كتب: عبد المحمود نور الدائم الكرنكي
هذه وقائع مسابقة ملكة جمال الخرطوم، حيث نشرتها الصحف السودانية.. كان ذلك ايام زمان في (خرطوم) ما قبل الشريعة.مساء 14 مارس 1954م أجرِيت بفندق (سانت جيمس) مسابقة ملكة جمال الخرطوم. حيث احتشد عدد كبير من العائلات الأجنبية من مختلف الجنسيات في صالة الفندق. وكانت لجنة انتخاب الملكة برئاسة الدكتور (ع.م) رئيس مجلس بلدية الخرطوم (معتمد)، وعضوية عدد من رؤساء الجاليات الأجنبية، وقد تبارت الفتيات المشاركات في مسابقة ملكة الجمال في حلبة الرقص. وبعد التصويت تم اختيار (مس كتانيو) ملكة جمال الخرطوم لعام 1954م. وهي طليانية (إيطالية). في نهاية الحفل تسلّمت الملكة الجديدة الكأس والوشاح من ملكة جمال الخرطوم لعام 1953م. ونشرت ذلك صحيفة (السودان الجديد) الصادرة بتاريخ 15 مارس 1954م.
في 31 مارس 1958م سهرت (سانت جيمس) حتى الساعات الأولى من الفجر. وامتلأت الصالة بجمهور من خمسمائة شخص، جاءوا لحضور مسابقة اختيار الملكة الجديدة على عرش الجمال بالخرطوم. وانطلقت الموسيقى تعزف شتى الألحان، واشتعل الرقص والكأس والموسيقى حتى الواحدة صباحاً. ثم كانت دعوة المتسابقات للرقص فتهادين خجلات مضطربات. وسطعت وسطهن قمر أحالت مَن حولها إلى نجوم. بعد رقص المتسابقات وقفن وحيدات. كانت هناك (مصطبة) متدرِّجة حيث قامت كل واحدة منهن باستعراض منفرد. وعندما ظهرت (القمر) كانت تحمل رقم (13). ودوّى المكان بالتصفيق. وعُرِفت النتيجة. كانت ملكة جمال الخرطوم هي (مس هرنجتون)، وهي انجليزية، ونالت (255) صوتاً. والثانية هي الآنسة (إليان ماقيت)، وهي بنت مدرِّس لغة انجليزية في (المعهد الفني) أي جامعة السودان، ونالت (75) صوتاً. وكانت الثالثة الآنسة (مارجريت أول)، وهي انجليزية أيضاً نالت (70) صوتاً. وهكذا تربّعت على عرش جمال النيل فتاة من (التايمز). وشارك عدد قليل من السودانيين في ليلة اختيار ملكة جمال الخرطوم. ولم يشترك في الرقص سوى (4) سودانيين. وأجرى لقاء صحفى مع الآنسة (هرنجتون) ملكة جمال الخرطوم، حيث جاءت الأسئلة والإجابات على النحو التالى:
٭ هل أنت مخطوبة؟
- مس هرنجتون: كلا.
٭ هل تفكرين في الزواج؟
- مس هرنجتون: كلا.
٭ لماذا؟
- مس هرنجتون: لماذا أفكر به؟ (أي لماذا أفكر في الزواج).
نشرت ذلك صحيفة «الرأي العام» الصادرة بتاريخ 1/أبريل 1958م.
ملكة جمال الخرطوم حينئذ كان عمرها (17) عاماً. حيث ولدت عام 1941م حسب إفادة أمها. لذلك لم تكن ملكة الجمال تفكر في الزواج بسبب أعوامها السبعة عشر. وكان ذلك سبب سؤالها ولماذا أفكر فيه.
تلك ليلة من ليالي الخرطوم في الخمسينيات.
وكما شهد عام 1954م انتخاب ملكة جمال الخرطوم في (سنت جيمس)، شهد عام 1954م ميلاد الجبهة الإسلامية للدستور. تعبيراً حقيقياً عن المجتمع السوداني أخلاقاً وسياسة. نجوم تلك الجبهة يمشون اليوم على الأرض هوناً، مشية خاضع متواضع لله لا يزهى ولا يتكبّرُ. بعد ما يزيد عن خمسين عاماً تزدان خريطة ولاية الخرطوم اليوم، بما يزيد عن ألفين ومئتي مسجداً. هنا ينبغي أن يُسجِّل التاريخ دور الراحل البروفيسور عون الشريف قاسم بأحرف من ذهب. فقد انتظمت في تلك المساجد عشرات الآلاف من الحلقات الراتبة لتلاوة القرآن الكريم. وانتشر الزي المحتشم انتشاراً واسعاً. وفي ذلك الإطار يذكر أن وزير التربية والتعليم السيد/ دفع الله الحاج يوسف أصدر توجيهاً حول الزي المدرسي للطالبات في المدارس الثانوية العامة والعليا (من سن 16ــ 19)، فظهر الاحتشام الأنيق باللونين (البني) و(اللبني). وتلك مآثرة تربوية للسيد/ دفع الله الحاج يوسف تُسجَّل بأحرف من نور. وفي سلك ذلك التيار الأخلاقي المنتصر، أراق الرئيس جعفر نميري في مياه النيل، ليس كأساً واحدة من كؤوس (سنت جيمس)، بل الملايين من زجاجات الخمر من (البيرة) و (السايبرس) و(الويسكي).
وكان السودان حينئذٍ يحتل المرتبة الثانية في إفريقيا، بعد جمهورية جنوب إفريقيا في استيراد (الويسكي) الأسكتلندي ماركة (جوني ووكر).
وكان السَّكارى الماجنون المعربدون حينها يسمّون الويسكي دموع الملائكة، نظراً للونه الناصع وصفائه!.
وبعد ما يزيد عن خمسين عاماً أصبحت الخرطوم على هَدْى النبي (ص) تصلي ودموع المتاب في الأجفان. أصبحت تصلي التراويح في العديد من المساجد بقراءة جزء كامل من القرآن، وتقيم العشر الأواخر تهجداً حتى الفجر. وذلك بديلاً عن ليالى سنت جيمس الصاخبة وجلسات (لورد بايرون) ورقص (السامبا) العنيف ورقص (الروك آند رول) بالقمر الرُّوسي. (القمر الروسي) قماش نايلون شفاف كان مشهوراً في تفصيل أزياء البنات. وكان رقص (الجيرك) و(الهورس) و(التفاحة) وموسيقى (الڤالس) الهادئة، حيث ترقد الراقصة على صدر مَن تراقص، تحلم بشهر عسل جديد. يُذكر أن لحن أغنية (في سكون الليل) لأحمد المصطفى جاء على لحن موسيقى (الڤالس). كذلك في خرطوم ما بعد الشريعة ألغِيت المراهنات الرياضية.
بدأت تلك الانطلاقة الأخلاقية بانتفاضة الراحل الفريق محمد عبد القادر الذي شغل منصب حاكم الإقليم الشرقي (ولايات القضارف وكسلا والبحر الأحمر)، ثم شغل منصب حاكم دارفور (شمال دارفور وجنوب دارفور وغرب دارفور). حيث أغلق الراحل الفريق محمد عبد القادر في الإقليمين الشرقي والغربي حانات الخمر وبيوت (النور الأحمر). كما أغلقها لاحقاً الرئيس جعفر نميري في الخرطوم وفي كل الولايات. وكانت بداية حظر بيوت (النور الأحمر) في الخرطوم نتيجة حكم قضائي أصدره القاضي علي عثمان محمد طه (النائب الأول لرئيس الجمهورية). وتأسست الجبهة الإسلامية للدستور عام 1954م تعبيراً عن المجتمع السوداني الأصيل. وبعد ما يزيد عن خمسين عاماً انهزمت العلمانية الاجتماعية هزيمة ساحقة. وأصبح لا يدافع عنها اليوم إلا المنبوذون الذين لا يرضون بالتأكيد، أن تدخل بيوت (النور الأحمر) بناتهم وإخواتهم وزوجاتهم. ورفرفت رايات الشريعة الاجتماعية منتصرة.
النهضات الوطنية، في دول أوروبا وأمريكا واليابان والصين، وغيرها، تمَّت والشعوب تعيش أكثر عهودها الأخلاقية محافَظة... وإن يَعِشْ مُصعبُُ فإنّا بخيرٍ... ونلاقي مِن عيشنا منا نُرَجِّي.
منقول
المفضلات