ود مدني .. التي أحببت ..
كما الناس، كذلك المواضع والمدن تُعشَق أو لا .. هنا لاتوجد حلولاً بين .. بين
والصبح يرسل في دعة وتكاسل نسماته، تمطت الإجساد ونفضت عنها ثقل ليلة مضت. هي أخر الليالي في جوف البيت العتيق الذي شبت جدرانه الطينية على لهونا وشقوة الصغر، تماماً كما الفت طيوف الكبار في غدواتهم ورواحهم.
وحش من وحوش الزمن الجديد يزأر منتهكاً ساحته البكر التي ما عرفت سوى دبيب أرجلنا الحافية أو بعض حوافر عابرة.
رويداً رويدا تكاملت الجموع وارتفع النشيج وفاضت المأقي بدموع الوداع ..
ما عناني في كل ذلك سوى الجدار الذي انتصب أمام ناظري .. كيف لي صعوده.
طفل ماتجاوز عامه الرابع ماعلمت أين سأكون حتى امتدت سواعد قوية وارتفع الجسم النحيل في الهواء مستقراً على ظهر الوحش الذي ما أجهده زئيره المتصل ومانال منه الوقوف الطويل ولا ما احتمل ظهره من متاع.
رحلة امتدت وما انفتح الذهن على معنى الزمن وايقاعه بعد، هي صور عابرة عن معالم الطريق ترفع غلالة الإندهاش وتدغدغ مكامن التطلع نحو المعرفة ..
ما الجديد الذي ينتظر ..
أشعة شمس الظهيرة نسجت حول العيون غلالة تنسرب بين خيوطها في ومضات متتالية سريعة، مناظر تبدو مألوفة، وأخرى ما وعاها الفؤاد في سابق ما رأى.
وصل الوحش منتهاه، وصمت عن الزئير، بدأ همساً، ثم تعالت الأصوات ممن جاورني في هذه الرحلة من الأخوال والخالات يستحثون الصغار مثلي استعداداً للمغادرة.
أرجعت البصر كرتين من حيث كنت في تلك الكومة على ظهر الوحش أتفحص المكان الذي بدأ مكسواً بأشكال والوان مختلفة فالمنازل متراصة ومرتبة خلاف الحال بالقرية والطرق بينها سالكة.
الطريق الذي انتحي جانبه الوحش، سجل إحداثياته في الذاكرة البكر بهيئته الغريبة وقد اكتسى بلون أسود وامتد أمام ناظري كبساط يتلاشى في الأفق البعيد تحتضنه البنايات الملونة الأنيقة في جوفها كلما أسرف بعداً.
غير أنه بالقرب كان يموج بالحركة فتمر مركبات صغيرة بين الفينة والأخرى مسرعة يطردها طالب لا أراه.
تلك كانت أولى لحظات اللقاء الذي امتد عقوداً منذ مطلع ستينات القرن الماضي مع مدينة ودمدني التي انتقلت اليها معية جدتي وخوؤلتي في مرفئهم الجديد ..
ورسمت سقان دقيقتان أول لقاء مع المدينة ودروبها، وتمطى الجسد النحيل الذي أنهكه طول السفر، وملأ رئتيه بهوائها المنعش ساعة عصر هالك، والشمس تلملم خيوطها، وقد انفض السامر عن سوق نهار آخر من أيامها..
المنزل الجديد يفتح يديه مرحباً بلون أزرق فاتح غشى مدخله الحديدي ، تلك كانت أول التجارب المرئية، فهناك من حيث جاء الوفد لاتحمي البيوت حرمها بهذه الصرامة البادية على محياه، الا من باب عملاق من الخشب العتيق يشمل الحوش كله .. فما الذي يخبىء المنزل لسادته الجدد ياترى ..
حتى الأرضية في فنائه لاتشبه تلك بالقرية بترابها الوافر الذي كم عفر الوجوه الصغيرة اللاهية وتسلق الأرجل حتى بلغ أعلاها حذاء الركب، كان يكتسي طبقة من الأجر الأحمر، ما تركت مرتعاً للهو المتحرر من كل قيد، رغم جمالها البادئ للعيان .
. تلك كانت الدهشة الثانية ..
تكامل الرهط في جوف البيت، تعلو الوجوه سيماء الفرح، بعضها، .. وبعضها الرضاء بنعمة الوصول السالم بعد جهد السفر الطويل ..
أشاعت جدة الحدث وغرابة الحال النشاط في نفوس الصغار، فأطلقوا لأنفسهم العنان بين دروبه وغرفه يستكشفون تتعالى ضحكاتهم بين الفينة والأخرى لا تقطعها الأ دهشة اكتشاف جديد ..
غرف متصلة، واسطة العقد منها، للغرابة بمدخلين، تلج الجوف من أحدهما فيستقبلك الآخر المحدق في وجهه ليسلمك لساحة ذات فناء صغير ..
ما أنقضت دقائق قليلة حتى كان الصغار قد نقبوا زوايا البيت جميعاً ووطئت أقدامهم المتعبة جل أكنافه ..
صاح أحد الصغار وهو يعبث بمفتاح التصق بالجدار لينطلق شعاع وضوء ساطع من زجاجة مستديرة علقت بالسقف ثم يختفي ..
أتى الصوت قوياً وحاسماً .. ((يا ولد أنزل تحت ، أبعد إيدك من هناك)) إياك .. إياك والعبث بهذا المفتاح مرة أخرى أو الإقتراب منه ..
ظل ذاك الأمر والتحذير سارياً مفعوله منذ لحظة صدوره فأكتفينا بمتابعة النتائج .. والتلذذ بدهشة النظر لهذه الزجاجة كلما أضاءت أو أخفت سرها ..
تلك الدهشة الثالثة، وأول لقاء مع ساحرة الزمن الجديد .. الكهرباء
انقضت الأيام الأول بالمنزل الجديد ترتيباً وتجهيزاً ما كان لنا فيه من سهم ولا اهتمام حتى لحظناه ماثلا ..
كانت النفس المتشوفة تتوق لسبر مديات أكبر خلف الأفناء المحدودة، عدواً في الشوارع والأزقة القريبة مع الأتراب كما كان الحال بالقرية، سلسلة ممتدة من الرغبات الجامحة لكشف أستار المدينة الجديدة، تجالد كوابح الخوف والممانعة، الطريق المكتسي بالسواد المائج بالحركة هنا، يدعو بغرابته للسير حتى منتهاه حيث ينام بأحضان البنايات الملونة البعيدة .. ترى ماذا تخزن داخلها صنواً للطريق .. !؟
غير أن سيف المنع كان مسلطاً ..
المدينة غريبة، وطرقها كثيرة، متسعة الأرجاء، وكذا الجوار، التخويف من أن يتخطفك الغرباء سيفٌ لم يكن به حاجة لمغادرة غمده كثيراً، لكبح تطلعاتنا الجموح ومحاولة الإفلات والتهويم خارج أسوار المنزل وطوقه الحديدي ..
ورويداً بدأت تنمو إلفة مع المكان، فطفقنا نمارس نشاط الصغار المعتاد ببطن الدار وما توفر لنا من مساحات وأفناء قانعين به، نتحين الفرص لمعاينة مباهج الخارج التي وعدنا بها مراراً، فصبرٌ نمني به النفس حتى حين ..
الإقامة الجبرية بالمنزل لم تكن كلها سيئة، فقد اتاحت لنا التعرف على الزوار من الجيران ومتسقطي الأخبار ( الشمارات) عن القادمين الجدد ..
سلام ناس البيت .. كيف حالكم .. كيف قيلتو .. سلامة الوصول ..
معزوفة باتت تطرق أذاننا كلما حل زائر أو .. زائرة ..
تلك كانت متعتنا في التسابق نحو الباب لاستقباله ..
النساء كن العنصر الطاغي من جملة الزوار ..
بانوراما الجوار شملت العديدات ..
التايه امرأة فارعة بجسد ممشوق، باسمة الثغر دائماً بشوشة، عندما تضحك تتغضن الشلوخ في وجهها الصغير .. أقرب الجيران وأكثرهم اهتماماً وحرصاً على التواصل .. تراها دائما تمد يدها بشيء عبر الجدار الفاصل ..
حاجة عزيزة .. رأيتها مرة أو مرتين جسيمة حمراء اللون ولكنها كسائر نساء ذاك الزمن تزين وجهها بالفصود وفمها باللون النيلي .. وبضع خطوط مستدقة منه على رسغ اليدين من الداخل .. كان ذاك يثير رغبتي في معرفة كنهه .. ولكن هيهات .. يحرم الجلوس أو التلصص على مايدور في مجالس الزوار من النساء ..
عشة بت رجب .. قصيرة .. دقيقة الملامح .. ببشرة سوداء لامعة .. بشوشة يفتر ثغرها عن عقد منضد ..فاقع لونه يسر الناظرين ..
القائمة تطول ..
لم تقتصر الوفود على النساء فقط، فمن الرجال جاء أصحاب السوق حيث يعمل جدي ..
حسب النبي رجل طويل خفيف اللحم تكاد تلمس العظام تحت الجلد، يتحدث بصوت خفيض وهو ينظر اليك بعينيه الواسعتين .. قد نام خطان متعامدان على صفحتي ذاك الوجه النحيل حتى أشفقت عليه ..
ودبساطي مربوع القامة ممتليء الجسم ما أنفك يبرم شاربه المفتول الذي تجاوز حد الأذنين .. يضحك وهو يردد .. والله ياود العطايا كان شفتا ..
عمك محمد الحسن جواري مالك البيت، رجل ضخم داكن اللون يتهادي في سكون كطيف .. لا تلمحه بقفطانه السكري المقلم بالأسود حتى يرفع بالتحية صوت العالي الرخيم ..
رغم هذه البانوراما اليومية المتجددة .. كنا نتحرق لزيارة العالم خارج البيت .. فأبى الخارج الا أن يأتينا أولاً ..
الوفود مازالت تترى للتحية والسلام ..
(ليلة المولد .. ياسر الليالي ..)*
سرٌ كما هو دوماً مولد الأنبياء .. إيذاناً بعتق الإنسانية من قيدها ..
للترقي في دروب العلم ومسالكه ..
السمو والتعالي على صغائر النفس والرغائب ..
تذوق لذائذ المعرفة بموجدها وفاطرها ..
كانت ذكرى مولد المصطفى نعمة السماء و موعدنا ..
الإنعتاق من جدر البيت .. لرحاب المدينة الفسيحة .. وألقها ..
(وهنا حلقة شيخ يرجحن .. يضرب النوبة .. )*
ويضرب قيد الباب لننطلق ..
عالم جديد وصلناه .. قفزاً فوق غرائب الطريق .. ورغائبه ..
ميدان المولد .. في حي بانت .. يعج بأصناف البشر والدواب والمركبات ..
تزاحمت أشياؤه وأختلطت ألوانه المتعددة .. بأصوات الباعة والمنشدين ..
هنا تبرجت المدينة عن بكرة أبيها .. وتزيت بالطلاقة والبهجة ..
أبرزت مكنون فتنتها .. وجمالها ..
حتى زجاجات الكهرباء التي عرفناها بيضاء ساطعة ..
تفننت في التجمل .. اكتست على غير ما ألفيناها ... الواناً زاهيةً ..
وتمددت في أرجاء المكان دون قيد أو رقيب ..
تلقي زينتها فتنة للناظر عند كل زاوية ومنعطف ..
وازدحم الأفق بأشياء أخر .. كثر تأخذ الألباب ..
تسحر الناظر .. بجدتها وغرابتها ..
فما تقع عينك على مستجد وطريف .. حتى تفجأوك الساحة مع اتساعها .. بغريبة تأخذ لبك وتحبس أنفاسك حتى حين ..
و حتى حين ..
و .. ولجنا عالم الجمال المائج ببهرجه .. وصخبه ..
تسبق الأشواق خطانا الصغيرة المتلهفة ..
وقد علت الوجوه دهشة تخالط فرحة اللقاء الأول ..
أيدي الكبار حول الأرساغ .. محكمة القبضة ..
التحذيرات تترى خوف الانفلات .. ثم التيه في هذا البحر الزخار ..
هكذا الحياة .. لكل بهجة فيها .. نقيض .. يذكرك أن الجنة ليست هنا ..
هي ساحة .. استطال ضلعاها قسمةً .. بين مظاهر الدين والدنيا ..
قامت على أحدها سرادقات ازدانت بأعلام المشايخ والطرق الصوفية ..
تعلن كل عن الطريقة والمنهج بالرايات والطبول الهادرة وأصوات المادحين ..
تراهم حِلَقٌ حولها .. يستمعون .. ويرقصون على وقع الطبول الداوية ..
و.. يتمايلون مع عذب الإنشاد حينا ..
فالشاذلية والختمية والسمانية والمكاشفية والقادرية .. و ..
وما قد يخطر ببالك من أسماء وطرق ..
حتى الحكومة تسربلت بمظهر الدين فلها رايات وسرادق هو الأكبر ..
ما أنفك المولد يسعد لحظاتنا بالجديد
فلمسيد ود مدني السني .. يوم .. وحول قبة سعدابي يوم آخر
حول ضريح ودكنان يحتفلون بالمولد .. كما تهدر نوبات ود شاطوط ..
الحواصل مترعة بحلوى المولد .. حتى زفرات أنفاسنا تفوح بها ..
ويوم الزينة .. الختمة الكبرى .. وموسيقى عمك كودي ..
المارشات العسكرية تصدح من أبواق فرقته .. يديرها بانضباط
ويوم كأنه يوم الحشر ..
ثم انقضت أيام المولد
وأنقضت معه أيام الطفولة الباكرة .. وانفتحت الحدود ..
سنكات - جبرونا - السوق وبالعكس .. ديباجة الطريق المكتسي سواداً ..
الم أقل أنه انعتاق .. تجاوز كل ما حلمنا به ..
الضرورات تبيح المحظورات ..
كل الكبار في اشتغالهم بالأرزاق ..
صغائر الأمور المستعجلة والملحة تحتاج من يقوم بها
من غير الصغار .. للمهمات الصغار .. الدكان وأرففه المكدسة ..
وسعت أقدامنا بين البيت والشارع الذي ألفنا .. وألفناه ..
ود أزرق حي قديم وعريق ومعالم على الطريق تقودنا..
خور ود قيحة .. ودكانه .. نادي النور الثقافي قبالة البيت وله قصص ..
ونادي علم الوطن في ذات الشارع غير بعيد .. وتنافس ..
الطابونة .. عمك باشميل .. وسندوتشات المساء ..
حاجة ستنا ست الكنافة .. مودة دامت طويلا ..
واتسعت دائرة الضوء والإكتشاف رويداً .. رويدا
شبت الأعواد والقامات عن الطوق قليلاً
وأنشد وتر العضد الصغير شيئاً ..
الهمم عالية تغيث المحتاج في حزتها ..
الضرورات تبيح المحظورات ..
وتتجاوز السفارات الخاطفة لدكان ودقيحة ..
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ..
أن للحادي ترك الحبل على الغارب
العين مغمضة والقلب حاضر .. يقظان
حملت الصناقير تبادلاً .. صفيحة ممتلئة بالعيش ..
وطاحونة سوق أم سويقو عند حافة النهر الخطر ..
ولابد من الطحين .. وإن بعدت الشقة ..
اليس بالعيش يحيا الإنسان ..
الطريق يُطوى هوناً تحت أقدام تسعى عجلة ..
التحذير لن يجدي هنا ..
((قدامكم ووراكم .. يحفظكم ويغتي عليكم ..))
((من الطريق .. ومن الشديد .. ومن البعيق))
تتابع الدعوات من الجدة ..
((بجاه النبي وآل بيتو .. بالكُمل الصلاح .. أهل البنية ..))
النجاحات حِلقٌ تمسك برقاب بعضها ..
تغري بالمزيد .. مشاوير .. تترى
والضرورات دوماً تبيح المحظورات ..
تلك تعويذتي .. صارت ..
ومفتاح .. الخروج ..
الى السوق الكبير حيث يعمل الجد والأخوال ..
سنكات جبرونا - السوق وبالعكس ..
ديباجة الطريق المتسربل بالسواد ..
أخيراً سنمتطي صهوته ..
ركوبتنا .. حافلات ذاك الزمن .. وحوش متأنقة ..
حتى منتهاه .. والبنايات الملونة تفسح الطريق ..
كل ضحى .. أنا ورفيق الدرب ..
خالي الصغير مثلي ..
نحمل زاد البيت ..
لقيمات يصلبن العود .. يقمن الأود
لحين أن تضع الشمس أوزارها ..
وقت الهجعة والرجوع ..
هذه محطة (الحَجَر) .. في الذاكرة راسخة ..
منها البدء .. واليها .. منتهى المشوار
وكر السبحة .. خور أبشنب .. والحطابة ..
مدرسة البندر يميناً .. غير بعيد
بناية أنيقة شقت عنان السماء
تزيى جيدها بأجراس ضخام ..
الكنيسة .. بيت النصارى ..
والمحظور .. والمحاذير ..
أستغفر الله العظيم ..
حتى النظر اليها .. حرام
فهيهات الإقتراب ..
فاتنة .. ومن العين يبدأ الفضول ..
الوحش الأنيق يتهادى في دلال ..
نحو غايته .. وسط المدينة وقلبها النابض ..
أحب من كل شيء قلبه ..
كيف قلبك .. يامدينة ..
مامون محمد الطيب
المفضلات