مأساة أعمى و أصم ، و بينهما كسيح!!!
في ساعة متأخرة من ليلة باردة ظلماء،خرج أعمي يشق سكون العتمة بعصا خيزران،ليلتقي قدراً، بمجهولين اثنين ، ودخل الكل في حوار صامت بين طرشان وعميان :
الأعمى: ترى إلى أين تقودني ساقاي في جنح الظلام ، ومن يؤنس وحشتي في هذا الطريق ، وإذاسألني سائل عن وجهتي، ماذا تراني قائل له وأنا سائر على غير هدى ، وفي أثناء بحثه عن إجابة افتراضية، نظر إلى حيث صاحبيه و ابتسم ابتسامة خاطفة و بادر بالتحية : مساء الخير، يا جماعة الخير، يا اللي هناك!.
أردفها مراراً لاعتقاد منه أن صوته لم يعانق أذني محدثيه، ولكن هيهات، فلا حياة لمن يناغم.
كان أحد صاحبيه كسيحاً، و قد آثر السكون ( لعله لشيء في نفس يعقوب)، و هو محمول على كتفي أخرس، ظل هو الآخر صامتاً بطبيعة الحال، لم يشأ ليبادله فاتحة الكلام ، فلم يرد عليه التحية لا بمثلها و لا حتى بأسوأ منها. ثم ذهب الأعمى كعادته وراء سواد أفكاره و بعض سوء ظنه، و بدأ يمارس حقه في اطلاق جحافل أسئلة على عواهنها في جوف فراغ مظلم.
لماذابقي هؤلاء صامتين ؟! لا بد أنني معروف لدى الكل من ذي قبل، و صار حديثي ممجوجاً من أول وهلة! و لكن كلا، فلو كان الأمر كذلك لما تطوّع أحد في كل مرة للأخذ بيدي لقطع إشارات المرور . طيب ، إذن، لماذا بقي الصمت مطبقاً هكذا ، كما لو كنا في القبور؟!
عيناه المنطفئتان تحملقان من خلف نظارة سوداء تكاد مع لحيته الكثة تطمسان ملامح وجهه المتحفز دوماً لقتال. بعد مرور لحظات كماالدهر و لازال السكون سائداً ، جعل يتبسم تبسم الحاذق: لا بد أنني بصدد أنثى هذه المرة ، نعم أنثى أو أنثيين كمان، و إلا لماذا تتمنع عن مجاذبتي طرفي الحديث ؟! ، ربما تود فقط التفضل بمساعدتي ، دونما رغبة في الثرثرة معي في الفاضي و المليان. عندئذٍ بدأ يتحامل بجسده الناحل نحو مصدر دفء الأنفاس، ليلتصق بها فلربما تدغدغ أذنيه بهمهمة توجه بوصلته.
يا له من دفء أنساني جاء في حينه تماماً .عادت به الذاكرة إلى أيام أمه حينما كانت تجمع الحطب ليلاً وتسرج النار حتى الهزيع الأخير. كم أحن لحضنك يا أماه! و كم أحتاج إلى كوب من يديك( شايٌ مقنن على الجمر) من سيرشف أولاً ؟ تلك متعةٌ لا تدانيها متعة ، كنت دائماً تؤثرينني على نفسك بالنخب الأول ، فما أعظمك ياغالية. أيّ خبيرة أنت بعلم النفْسٍ! يا أمية ، و لم تكوني تقرئين حرفاً عن نظريات تربوية، لكنك نجحت بإدارة دولاب حياتي بحِرفية خرافية جعلت منك أسطورة في كل شيء ، خاصة بعد أن أدار المرحوم/ أبي ظهرة لمتاع الدنيا، و ترك لك فراغاً عريضاً تكدحين لسده و تدأبين لتغطية حاجاتنا و أنت قابعة ليل نهار خلف مكنة خياطة.
- في الأثناء تسمر صحابه الأخرس على مقربة منه و قد جالت بباله كذلك ألف خاطرة و خاطرة. تذكر هو الآخر أمه: تلك المثابرة التي طافت بي الدنيا ، تبحث لي عن علاج لصممي المزمن . و هي مؤمنة بأنه ما من وداء إلا جعل الخالق له دواءً ، علمه من علمه و جهله من جهله، و على يقين بأنها سوف تهتدي إليه ذات يوم، بالنية. راحت تهرول بي من عيادة طبيب لآخر، وتطرق باب كل مشوعذ، مغدقةً عليهم بكل سخاء. ظناً منهاأن علّتي نفسانية أو (توحدية) ، فشربتني كل ما طالته يدها من أعشاب و محاية و دواية ، و علقت لي ما عثرت عليه من تمائم و حجبات، و لكن دون جدوى ، وعندما شببت عن طوقي، تبين أنني لست متوحداً ولله الحمد و المنة ، و إنما كانت عقدتي في لساني ، بمعنى أنني نشأت أصم أبكم، لأظل بقية عمري هكذا لوجود تشوه خلقي في طبلة أذنى الوسطى، و أن حالتي ميؤوس من علاجها .
- إلى هنا و الأعمى لا يزال يزحف و يتحامل بجسده،عله يلتصق أكثر بذاك اللحاف البشري المتوهم ، لكن الصمت بقي سيداً للموقف ، و المشهد يبعث على مزيد من الريبة و القلق ، ترى ما سر هذا الهدوء الحذر القاتل ، لعله سابق لعاصفة أسئلته التي عادت لدوّامتها المملة ،فما تلبث تنقطع إلا لتتصل مجدداً .هرطق قائلاً لنفسه حيث لم يمل من الأخذ و الرد معها في عزف منفرد: (خلينا نتوسم خيراً بإنو السكوت علامة القبول و الرضا)؛ و يبدو أن سنّارتي العمياء قد غمزت أخيراً لتصطاد(عجلةً حنيذةً ) هذه المرة . لكنه عاد لظنونه و قال في سرّه: أم ترى أن الأمر لا يعدو كونه أكثر من مجرد مزحة بايخة، افتعلتها إحدى الخبيثات، تريد اللعب بأعصاب رجل ضرير تعيس مثلي.
- ظل المكسح يراقب الموقف بدهاء و هو يغالب فلتان الضحكة، بينما الأخرس على نياته وحسن ظنه فقال: لندع هذا الأعمى المسكين يلتصق بنا وهو ينشد الدفء من شدة البرد: ترى ماالذي يخرجه في هذا الوقت المتأخر، ربما وجد نفسه وحيداً بين سندان الوحشة و مطرقة العتمة، ثم ضحك سراً: و هل يحسّ العِميان بعتمة الليل أصلاً، ليلهم ونهارهم سواء، فيا له من ليل سرمدي لا ينجلي، إلا بصبح، و ما الإصباح منه بأمثل. إذن، فلِمَ نوبة القشعريرة هذه التي ترتعد منها كل فرائصه، أَحس الأطرش بيده تمتد لا إرادياً لتربت على كتف رفيقه الأعمى ليهدئ من روعه ، أو هكذا أراد .
- كاد الأعمى يلامس بتهويماته الطائشة خطوط سرواله (الحمراء). ثم بصلف و غرورٍ ما بعده غرور، راح يحدث نفسه: كأني بصدد واحدة من بنات الليل ، خرجت لتوها باحثةً لها عن ضالة تبيعها الهوى في الهواء الطلق ،فاصطادتني فريسة سلهة، إن نعومتها تتراءى لي بعين بصيرتي، كصورة مائية؛ و لكن يا لك من أحمق، ففيم يفيدك ذلك ، اللهم يكفيني أنها أنثى ، نعيش ليلة من ألف ليلة و ليلة، تسامرني و تضع لي لقمة من الدسم مشبعة بريقها بين شفاهي، و لكن ما الذي يُسكتها مني ، لم تنبس لي ببنت شفة، حتى حينه ؟! أتراها تمارس معي غنج الغيد الحسان؟!، ولكن كلا، فأنا لست مهتماً أبداً ببهاء طلعتها ، ثم ماذا يضيرني غنجها، طالما بقيت معي ، تلفّ خاصرتي بمعصميها.
- الأخرس: ماذا تراه يقول هذا المسكين ، لم يتوقف عن الثرثرة قط، شلاضيمه تبتلع عتمة الليل بلا هوادة ، لو أنني أستطيع أن ألتهم قنبلة نووية لأفجر هذا الصمت الذي يسكنني فتندلق مع أشلائي أنهاراً من أذان الطرشان في مالطة. .
- الأعمى: سوف آخذها إلى داري لنكمل سهرتناهناك ، ثم عاد يثرثر كسندباد عن مغامراته و صولاته و جولاته. و لكن مايزال قانون الصمت مفروضاً وستار السكون مسدلاً . إلى هذا الحد تسلمني هذه الأنثى أمرها وتنقاد لي بخيط عنكبوت إلى حيث أريدها ، يا لها من جاذبية جاءتني حبواً على حين غرة من هذا الليل البهيم، مسيرة نصف ليلة وهي لم تنطق بكلمة واحدة ، حدّثتها عن كل شيء . لا بد أن هندامي الأنيق و حديثي الشيّق هما سر تعلّقها بي . رغم أنني لم أقل شيئاً بعدعن حقيقتي الزائفة، إلا أنني أحس تماماً،بآخر لذة و أنا أقدّر في السرد عن نفسي بهذه الطريقة .
وصل الأطرش إلى بيت صاحبه الضرير و ابتسامة رضا عريضة تغمر و جنتيه وظل آخذاً بيده دافعاً إياه داخلاً. والمخدوع يناجي نفسه بنشوة المنتصر: الليلة سوف يكتب لي ميلاد من جديد و عهد جديد.
وقف الأصم على أعتاب الدار يهم بالمضي قدماً لحال سبيله ، بينما سقط في يد الأعمى وقد جعل يتلفت بسرعة هستيرية و قد أحس بجو الانفراد يعود ليخيم على المكان غير مستوعب لمايحدث، و قد انزوى وهو طريح التراب ، و راح يبحث عن عصاه ليتوكأعليها و ربما يهش بها على ذباب جلده. بينما صاحبه الأصم أسرعت به الخطى بعيداًو هو ينوء بكتفيه تحت حمل صديقه الكسيح ، و الذي راح يطلق قهقهات شماتة متقطعة راحت تتلاشى فتتبدد شئياً فشيئاً في جوف و حشة الظلام.
المفضلات