1
هبت نسائم الصباح في عطبرة ومعها إرتفع صوت الآذان رخيما عذبا فدبت الحياة في منزل الحاج( صالح) مثلما تدب الحركة في فناء المدارس بعد رنين جرس الصباح،كان صالح كعادته أول من هب من نومه ونهض فحمل ابريقه النحاسى العتيق ويمم صوب الحمام الذي يقع في ركن منزو من الدار التي تتكون من فناء فسيح وثلاث غرف مبنية بالطوب الأخضرومطبخ صغير أمامه راكوبة صغيرة ، بقلب الفناء تقف شجرة نيم عملاقة ظليلة،بعد برهة يسيرة عاد صالح حاملا ابريقه وشرع في الوضوءعلي مهل، حمل النسيم اليه رائحة الحطب وهو يحترق معلنا ان حاجة فاطمة قد شرعت في اعداد شاي الصباح،انتصب صالح واقفا واستقبل القبلة ثم كبر وأقام الصلاة وشرع في الصلاة وهو يقرأ بصوت رخيم وحين فرغ من صلاته شرع في الدعاء في ضراعة وإلحاح، من ثم استوي واقفا وطوى سجادة الصلاة الصغيرة المصنوعة محليا من السعف ثم أخذ يتجول في الفناء حيث الأولاد لازالوا نائمين ليوقظهم لاداء صلواتهم والاستعداد لرحلاتهم اليومية صوب مدارسهم، كان الابن الأكبر كعادته يعود الي نومه بمجرد ان يوليه ظهره فيضطر الي العودة اليه ثانية لايقاظه فينهض متثاقل الخطى عابسا وعلي الوجه ضيق لايجتهد كثيرا لاخفائه وفي عينيه بقايا نعاس. كانت الحاجة فاطمة تؤدى صلواتها حينها وكبابي الشاى اللامعة قد رصت بعناية علي المائدة الخشبية وكانت الكفتيرة لاتزال علي الموقد بجانبها حتي تحافظ علي حرارة مافيها،استبدل صالح جلبابه بالابرول الازرق وجلس في موضعه من المائدة ويداه تعبثان بمسبحة اللالوب الضخمة وهو يهمهم بصوت خافت، فرغت الحاجة فاطمة من صلاتها وتجمع الابناء والبنات وصب الشاي باللبن فرشف صالح كوبه علي عجل وانطلق ميمما صوب المحطة العامرة بالضجيج حيث كان أكثر من قطار رابضا فوق القضبان الكثيرة، وكان قطاره واحدا منهن،والمحطة تموج بحركة يعرف صالح أنها تتصاعد مع مرور الوقت واقتراب ساعة الرحيل الوشيكة ثم يعقبها السكون، علي امتداد الطريق كان صالح يتلقي التحايا ويحى، وكان بعض رفاق العمل يتحلقون في جماعات صغيرة حول بائعات الشاي في المحطة يحتسون شايا أو قهوة وفي أيديهم حبات اللقيمات الصغيرة الشهية وضحكاتهم تعانق السماء، لم تكن المحطة مزدحمة، ففي مثل هذه الايام لايكون المسافرين إلا لفيفا من علماء الآثار الاجانب الذين يقصدون بلاد النوبة للتنقيب عن آثار مجهولة وآخرين يبتغون اللحاق بالباخرة في حلفا للتمتع برحلة نيلية إلي مصر، وهناك بعض التجار الوطنيين الذين يقصدون مصر للتجارة، وهناك طلاب العلم الذين يدرسون في الازهر والجامعات المصرية، ولاتخلو الرحلة ايضا من سيرة عريس أو موكب عزاء.
أخذ سائقو القطار أماكنهم في القاطرة وفي الساعة المعتادة دوت الصافرة الأولي، ثم تلتها الصافرة الثانية ، ارتج القطار بعنف وبدأت الحركة خافتة في البداية، ثم ارتج القطار مرة أخرى وانطلق.
المفضلات