العيون في فن المقامات
الجزء الأول:
هذه مقامة أنشأها الأديب الأريب محمد أفندي وهبي التميمي ، سماها: السر المصون في مغازلة العيون, وهي:
نشأتُ أعرف العيونَ هي المُقَل التي تنظر الخبز والماء, والأرض والسماء, والبعيد والقريب, والعدو والحبيب, إلى يوم انكشف غيمه وصحى, وحُشرت فيه الناس ضحى, وكان ذلك يوم الزينه, وقد برزت كل فرحة وحزينه, وبزغت من منازلها الكواكب, للفرجة على المواكب.
فبينما أخوض غمرات القتام, وأسبح في تيار الزحام, إذ لمحت غادة ذات نقاب, كأنها الشمس تحت السحاب, تختلس ببهجتها النفوس, وتزدهي ازدهاء الطاووس, وهي تُسِرُّ لحظات التفرس, ولمحات التجسس, فكاد البصر ينهبها, والنظر يشربها, ولما أحست بانتباهي, ورأتني غير متلاهي, وجهت نحوي فلتات العيون, ولفتات الجفون, حتى تلاقينا باللحظين, وأسرت العين للعين, فرحتُ وأنا سكران, من خمرة الأجفان, وقلت إن هذا إلا سحر مبين, وفتنة للعالمين, وتطلَّبت حل مبهم هذا الرمز, وفك طلسم ذاك الكنز, وفزعت إلى ذات خدر كنت ألوذ بها لقربها, وأعوذ بها لأدبها, كاملة حسنا وعقلا, بارعة خُبْرا ونقلا, تشتمل بالتذكير على وصف ملة إبراهيم عليه السلام, وبالتأنيث على شطر كنية إمام الإسلام, فبعد قضاء سنن التحية وفرض السلام, تماسكنا بأهداب المقال وأردان الكلام, وخضنا في حديث المال والولد, والعين والحسد,
فقلت: أللعيون فتون ؟
قالت: نعم كما للجنون,
قلت: بالله أستعين, من شر العين,
قالت: أي العيون تعني؟,
قلت: كل عين تضني,
قالت: قصدت العين البيضاء الزرقاء الضيقة الجاحظه,
قلت: أردت العين السوداء النجلاء الواسعة اللاحظه,
قالت: أبِنْ لي الإضمار, فوراء قدحك نار,
قلت: أعندك للضيف إكرام,
قالت: نعم سوى الحرام,
قلت: لا أطلب غير الاستفادة,
قالت: أتستفيد من غادة؟,
قلت: العلم في الصدور لا في السطور,
قالت: لا تخرج عن الدستور,
قلت: والعافون عن الناس,
قالت: إذاً لا باس,
قلت: أتيتك سايلا, والسائل لا ينهر,
قالت: ليس كل سائل مطهر,
قلت: ما هذه المواربة في المقال,
قالت: الجواب على قدر السؤال,
قلت: بعزة الجمال وسر العيون, وعصر الشباب وعهد الشجون, ما الذي تقوله العين للعين, إذا اتَّحد مركز اللحظين,
قالت وقد ثنتها أهواء الطرب, وحركتها نشوة الأدب: سألتني عن النبإ العظيم, والسر الكريم, فهل تصان لديك الوديعه,
قلت: نعم وتحفظ عندي الصنيعه,
قالت: سأنبِّئك بتأويل ما أوحته إلينا الألحاظ, لا ما روته لنا الحفاظ, فاعلم أن النفوس كامنة بها أهواء غريزية ساكنة بزواجر التكليف الديني والعقلي وهو السر اللطيف, الذي أتى لصيانته التكليف, فحرم المدام وأنكر على السماع, حتى لا يبتذل فتمجه الطباع, إذ هما يتركان تعريف التكليف نكرة, ويبرزان الأهواء على أصل الفطرة, والعيون بها مستودع ذاك السر, ومنبع هذا السحر, فإذا نظرت عين ذي حسن إلى عين نفس لطيفة الروح, وسرت بينهما مراسلات اللواحظ ومغامزات البوح, تعارفا وائتلفا, وتحالفا على الوفا, وتذاكرا لذة الحديث في عالم الأرواح, وتشاكيا ألم التكليف في عالم الأشباح, وتواددا, وتواعدا, وتعاهدا على الكتمان, والتعاون عند الإمكان, وتشاكلا في الهوى نفسا وروحا, ويوحى لكل قلب من الألحاظ ما يوحى, وهذا الذي استفتيتني فيه, قد أطلعتك على خافيه.
قلت: بخ بخ لكِ من بارعة في هذه الفنون, وعالمة بمسائل العيون, فقد اتضح لي وبان, مما أبديتيه من التبيان, أن العيون هي وسائل اللذات, ورسائل الذات, فيا سبحان الله ليس هذا الذي عرفناه, وعن الكتب أخذناه, فمبلغ علمنا أن لحاظ العيون, هي سهام المنون, ومن أصيب بها صار عيشه الهني نكيدا, وعاد شقيا بعد أن كان سعيدا, فتبسمت تبسم المفيد الملاطف, في وجه مستفيدِ المعارف,
وقالت: هيهات ليس من تأمل وذاق, كمن نظر في الأوراق, ولا يعرف قيمة الدر إلا من غاص عليه, لا من أهدي إليه, وأنت قرأت أحرفاً مسطوره, وأسطراً مزبوره, فأعجبتك نفاسة الكلام, وبلاغة النظام, فطرت فرحا, ومشيت مرحا, وزعمت أن ذاك هو الغزل والنسيب, وعددت نفسك أديبا أريب, ولم تميز المقال المصنوع, من الخيال المطبوع, فكنت كالآكل من الشجرة, وهو يجهل أصل الثمرة, فليس الخُبْرُ كالخَبَر, ولا الإدراك بالسماع كالإدراك بالنظر, والعاقل الكامل من ترقَّت همته عن رتب الأخذ بالسماع إلى مقامات الكشف بالعِيان, وتلقي فنون الغزل عن عيون الحسان, وحدَّث بما رأى لا بما روى, ودخل مدينة الرقة من باب الهوى. وإن صادفه من التصانيف ما رق وراق, واستعذبت سُلافتَه الأذواق, وكان مُعرِباً للمعاني, ومطرباً كالأغاني, بحث بفكرته عن أساس بانيه, ومدارك مبانيه, ليعثر خياله بأصل الخيال, ويذوق لذة ذاك الجِرْيال, وأنت إن عُجت على موارد الجمال, تكن مشغول البال, وإن طالعت في كتاب, تمرُّ مَرَّ السحاب, وهذا الذي أوهمك أن لحاظ العيون, هي سهام المنون, لأنك حفظتَ وما ذقت, وسمعت وما نظرت, وفاتك التأمل لما ورد عن عشاق العيون, وكيف تراهم يشكون و يشكرون, وإن أطالوا الشكوى من النحول والسهاد, رجعوا بالتعنيف على اللوام والحساد, وكيف حُسدوا إذا لم يكن ذاك نعيم, ومقام كريم, وإنك لتعهد, أن خير الناس من يُحسد, وأما ما تسمع من التهويل في الكلام, وتشبيه الألحاظ بالحسام, وسهام الحِمَام, فذاك للتذكير لا للنكير, وللترغيب لا للتحذير, وإنما غالطتْ بذلك الأذكياء, ليبهموا الأمر على الأغبياء, لأنه يَجِلُّ عن أن يذقه ذليل لئيم, وقد أرشدتك فذق إنك أنت العزيز الكريم.
قلت: لقد أفدت بما عز, وحللت طلسم رصد هذا الكنز, وأبنت لذة كانت خافية, وألنت فكرة كانت جافية, ومننت عليَّ بالإفاده, فلك الحسنى وأزيد الزِّياده, فهل لا ينكرن الحسان على نظر العيون إليهن, وهل لا ينفرن من ملاحظة الجفون لهن؟,
قالت: أتراك تريد الاطلاع, على ما وراء القناع, فأنا كاشفة لك النقاب, ورافعة عنك الحجاب, فاعلم أن لكل نفس ميلاً إلى الهوى بالطبع الغريزي ولا يردها إلا زاجر العقل أو الدين, وحظ النساء فيهما قليل كما ورد عن التنزيل وجاء عن الأمين, فهن إليه أمْيَلُ بالطبع اللطيف, وأضْيَعُ عهداً لأمر التكليف, فأية خَوْدٍ رزقت نصيباً من الجمال, تميل لعرضه على أبصار الرجال, لتختبر حظَّها من صنع الله البديع, الذي لم يوجده في الجميع, فإذا برزت الحسناء من خدرها إلى مسارح اللمحات, ومرامي اللحظات, أرسلت رائد الطرف يتوسم الصُّوَر, ويتفرس نفوس البشَر, فإن نظرَتْ فظا غليظ القلب, لاهٍ عن دواعي الحب, صرَفتْ نظرها عن صورته, ومرَّتْ وتركته في غفلته, وإن لمحت متبصرا نقَّادا, ومتغزِّلا مُنقادا, وأمنت عين عُتلٍّ زنيم, وهمَّاز مشَّاء بنميم, تلطَّفت في تعريض إشارات حسنها لدقيق لمحاته الخفية, ورقيق لحظاته السرية, ومتى ما استشعرت باستحسانه المنحة, وأسَرَّ الهوى ما أسرَّ في تلك اللمحة, تغازلا, وتراسلا, واجتنيا لذَّة السِّر المصون, من مغازلة العيون, والغافلون عن ذاك المقام, إن هم إلا كالأنعام,
قلت: لله درك, ما أطيب طيبك ونشرك, فأعلميني حكمة نفور ذوي الجمال, من المشيب والإقلال, فقد تواترت بذلك الأخبار, ونطقت به الأشعار,
قالت: أهذا تجاهل عارف,
قلت: بل تطلُّبُ معارف,
قالت: واهاً كيف يجتمع الهوى وداعي الوقار6, والتصابي وشاغل الافتقار, ولكن ربما تشَفَّع للإقلال الجمال البديع, وأما المشيب فليس له شفيع, وإن تشَفَّع له شفيع الإضطرار, فباطن الحال إنكار,
قلت: أفهل يشترط في وجود الهوى فيهن وجود الجمال, أم يوجد الهوى عندهن على أي حال؟,
قالت: اسمع أُخَيَّ: أما اللذة فشرط وجودها الحيوانية, والهوى شرط وجوده الإنسانية, وبقدر الاستعداد, يكون الإيجاد, والأنوثية أكبر استعداداً وأكثر, ومنها يكون الهوى أظهر, فكل أنثى تميل إلى الهوى بالطبيعه, ولكن إن وَجَدَتْ شفيعه, وشفيع الهوى الجمال, المشوب بالدَّلال, وبمقدار تمكنها من ذاك الشفيع, يكون لها الهوى مطيع, واللآئي يَئِسْنَ من الجمال, فليس لهن في الهوى آمال, إلا تعرضا لذوي الشهوات الحيوانية, واللذات الجسمانية, وربما غالطت من قبح ما فيها وملح ما يلوح, فالتمست بما لاح استرواح الروح, وهذا جواب سؤالك, فأثبته في خيالك.
المفضلات