من أجمل ذكريات طفولتي التي تدور في خلدي اليوم هي ما كان يحدث من مفارقات على خط سنكات جبرونا وبص (عم عباس) ، وكان هذا في نهاية الستينات وبداية السبعينات ، حيث الوسيلة الأكثر رفاهية ًلنا وهي البصات الداخلية والتي تنقلك رواحاً وغدواً ما بين السوق الكبير والحي الجميل ( حي الصقور ) أقصد به حي الثورة حالياً .
فقد كنا نعشق الترحال عليها صيفاً وذلك لأنها مفتحة الجوانب مشرعة الأبواب يأتيك النسيم عليلاً من كل صوب ده إذا خلا الأمر من السموم والكتاحة ورائح الجازولين ونكره ركوبها شتاءً وخريفاً لأن أبوابها ونوافذها أيضاً مشرعة لكل زيفة أو مطرة رغم القماش التخين الأخضر الذي يكسوها من الداخل .
كانت هذه البصات متعة نساء الحي خاصةً إذا كانت الفردة عند( عم عباس )، وعم عباس رجل مسن ضحوك تراه فتحبه دون سبب ، يحب ونسة النسوان ويمارس هوايته اليومية معهن بالمشاغلة مرة وبالردود الساخرة مرات وهذا الأمركان كفيلاً بأن بجعله ينام مبسوط البال مرتاح الضمير رغم عسر الحال ، وكان لا يعكر صفوه سوى الشباب المستعجل من أمره ، فقد كان مشوار السوق الكبير إلى حي البان يستغرق نصف ساعة ومع بص عم عباس يمكن يصل الأمر إلى ساعة وشوية ، حتى إن أحد الشباب قال لعم عباس ساخراً : والله بصك ده ما ناقصو إلا الزير .
وبالطبع كنا نحن عندما نقصد مشاهدة مبارأة في بانت و تجبرنا الفردة ونركب مع عم عباس مضطرين لأن الفردة الثانية بعد ساعة كنا نطالبه بأن يسرع ويديها نمرة 4 فكان يقول بسماحة وطيب خاطر : ياأولادي هدي العصاية عندكم كان فيها نمرة أربعة جيبوها لي أنا ذاتي عايزة .وكنا نضحك ملء أشداقنا براءة وقناعة .
ومن المفارقات العجيبة كان إذا حب الوصول لمحطة الأشراف مثلاً يدوس الفرامل من محطة أخر الشارع ، وإذا حب التوقف لأحد فجاة فعلى هذا الشخص قطع نصف مشواره راجلاً لبص عم عباس الذي توقف بعد 3 كيلو على الأقل والغريب في الأمر ما كنا نتذمر من هذا التأخير . وما حصل مطلقاً أن حضرنا مناسبة أو كورة من بدايتها مع عم عباس عشان كده كنا نفضل المشي الكداري أسرع وأرخص . وكانت محطات البص معروفة لدينا ( البان / الصقور/ جبرونا / اللفة / بانت / أخر الشارع / ود قيحة/ الحجر / ود أزرق / الكنيسة / البوشي / السوق الكبير ) وكان السوق حينها جنب الجامع بتاع البوشي أو سوق الجلود والصياغ حالياً .
وبص عم عباس متعة حقيقية لحبوباتنا وأمهاتنا فقد كان المشوار من السوق للبيت مع عم عباس كافياً لتقطيع البامية وتوريق الخدرة وقرقرة الأسود وحش الرجلة مع الونسة النقية والتي تدور ما بين الواجب للعزاء والمباركة للولادة والسمايات وعقد فلانة وطهور علانة بنفوس نقية نقاء اللبن الحليب ، والبص مكتوب عليه من الداخل ( العفش داخل البص على مسؤلية صاحبه ) ولا أدري عفشاً سوي القفاف الكتيرة المحملة بالخدار الندي المعطن برائحة الجروف الزكية والملئية باللحوم وأم فتفت والكمونية والفسيخ إضافة للأشياء الأخري والتي تهمنا في المقام الأول مثل السينات والقضيم وحلاوة قصب والتسالي وفول الحاجات وأحياناً قصب السكر أما البطيخ فكان من اختصاص الأباء . وكانت هناك روائح مميزة داخل البص خاصة عندما يهم الكمساري بالحساب فترى عشرات المفاحض ( جمع مفحضة ) بضم الميم فكانت لها رائحة خليط ما بين رائحة الجلد القديم التي صنعت منه وبين رائحة الأيدي الناعمة المدسوسة دوماً في الخدارات والسعف والحنقوق . وبمناسبة الكمساري اذكر ذات مرة بعد غلاء الأسعار وأصبح الركوب بقرش بعد ما كان بتعريفة جا الكمساري لاتنين في الكنبة الأخيرة وقال ليهم الحساب أعطاه أحدهم قرشاً أما الثاني فأعطاه ريالاً ( عشرة قروش ) ولف الكمساري في البص وعاد ليعطي تسعة قروش لصاحب الريال فأخطأ وأعطاها لصاحب القرش ، وفجأة صاح صاحب الريال : وين الباقي بتاعي ، فانتبه الكمساري للخطأ وبصوت حاد قال لصاحب القرش : إنت أديتني كم ؟، فقال له : قرش واحد ، فقال الكمساري له ورجعت ليك كم ؟ فقال له : تسعة قروش ، فقال الكمساري له طيب ليه شلتها ، فقال له : ما أنا ماعارف بصكم ده بي كم . وضحكنا حتى ملأت الدموع أجفاننا.
ولنا عودة
المفضلات