا في صالة الترانزيت..
    فلبينيين وجنوب أفريقيين وآخرون من زامبيا وهنود وكينيين.. أمم متحدة مصغرة..
    توكلنا على الله ودخلنا إلى الطائرة.. ذلك التابوت الطائر..
    ....

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  6.  
  7. #4
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243



    للقصة بقية ......

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  8.  
  9. #5
    عضو مجتهد
    Array الصورة الرمزية طارق جبريل
    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المشاركات
    101

    إنا لله ياخي
    يا زولة مالك علي
    ههههههههههههه

  10.  
  11. #6
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق جبريل مشاهدة المشاركة
    إنا لله ياخي
    يا زولة مالك علي
    ههههههههههههه
    والقبيل راجنو نحنا
    يوم تبشر بيهو غيمة
    لما تمطر يوم علينا
    الفرح يملأ المدينة


    حباب طارق .... وعشرات حبابك .... البيت بيتك ... لا تحرمنا من معانقة حروفك ....
    تحياتى ....

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  12.  
  13. #7
    اللجنة الاستشارية
    Array
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    الدرجة الأولي
    المشاركات
    3,426

    شكراً ساريه إن جلبت هذا الجمال الينا ..

    لا تقف كثيرا عند أخطــــــاء ماضيك ..
    لأنها ستحيل حاضرك جحيمــا ومستقبلك حطامــا ..
    يكفيك منها وقفة اعتبـــار تعطيك دفعة جديــدة
    في طريــــق الحق والصواب ..
  14.  
  15. #8
    المشرف العام والمدير الفني
    Array الصورة الرمزية ahmed algam
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    ودمدني- القسم الاول
    المشاركات
    40,843



    اهلا بالمبدع الاستاذ

    طارق جبريل


    شكرا سارية

    التعديل الأخير تم بواسطة ahmed algam ; 26-01-2013 الساعة 07:59 AM
  16.  
  17. #9
    عضو فضي
    Array الصورة الرمزية ودالعمدة
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    من أرض المحنة
    المشاركات
    2,252

    الغالى ود جبرين
    صاحب الكلمة البسيطة والمعانى العميقة
    سيد المحنة ........حروفك بترقدنا كاويق
    شكراً جميلاً ياسر وسارية لهذا القاموس المحيط

    و انتمى إليكَ ......
    ياوطناً تفردَ بالجمالِ وبالبهاء
    ياأرضَ مهيرة وبنونة ......
    ياديوانَ الرجالِ وبيتَ العوينِ ....
    يامرتعَ الأطفالِ عندَ الرواكيبِ مساء
  18.  
  19. #10
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    ساريه
    لك الشكر على النقل الجميل
    فطارق قامة تنحنى الحروف امامه
    ننتظر ايام المخاض ليجود علينا بإبداعاته

  20.  
  21. #11
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    شكراً ساريه علي هذا النقل المترف ..سبق لي الإطلاع علي النص في ملتقي رابطة الواحة الثقافية علي ما أذكر ..شكراً مرة أخري .

  22.  
  23. #12
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    روح الطيب صالح واسلوبه حاضران بالنص بقوة
    نص جميل

  24.  
  25. #13
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243


    الشكر لكل المتداحلين فى هذا البوست ....... ساتابع نقل ...


    حكاية سفر ..

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  26.  
  27. #14
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243


    ( 3 )

    بسملت ثم دلفت إلى داخل الطائرة (الخطوط المصرية)..
    يأتيني إحساس قوي أن المضيفات يُجبرن على تلك الإبتسامة الصفراء التي يبدينها حين تطأ قدماك داخل الطائرة..
    بل يُرغمن على بهرجة وجوههن بجميع ألوان الطيف.. كأنما هذا الراكب جاء إلى ماخور للعهر واللذة..
    ومن واجبات الضيافة أن يجعلونه يحس بأنه أبو زيد الهلالي..
    خطواتي الأولى داخل الطائرة غالبا ما تكون متوترة إلى أبعد الحدود..
    من ضمن أسباب قلقي أثناء السفر... هذا التابوت الطائر..
    حتى أنني على قناعة تامة أن أسوأ اختراع للبشرية هو هذه الطائرة.. ولا أنسى الهاتف المحمول..
    بحثت عن مقعدي بين القوم.. وجدت أنني فوق الجناح مباشرة.. وهذا في حد ذاته زاد الأمر سوءا..
    وضعت شنطتي فوق الرف الذي فوقي وأخرجت «عشت لأروي» ووضعته أمامي..
    وبدأت عيناي تتفحص القوم.. حيث كانت الطائرة عبارة عن أمم متحدة مصغرة...
    الأفارقة في العادة لا يكترثون لمحيطهم.. يتحدثون ويقهقهون ويتلون صلواتهم بصوت مرتفع..
    أمامي مباشرة كينيان يحسبان أنهما يلقطان وهما يكادان يتصارعان بألسنتهما وقهقهاتهما السمجة..
    لذا خامرتني فكرة أن حيواتهم كلها في الجهر لذا هم غير قادرين على العيش في سلام.. وغير قادرين على «قضاء حوائجهم بالكتمان»..
    أنزل الكابتن تلفزيونات الطائرة كـ«سبائط التمر قبل الحصاد».. وبدأ دعاء السفر «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين»..
    في هذه اللحظة بالذات أحس أن منتصف بطني يكاد يفارق جسدي.. ويبدأ جسمي في التعرق..
    وحين تبدأ إجراءات السلامة.. لو أن أحدا قذف بي خارج الطائرة لما اكترثت للأمر..
    وعندما تتحرك الطائرة ببطء نحو مدرج الإقلاع يأتيني شريط حياتي من مهدها حتى لحظة دخولي هذا «القبر الجوي»...
    وهذا يحيلني إلى أن العمر كله لا يعدو أن يكون لحظة.. وها أنا ذا أشاهد تلك اللحظة في دقائق معدودة..
    تجدني أحرك ركبتي وقدمي بشكل متوتر.. ودون وعي مني أمسك في الكرسي الذي أمامي ثم أتركه دون سبب واضح..
    القرآن في هذه الحالات يكون بلسما وجرعة مهدئة لأبعد الحدود..
    حين تتوسط الطائرة مدرج الإقلاع كسفينة في ممر مائي.. حينها فقط استسلم وأيقن نفسي أن لا مفر..
    يأتيني صوتها وهي تمخر عباب المدرج من عالم آخر.. ثم اتجه إلى الشباك مودعا الأرض..
    الأرض التي لعبت ولهوت وأحببت وكذبت وصدقت وتسكعت وناجيت وتألمت وسهرت وفرحت وحزنت على سطحها..
    الحكمة البسيطة حينها: أنا لله ما أعطى ولله ما أخذ.. نخلة نبتت وترعرعت ثم أثمرت وكبرت ولم تعد قادرة على العطاء..
    هذا هو ملخص الحياة بكل عنفوانها وصخبها..
    تتسمر عيناي على علامة ربط الأحزمة.. حتى تستقيم الطائرة في هذا الفراغ اللا منتهي.. وحين تنطفئ تلك العلامة..
    أحس أنني بعثت من جديد.. حينها فقط أستطيع التعرف على جاري عن قرب.. وخلق تواصل مع محيط الطائرة..
    فتحت «عشت لأروي» وفي ذاكرتي «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» و«الجنرال في متاهاته»..
    ماركيز له مقدرة عالية جدا على إلتقاط التفاصيل الدقيقة التي لا نكترث لها.. ربما هذا واحد من عظمة كتاباته..
    له ملكة غريبة في تخزين التفاصيل وتفاصيل التفاصيل..
    قلت في نفسي: لا شئ سينجيني من هذه الخمس ساعات وسط السحاب وأزيز محركات الطائرة سوى ماركيز..
    .............

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  28.  
  29. #15
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    (4)

    يأخذك ماركيز بعيدا.. إلى عوالم أمريكا اللاتينية،،
    الحياة هناك لها صخبا مختلفا وأجواء استوائية مدهشة..
    ينقل لك مجتمع تلك البقاع بصورة ثلاثية الأبعاد..
    عاش ضنكا لا يُضاهى في بداياته.. لكن هذا الضنك دفعه للإبداع..
    لا أدري أين يكمن السر.. الكثير من الإبداع ولد في بيئة العدم..
    موسيقى الجاز في أمريكا ولدت على أنات عبيد المزارع وحزنهم على فراق أرض أجدادهم..
    نجيب محفوظ نقل لنا كما هائلا من حكايات الشوارع الخلفية للقاهرة..
    أغاني الطمبور الخالدة وأشعارها وروايات شيخ الطيب صالح أتتنا من قرى معدمة «عند منحنى النيل»..
    يخامرني إساس قوي أن الإبداع يأتي تعويضا عن الحرمان والفاقة..
    أفكار تأتيني هكذا دون دليل واضح..
    بدأت المضيفات في توزيع السماعات لمن يود الاسترخاء بالقرآن أو بصوت «الست»
    أو لمتابعة أحد الأفلام العربية..
    وضعت السماعة جانبا وأغمضت عيني لبرهة.. متى ما كنت على متن طائرة
    يأتيني طيف أمي.. لها الرحمة والمغفرة.. حين أنظر إلى طفلتي ريم وهي تلعب
    يتراءى لي طيف أمي في ملامحها.. كانت إمرأة صبورة جدا جدا..
    كانت تقول أن رهانها وسط «عائلة ممتدة» أن يتعلم أبناءها..
    كانت مستعدة لحفر الصخر من أجل هذا الهدف وانتزاعه من براثن الفقر..
    بمقاييسي أنا نجحت إلى حد كبير في الرهان ولله الحمد..
    تذكرت سجالاتنا وأنا آخر أطفالها «الحتالة».. عند دخولي مرحلة الثانوي..
    وجدتني وحيدا معها.. بقية أخواني غادروا إلى المهاجر وأخواتي تزوجن..
    كنت سعيدا أنني أصبحت محور اهتمامها.. حين إضطرتني الظروف للدراسة
    في مصر.. كان فراقنا صعبا ومؤلما معا.. كانت تأتيني لحظات في الهزيع
    الأخير من الليل اتذكرها لأجد دمعة طفرت مني.. لكنني أعود واتذكر كلماتها:
    ذاكر كويس وانجح ان بقيت داير رضاي.. وان احتجت لي شي اكتبلي جواب..
    اتذكر انني في سنتي الأولى استلمت 189 خطابا..
    اتذكرها الآن وانا في طريقي إلى الخرطوم.. كانت دائما تنتظر حضوري
    من المطار في الدرابزين.. حين احضنها احس بطمأنينة غريبة.. كانت رائحتها خليطا
    من النيل والنخيل والأرض التي سقيت لتوها...
    مرات عديدة وأنا معها أجدني أتأمل شلوخها..
    كانوا يكنونها بـ«عشة الشايقية» في الامتداد... حين اتذكر تلك اللقاءات
    يعتريني الكثير من الألم.. لذا أول ما أفعله حين تطأ قدماي الخرطوم أذهب لزيارتها
    والترحم على قبرها ومن ثم أذهب إلى بيتنا في الامتداد..
    كانت أمتع لحظات حياتي حين أجلس في «بنبر» معها في المطبخ..
    تنحنح الرجل الذي يجلس بجواري بصورة قطعت علي تأملاتي تلك..
    اعتذر الرجل بلباقة.. وكانت هذه بداية لـ«ونسة» بين طيات السحاب..
    عرفت أنه من زامبيا جاء لمؤتمر عن الاستعمال المدني للطاقة النووية..
    المشاكل ذاتها تتكرر في أفريقيا.. كأننا ننقل تجاربنا المريرة بالحرف..
    دكتاتور يأتي بخطاب رنان عن إنقاذ البلاد وحين يتمكن رائحة فساده والمحيطون به
    تذكم الأنوف.. كان هو الآخر حزينا لما يحدث في بلاده..
    قطعت علينا إحدى المضيفات حديثنا بوجبة الغداء: فراخ ولا لحمة
    - أنا صائم اليوم عرفة
    - يا فاتن سجلي عندك هنا برضو راكب صائم
    - شكرا
    - لم يحين وقت الفطار حا اجيبلك الفطار يا فندم
    - شكرا
    اضطررت أن اشرح لذلك الزامبي أننا نصوم يوم عرفة ايمانا واحتسابا..
    قادنا النقاش إلى بن لادن والقاعدة... وجدت نفسي مضطرا للدفاع عن الإسلام
    رغما عني ولعنت القاعدة ألف مرة...
    هناك تنميط غريب في العالم عن الإسلام.. وآلة الإعلام المضادة تبذل جهدا كبيرا
    لتشويه صورة هذا الدين.. والمتطرفون منا يساعدون كثيرا في ذلك..
    - اقتربنا من مطار القاهرة ارجو الرجوع الى أماكنكم وربط الأحزمة
    تلك كانت كلمات كابتن الطائرة..
    وهذا كان إيذانا أن أعود إلى حالة الهوس تلك..
    نزلت الطائرة بسلام في مطار القاهرة..
    ونزلت أنا أتصبب عرقا كالعادة وأحمل هما جديدا بالصعود إلى طائرة أخرى تقودني إلى الخرطوم..
    .....

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  30.  
  31. #16
    عضو مجتهد
    Array الصورة الرمزية طارق جبريل
    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المشاركات
    101

    على سبيل التحية

  32.  
  33. #17
    سكرتير مجلس الادارة
    Array الصورة الرمزية ساريه
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مدينة الجمال مدنى
    المشاركات
    2,243

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق جبريل مشاهدة المشاركة
    على سبيل التحية

    التحية ما بنباها .....
    لكن ما تجينا يدك فاضيه ...
    دا على سبيل العشم ...

    هذا هو النسيان ..أن تتذكر الماضى ولا تتذكر الحكاية ......
  34.  
  35. #18
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    وكلنا عشم وامل

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid