30
لم تخلف نوال الكاشف وعدها، وأطلت كل الصحف في الخرطوم ذات صباح حاملة خبرا واحدا عن أكبر عملية مداهمة تمت لعيادة طبيب مشهور احترف عمليات الاجهاض غير الشرعي ونتائج المداهمة المذهلة، كان الباعة الصغار يصرخون في مواقف الحافلات بالنبأ بلهجات مختلفات ومضمون واحد والايدي تتخاطف الصحف الناشرة رغبة في التهام السطور واشباع الفضول. وفي مكان آخر كان عاصم جالسا في سكون يرقب الزلزال الذي لم يكن في حساباته يوما انه سيحدث، كانت معاونته وكاتمة أسراره شادية جادين منهارة تماما وهي تتبرع بالاسرار في كرم يفوق كرم الطائي في زمانه والمحققون لايكتمون سعادتهم بسقوط صيدهم الثمين
بل يبدون شماتة واحتقارا يكشفان غلا قديما في الصدور ، غلا لم يجد له سببا في البدء ولكنه فيما بعد في ليالي السجن الطويلة والونسات مع السجناء أدرك أن الناس بطبعهم يسعدهم سقوط الكبار ويشعرهم بالراحةوالتفوق والرضا عن حياتهم البائسة .هو لم يشعر ابدا بالعار أو بالندم ، كان رد فعله مدهشا وغريبا وهو ينظر ببرود الي الجنود وهم يبحثون في أدراجه ودواليب عيادته ودورة المياه فيها عن أدلةوبراهين تؤيد فعلا لاينكره ولاينكر قيامه به، بل يري فيه فعلا نبيلا قدمه راضيا لفتيات تاعسات يدفعن ثمن قصور اجتماعي ومفاهيم مغلوطة سائدة، كان يري نفسه بطلا يمارس عملا مقدسا في زمن انتهي فيه المنقذون والمشفقون والابطال، صحيح انه كان يأخذ أجرا لكنه كان ضرورة لاغني عنها ليتمكن من تقديم خدماته لمن لايملكن الثمن خصما علي من يملكن الثمن ، ضحك المحقق بسخرية وقال له: تظن نفسك ارسين لوبين تأخذ من الاغنياء للفقراء..هل تظنني طفلا لاصدق هذا الهراء؟! رد عليه ببرود: أنا لم أسرق من أحد شئيا حتي تصفني بارسين لوبين، أنا كنت أقدم خدمة طبية بمقابل لمن يستطيع دفعه وبلا مقابل لمن لايستطيع.
عبس المحقق وقال وهو يشير الي اللابتوب الصغير الذي بات ضمن أدلة الاتهام: وبماذا تفسر الافلام الموجودة هنا؟هل هي خدمة طبية لشادية جادين والأخريات؟!. كان يملك اجابة لكنه فضل الصمت فلم ينبس ببنت شفة.طول عمره كان يسكنه شعور بالتفوق علي الاخرين وانه يملك عقلا حادا كالمدية لايستطيعون فهمه ومجاراته وفي هذه اللحظات التي شعر فيها الاخرون بالتفوق عليه أزداد شعوره بالتفوق عليهم في داخله وتعزز أكثر. ظل يراقبهم صامتا وهم ينقبون في خصوصياته وكل اركان مملكته الصغيرة، حتي السراميك خلعوه بحثا عن أجنة متوهمة وأطفال مؤودين.أنتابه ذات الشعور الذي ينتابه وهو ينحني علي مريضة من مريضاته ليخلصها من عذابين في وقت واحد : عذاب الجسد الذي يحمل وثيقة ادانته وعذاب الروح الخائفة من الاسلاك الشائكةوردود فعل المجتمع، كان شعوره بانه ملاك الرحمة المرسل لغسل عذابات البشر يتمدد ويتضخم في مثل تلك اللحظات فيجد نفسه يهمس بصوت خافت
لاتخافي يا صغيرة...دقائق قليلة وتعودين كما كنت نقية من كل الأوساخ.... دقائق قليلة ويزول كل شئ....) كان صوته خافتا ، لكن ناره الكامنة كانت تزداد ضراوة في تلك اللحظات، يتصبب عرقا في الشتاء...تلتمع صورة أمه من مكان ما...باكية حزينة...صوت أبيه كالكرباج يهبط علي ظهرها العاري.... يصرخ صوت في داخله( يا للنساء الغبيات....الحمل...العذاب....التعب....العار...المو ت..)
تزداد حركة أياديه سرعةوهو يسابق دورة الحياة حاكما عليها بموت رحيم يراه أفضل من جحيم يعرف جيدا كيف يكون. كان يصرخ لنفسه حين تراوده الكوابيس وصوت ابوه
لست مثلكم فلاتطلبوا مني ان اكون مثلكم...لا اتكلم اللغة التي تتكلمون ولا اعرف ما تعرفون....لن تفهموا ابدا ايها الاغبياء....).
المفضلات