الزمان : فى منتصف الثمانينات
المكان : السوق الشعبى الخرطوم
كانت الدنيا قبايل عيد والزحمة على شباك التذاكر على أشدّها ، والصف حدّو حسن ، فيه كهول وصبية صغار ، رجال ونساء ، جاء بص فكتورى وابتدأ الشباك فى توزيع التذاكر ، لمحت من على البعد شاب مربوع القامة مفتول الشوارب يحمل بيده البطاقة الدولية للطالب ( International Student Card ) على زعم أنه من القوّات النظامية التى لا أعلم سر تمييزها على جموع المواطنين ، وقد عمد ذاك الشاب إلى استغلال جهل موظف التذاكر باللغة الإنجليزية ، إنبريت من الصف وانتهرته أن عد للصف ولاتحاول التذاكى بهذه البطاقة الطلابية ، بإنبهاط جرجر أذياله وعاد لنهاية الصف.
مسلك هذا الشاب استفزنى من عدة نواحى وكانت له الكثير من الدلالات ، التوقيت كان عقب الإنتفاضة حيث تصبو النفس لأن تعود الأمور لنصابها وينال هذا الشعب الصابر حقوقه السليبة ، فكيف لهذا الفتى مفتول الذراع وهو فى كامل أبهته وصحته ( ربنا خد منو كل حاجة واداهو الصحّة ) ، كيف له أن يرتضى لنفسه أن ينال مقعداً وثيراً فى البص على حساب الكهول والنساء ؟ هل هذا جزاء أهلنا الصابرين الذين اقتطعوا من لقمة عيشهم فى سبيل تعليمنا لننهض بالبلد وبأحوالهم البائسة ؟ أهكذا يتنكر المثقون والمستنيرون لهذا الشعب الذى كابد فى سبيل ابتعاثهم لنيل الدرجات العليا ، أهكذا تسرق أمانى هذا الشعب ويخيب ظنه فى متعلميه ومسئوليه ، كنت أتوهم أنه بعد الإنتفاضة سينصلح الحال ، وان لاعودة لحملة شهادة الدكتوراه ممن باعوا النفط فى عرض البحر وذهب المقابل لحساباتهم بالخارج ، ولاعودة لمن بايع الراحل نميرى خليفةً على المسلمين ، مسلك هذا الشاب صادر منّى حتى الأمنيات.
توقف البص بالكاملين لتناول الغداء ، كعادتى فى الأسفار أكتفى بالشاى إمعاناً فى النزعة البرمكية ، جاءنى صوت ذاك الشاب الإنتهازى ممازحاً :
يا أب شنب ياخى كنتا عاوز تضيّعنا
هكذا قالها بكل البرود واطمئنان النفس ، كانت لدىّ أمنية أن يثوب لرشده ويندم على هذا المسلك القبيح ، ما أزعجنى واحزننى أن كل ماحدث لم يكن يعدل لديه سوى مزحة وخشية على النفس لا منها ، أصابنى الغثيان ورمقته بنظرة لم يملك امامها سوى الإشاحة بوجهه والتظاهر بالإنشغال.
مضى على هذه الحادثة قرابة الثلاثون عاماً ، لازلت أشعر بالإحتقار لذلك الشخص ولازالت أوصالى ترتجف من الغضب ولازلت أنعى شعباً تتقاصر قامات بنيه ومثقفيه عن حميد الصفات وحسن الخلق.
المفضلات