الحلقة السادسة والعشرون
أخطر الطبيب آنسة سحر بأنها علي ما يرام وأن الأعراض التي تشعر بها تعود بشكل أساسي للإرهاق والتوتر وعليها أن تخلد للراحة لمدة أسبوعين علي الأقل .. تقبلت ذلك علي مضض وهي التي تعودت علي التنقل والتسفار من بلد إلي بلد وزاد علي ذلك بان قال لها .. عليك الكف عن الطيران لمدة لا تقل عن شهر .. كنت سعيداً بهذه النصيحة فقد أراحني أنها لن تكون مضطرةً للسفر بكل ما ينطوي عليه من مخاطر .. كنت أعبر عن شعوري بتلقائيةٍ وبسفورٍ شديد .. حدقت في وجهي ملياً وقالت ( إنت إنسان غريب جداً يا حربي .. تخاف عليّ أكثر من والدي وشقيقي ..) .. وكيف لا أخاف عليك وأنا أراك تتنقلين من مطار إلي مطار ..؟ همست في عينيها .. وعندما تعودين أشعر بسعادة عظيمة سرعان ما تنقضي عندما تعاودين الترحال من جديد .. أنا .. أنا .. وكنت علي وشك أن أقول .. أنا أحبك يا سحر .. بيد أن الحروف تعثرت فوق شفاهي وآثرت ألآ تخرج .. أنت ماذا يا حربي ؟ أرجوك أكمل .. أنا لا أعرف كيف أفسر لك حقيقة مشاعري نحوك .. أنت عزيزة علي نفسي يا سحر .. لو تعلمين مقدار معزتك عندي منذ أول يوم جئت فيه لورشة المعلم ( سلمان الفاضي ) لما سألتني هذا السؤال وبكل ظلال الشك والريبة التي تطل من عينيك .. أنا لا أشك بك يا حربي ولكنني عشت تجارب مريرة مع البشر .. قسم منهم من أهلي وآخرون جمعتني بهم ظروف العمل وقليل منهم التقيته صدفةً .. ولا أريدك أن تكون كهؤلاء .. أريدك كما أنت وبطبيعتك الطيبة والعفوية هذه .. ولا أريدك أن تخلط الأمور مع بعضها البعض .. لقد أصبحت كواحد من أفراد العائلة .. تأكل معنا في طبق واحد وتجلس معنا نتفرج علي التلفزيون .. عاوزاك تكون زي ما إنت .. وإذا عصام أخوي ضايقك بحاجه كده ولّه كده .. سيبك منو .. وعاين لي أنا ولأبوي وأمي .. لأننا كلنا بنعزّك وبنحبك زي ما إنت بتعزّنا .. أفهم الكلام ده كويس يا صالح لأني ما حأقولو ليك تاني .. واضح ؟ ..واضح ,
والآن بعد هذه المحاضرة القيمة يا فتي .. ماذا فهمت من كلام الآنسة سحر ؟ لماذا بنعزك وبنحبك وليس بعزك وبحبك ؟ الآن بدأت تفهم .. إن ما تشعر به سحر نحوك لا يعدو عن كونه عطف وتقدير وليس حباً كما تتوهم .. نعم نعم لقد فهمت .. ولكن ما حدث في الأيام التي تلت ذلك الحوار قلب أوضاعي رأساً علي عقب .. فقد طلبت من والدها أن أتفرغ لهم بالمنزل طيلة فترة راحتها المرضية لأتحرك بعربتها إذا ما احتاجوا لمشاوير هنا أو هناك .. فوافق علي الفور .. كنت أحضر باكراً وأبقي في الإنتظار لحين مغادرة والدها وشقيقها فتدخلني والدتها إلي الصالة الرئيسية بالمنزل حيث تقدم لي كوباً من الشاي ومن ثمّ أذهب للسوق وبيدي قائمة من الطلبات لا سيما وأن الطبيب قد قرر لها نظاماً غذائيآ صارماً .. وكانت ضمن القائمة بالطبع الصحف والمجلات النسائية ولدي ساعة الإفطار تهبط سحر من غرفتها وهي بملابس النوم وبدون حتي تصفيف شعرها وقريباً من خزانة الأسطوانات والأشرطة تتناول قارورة عطر مهملة تنضح منها شيئاً تحت أذنيها وذقنها وهي تردد نفس الجملة ( ريحة عصام دي بتكمل متين ؟ ) .. وكنت أجدها رائعةً وجميلةً بالرغم من آثار النعاس التي تبدو عليها ولولا الأعراف والتقاليد لأخذتها بين ذراعيّ أضمها في مودة وحنان .. وكانت تنتابني في بعض الأوقات أحاسيس فوارة كالبراكين خاصة عندما نجلس ثلاثتنا أنا وهي ووالدتها نتفرج علي أفلام ( الفيديو ) .. وما أن يبدأ الفلم حتي تتثاءب والدتها وتستأذن منا في أخذ قسط من الراحة فنواصل أنا وهي متابعة الفلم في الصالة ذات الستائر المزركشة والضوء الخافت .. وكنت أراقب انفعالاتها أثناء الفلم لا سيما عندما يتبادل البطل والبطلة عبارات العشق والهيام أو عندما يدور حديث عن الإخلاص والوفاء بالوعد والغدر والخيانة والخداع .. وما أن ينتهي الفلم حتي تحاصرني بالأسئلة الصعبة حول المضامين التي حاول الفلم تقديمها .. إلي أن جاء ذلك ايوم .. كنا نتفرج علي فلم غربي وعلي غير عادتها جلست بالمقعد الملاصق لمقعدي .. كانت قريبة مني جداً تلفح وجهي أنفاسها .. فاصطدمت يدي بيدها دون قصد ولم استطع مقاومة رغبتي في أخذ يدها الرقيقة بين ثنايا كفي .. زحفت أصابعي نحو أصابعها في رحلة خلتها مائة عام أو تزيد .. ارتاحت أصابعها في يدي فلم تسحبها .. شبكت يدي بيدها في لطف وحذر شديدين وضغطت عليها برفق وحنان .. كانت أحداث الفلم العاطفي عاصفة وملتهبة وقد وصلت إلي نقطة لا قبل لي بها .. فركت أصابعها ورحت أدغدغها في تتابع غريب وأنا أتشبث بهما في استماتة مثيرة .. كانت صامتة وبدت وكأنها ليست معنية بما يفعل بيدها ومع نهاية الفلم حاولت أن أسحب يدي وانصرف بيد أنها هي التي تشبثت بها هذه المرة ..أخذت كفها ورفعتها ببطء نحو فمي أقبّلها وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها وجاء الدور عليها لتعانق نعومة شفاهها تضاريس كفي المشرشرة ثم انسلت مهرولة نحو غرفتها وتركتني لوحدي وأنا غير مصدق لما كان يجري علي أرض الواقع قبل لحظات .. وللحظة عابرة أيقنت أنني ربما أكون في حلم وأنني لا أريد لذاك الحلم أن ينتهي ولكن ظاهر كفي يقول لي .. لا لم يكن حلماً .. هنا كانت شفاهها وهنا تدفقت أنفاسها .. هنا بقايا عطرها وكان علي أن أصدق .
المفضلات