أصوات الناس تختلط بأصوات الباعة ؛ وصفير العربات يخنق الجو ؛ وهجير الشمس يلسع أطرافه وهو يرقب الموقف بنظرات ملتهبة ، تنم عن وجع دفين وسر غارق فى أعماق الذاكرة ، أخذ قطعة القماش ووضعها تحت أسنانه وصك عليها بقوة كأنها كل ما تبقى له فى هذه الدنيا ، حملق فى الاناء الذى يحمله بين يديه بإزدراء مصطنع ؛ ومسح عبرة كادت لتسقط على خده بنفس الإصطناع ؛ نظر إلي قدميه التي تشققت وأدماها الحفى ؛ رفع بصره وتمتم بكلمات لم يسمعها الا هو ، أناخه تعب اليوم وشدة الحر ؛ فأستند على إحدى الاعمدة وأخذ يعد فى رزقه اليومى ؛ مية .... ميتيين ..... تلتم ... ختقته العبارة فغاص فى أعماق أعماقه ليستخرج ما بها ، لا يذكر من أين جاء ؟.... كيف جاء؟ .. بل ما يذكرهإنه نما وترعرع فى ذلك الشارع ... يفترش الارض ... يستتر من الحر والمطر بالمظلات ... يقتات من فتات الارض وبقايا المناسبات ، عشق الكلاب وعشقته ؛ تعود على نباحها وألفته ، تثقف سوقيا : " عمك يا .... فردة وكدا ...." نفر منه الناس وبغضوه ... منظره البشع ؛ شعر أغبر ، ثياب مهترئة وحذاء بالي ...؛ أصبح هدفا لدوريات الشرطة ومطارداتها التى لا تنتهى ..
كان يقرأ اللافتات بصعوبة بالغة ..ص ...ص...د..لا...ية فهو بالتأكيد يقصد صيدلية وهو بالتأكيد لا يحتاج لأن يدخلها لأن البعوض قد أثخنه لسعا حتى أكتسب منه مناعة تكفى لعشرة أشخاص وبالرغم من ذلك ينام ملء جفنيه.
أراد أن يحلم فخانه الحلم ، أراد الحياة فأتعبته ، حلمه بسيط ؛ جرعة ماء ولقمة خبزومكان يستتر فيه ، حرم من حنان الاسرة فضمه الشارع وفتح له ذراعيه؛ فأصبح يمثل له كل شئ ؛ الحضن الدافئ والملاذ الآمن، غأصبحت الدنيا فى عينيه لا شئ ،إستوى عنده الحزن والفرح ؛ الهم والفرج وكل شئ... إرتمت يده اليمنى على رجله ليست دليلا على شئ ، سوى أنه إستسلم للنوم أخيرا ليهرب من التفكير المستمر والضغط الذهنى المتواصل ولكى يستيقظ ليواصل حياته بنفس الروتين المتعب اللانهائي ...!!
المفضلات