تسعى تركيا جاهدة، عبر مسارات مختلفة، للاستفادة من أجواء الحرب الليبية، للخروج بحزمة مكاسب تمكنها من رسم خريطة البلد الغني بالنفط، على نحو يخدم مصالحها.
وبعد مضي أكثر من ثلاثة قرون من الاستعمار العثماني لليبيا، تتهيأ أنقرة الآن للعودة رسميًا إلى ليبيا، لكن هذه المرة تود دخولها بعدتها وعتادها، بغطاء من حكومة الوفاق، وتحت عباءة قوى وتيارات إرهابية، مستهدفة توسيع النفوذ، وبيع وتجريب السلاح، والاستحواذ على أكبر قدر من النفط الليبي، ما يشرع الباب أمام حرب إقليمية ربما تطول، وسيكون الخاسر فيها الشعب الليبي بكل مناطقه وأطيافه.
أخذت تركيا على عاتقها توسيع نفوذها في شمال وشرق إفريقيا خصوصاً المغرب والجزائر وتونس لاجتذاب هذه الدول لموقفها في الأزمة الليبية..
ومن هنا تتضح لنا دوافع خفية عدة جعلت تركيا تخوض مغامراتها العدائية ضد حرية الشعب الليبي وسلامة ترابه ومدخراته، ومن أهمها:
أ. دوافع أيديولوجية
سعي الرئيس أردوغان في إحياء العثمانية الجديدة وبسط نفوذ واسع لأحفاد أتاتورك على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يأتي تأكيداً لحلم يراود أردوغان في قيادة العالم الإسلامي، ودعم تنظيمات الإخوان المسلمين بالمنطقة، بعد الضربات التي تعرضت لها بمصر والسودان وتعزيز سياسة العثمانية الجديدة، في ظل التوجهات الإخوانية لحكومة الوفاق وهو أمر تبدو أهميته مع محاولة تركيا تعويض إخفاقها في تحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

تركيا.. أدوار مشبوهة في قيادة الفوضى واحتضان أبرز المطلوبين للقضاء الليبي
كما أن العلاقة الجديدة التي عمقتها الحرب الليبية بين حكومة الوفاق وتركيا سمحت لأردوغان بالتفتيش في دفاتره القديمة، ليتذكّر أن تركيا كانت يوماً تحتل ليبيا مدة قرابة 360 سنة تحت راية الاحتلال العثماني، وهذا ما أشار إليه إردوغان نهاية ديسمبر 2019م عن وجود مليون تركي يعيشون في ليبيا، وقوله إن الزعيم كمال أتاتورك كان مقاتلاً بالجيش العثماني في ليبيا، وكان يكافح هناك في الجبهات، لذا يجب علينا اليوم أن نوجد هناك ونقاتل أيضاً، لدينا مليون تركي يعيشون في ليبيا.
شرعية الوفاق ساقطة وفقا لبنود «اتفاق الصخيرات».. والاتفاقات مـع أردوغان غير قانـونية
ويرى أردوغان أنه لا يمكن أن تتحقق هذه الإيديولوجية العثمانية دون المحرك الرئيس لها في الدول العربية وهو جماعة الإخوان المسلمين وارتباطاتهم المتينة مع حزب العدالة والتنمية في تركيا.
لذلك نجد أن الهدف من تدخل تركيا في الشأن المصري سابقاً، هو نفسه الذي يحركها للتدخل في ليبيا، وهو دعم مشروع الإخوان المسلمين في حكم الدول العربية والسيطرة على مقدراتها، كما هي محاولة الاقتراب من حدود مصر الغربية لدعم تنظيم الإخوان واستعادة نفوذهم السياسي.
روسيا وتركيا في الطريق لخلق «أستانة جديدة» في ليبيا على حساب الليبيين والعرب
إذاً التمدد التركي أصبح واضحاً يمتد من القرن الإفريقي شرقاً إلى شمال القارة، وهو ما يعكسه التشبث بالملف الليبي، ومحاولة إيجاد موطئ قدم من خلال جماعة الإخوان وتسويق مشروع الإسلام السياسي.
ب. دوافع اقتصادية
لا شك أن هناك عوامل اقتصادية تحرك تركيا في هذا المسار، فثمة مصالح تركية في ليبيا متمثلة في عقود تم توقيعها منذ عام 2010م، في مجالات اقتصادية مختلفة، وبالتالي تخشى تركيا على مصالحها في ليبيا من خلال الحصول على نصيب وفير من النفط الليبي، خصوصاً أنها تفتقر لمصادر الطاقة وتعتمد على الاستيراد في سد 95% من احتياجاتها من الطاقة بقيمة تصل إلى خمسين مليار دولار في العام الواحد، كما أن ليبيا الدولة الثالثة ضمن قائمة البلدان الأجنبية الأكثر احتضاناً لمشروعات المقاولين الأتراك، بقيمة مالية تصل إلى 28.9 مليار دولار.
الانقسامات الأميركية الأوروبية خلفت مواقف هشة.. والدور العربي حاسم
كيانات وتنظيـمات قتاليـة إرهابيـة تمولها تركية وقطر فـي ليبيـــا
إضافة إلى ذلك سعيها لاستثمار دعمها لحكومة الوفاق لامتلاك شريك لها في الصراع الإقليمي والدولي على غاز المتوسط، وهو ما تجلى في توقيع الحكومة التركية والسراج مذكرتي تفاهم في إسطنبول في 27 نوفمبر 2019م، تتعلق إحداهما بالتعاون الأمني والعسكري والأخرى بالسيادة على المناطق البحرية، دون أن تدرك أن ما تقوم به من أفعال ومطامع توسعية يضر بعلاقاتها مع ليبيا والعالم العربي والغربي.
كما أننا لا نغفل دافعاً اقتصادياً آخر هو ضمان تعاقد الشركات التركية على نصيب وفير من المشروعات في مجال إعادة إعمار ليبيا التي كانت الدولة الأكثر احتضانًا لمشروعات المقاولين الأتراك منذ عام 1972م.
لكن الدافع الاقتصادي الأهم لتركيا ترى أنه الرد على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين كل من مصر واليونان وقبرص، ومزاحمة الدول التي تقوم بالتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط، بعد الاكتشافات النوعية في قطاع الغاز الطبيعي الذي يقدر بأكثر من مئة تريليون م3، ولن يتوفر لها ذلك دون رسم خارطة نفوذ في الشرق الأوسط عبر الاستيلاء على المياه الليبية من خلال تخريب الوضع القائم جيوسياسيًا، لمواجهة النفوذ اليوناني، وزيادة مساحة منطقتها الاقتصادية لتصل إلى 189 ألف كلم2، كما ستضيق المنطقة الاقتصادية الخالصة للقبارصة اليونانيين، لتصب في صالح إسرائيل، ما يخلق وضعًا استراتيجيًا ودوليًا جديدًا، يسمح لتركيا بالمطالبة بالثروات الغازية في المياه الاقتصادية لدول المتوسط الأخرى من مصر إلى سورية وقبرص ولبنان.
ج. دوافع عسكرية
قدّم أردوغان مذكرة للبرلمان التركي لتفويضه في إرسال قوات تركية للأراضي الليبية، فوافق البرلمان في 02 يناير 2020م على هذا الطلب، وحيث لا يعد الدعم التركي لحكومة الوفاق جديداً إلا أن التعهد بالتدخل العسكري واتخاذ إجراءات في هذا الصدد هو ما مثل تحولاً جديداً للعلاقات بين الحليفين.
ورغم أن تركيا لديها عدة بدائل لدعم حليفها السراج دون تدخل عسكري تركي مباشر في ليبيا إلا أن أردوغان استغل حاجة السراج إلى الدعم السريع حتى يحصل على موطئ قدم في ليبيا لعدة اعتبارات منها علاقته السيئة مع مصر، ثم السيطرة على حقول النفط الليبية، وضمان حصة كبيرة من غاز المتوسط، ولهذه الاعتبارات استولت تركيا على قاعدة الوطية العسكرية الجوية، وقاعدة مصراتة البحرية، لما لليبيا من موقع جيوستراتيجي مهم.
ومن خلال السيطرة على هاتين القاعدتين تكون تركيا قد حققت ثلاثة أمور، الأول يتعلق بدعم قوات السراج والميليشيات الإرهابية في معاركها ضد الجيش الوطني الليبي، أما الثاني فيتعلق بتسويق الصناعة العسكرية التركية، إضافة إلى أمر ثالث يتمثل بالمكاسب الاقتصادية المباشرة.
كما وطدت تركيا علاقاتها القوية بالميليشيات الإرهابية الليبية من خلال الدعم والتنسيق والإمداد بالمعدات والأسلحة وفي مقدمة هذه الميليشيات جماعة الإخوان، وكتائب مصراتة، ولواء الحلبوصي، وكتيبة النواصي، وميليشيات أسامة الجويلي، وقوة الردع والتدخل المشتركة محور أبو سليم، وميليشيات فجر ليبيا وغيرها من الميليشيات التي تقاتل الجيش الوطني الليبي بدعم تركي قطري عسكري، وأيضاً من خلال تسيير رحلات يومية ليلية من إسطنبول إلى طرابلس ومصراته عبر شركات الإفريقية والأجنحة الليبية والبراق لنقل عناصر إرهابية تابعة لجبهة النصرة لزجها في قتال الجيش الليبي.
فباتت تركيا لا تبالي بالقرارات الدولية بشأن حظر تصدير السلاح إلى ليبيا، وأصبحت لا ترى غير مصالحها الضيقة وأهدافها الخربة وما ستحصل عليه مقابل تدخلها عسكرياً في ليبيا.
د. دوافع إرهابية
تحتضن تركيا أهم رؤوس الإرهاب في ليبيا، وأبرز المطلوبين من قبل القضاء الليبي لتورطهم في جرائم عنف مختلفة، وإرهاب، والإضرار بالأمن الوطني الليبيي، إلى جانب قيادات جماعة الإخوان الإرهابية الذين كانت لهم أدوار مشبوهة في قيادة الفوضى بليبيا منذ سقوط نظام القذافي عام 2011م.
ويُقيم في تركيا قادة الإرهاب أبرزهم طارق بلعم وأحمد المجبري من مجلس شورى بنغازي المصنف تنظيماً إرهابياً، واللذان منعت السلطات البريطانية دخولهما إلى أراضيها بتهمة التطرف، ورحلتهما إلى تركيا، التي منحتهما إقامة دائمة في نوفمبر 2017م.
كما يقيم في تركيا عدد من قيادات جماعة الإخوان الذين يتمتعون بالحماية التركية، من بينهم عضو المؤتمر الوطني العام محمد مرغم الذي طالب بتدخل عسكري تركي ضد الجيش الليبي، في تصريح جر عليه اتهامات بالخيانة العظمى.
فاستقطبت تركيا أكثر القيادات الليبية للإخوان، وجعلت من أراضيها ملاذاً لتيار الإسلام السياسي، وكل مُدرج على قوائم الإرهاب، ما أضحى الطريق من مصراتة إلى إسطنبول محبباً إلى قلوبهم.
إذاً تنوُّع التدخل التركي في ليبيا ما بين تمويل وإيواء وحماية للجماعات الإرهابية، خصوصاً جماعة الإخوان، يعكس حرصاً من تركيا على ضمان موطئ قدم لها في جنوب المتوسط في إطار ضمان أوسع مناطق النفوذ الممكنة لإحياء النزعة العثمانية.
مذكرات تفاهم لسرقة ليبيا
تسعى تركيا جاهدة عبر طرق مختلفة للاستفادة من الحرب الليبية للخروج بعديد المكاسب يمكنها من إعادة رسم الخريطة الليبية البلد الغني بالنفط على نحو يخدم مصالحها.
ووضعت أقدامها في ليبيا عبر توقيع مذكرتي تفاهم بين السراج وأردوغان في 27 نوفمبر 2019م، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بتحديد مناطق الصلاحية البحرية في المتوسط، علماً أنها تحضّر لهذه الخطوة منذ بداية أحداث ليبيا 2011م.
فالتحليل الأولي لهذا التقارب التركي الإخواني، كان استعجال إخوان ليبيا للدعم العسكري التركي وفقاً لمذكرة التفاهم الأولى بالتصدي لضربات الجيش الوطني الليبي، كما لم يدخروا جهداً في تبرير دخول القوات التركية إلى ليبيا بأنها تستهدف حماية مصالح تركية البحرية في المتوسط من جهة، وصد العدوان على طرابلس من جهة أخرى، بينما الحقيقة أن هذه التحركات المقصود منها الاستحواذ على ثروات ليبيا النفطية والغازية أولاً، ثم تجريب وبيع السلاح التركي لحكومة الوفاق ثانياً، ثم حصار مصر ثالثاً.
مشروعية وهمية
تزعم تركيا أن ممارساتها إزاء ليبيا هي ممارسات مشروعة من الناحية القانونية، وادّعت أن إمداداتها العسكرية لحكومة الوفاق في مواجهة الجيش الوطني الليبي تبتغي منها دعم اتفاق «الصخيرات» حول ليبيا، وهي خطوة غير مبررة تتجاهل الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا.
ومن خلال مراجعتنا وقراءتنا لهذا الاتفاق نرد على الادعاءات التركية بأن حكومة الوفاق لا تتمتع بالشرعية، فاتفاق «الصخيرات» الذي جاء بها في ديسمبر 2015م، اشترط اعتمادها من جانب مجلس النواب الليبي ببنغازي حتى تكتسب الشرعية، وهو ما لم يحدث.
كما أن الجهة الوحيدة التي تملك حصرياً صلاحية التشريع والتصديق على المعاهدات الدولية في ليبيا هي مجلس النواب، المنتخب في أغسطس 2014، وذلك وفق نصوص اتفاق الصخيرات (م8، م13).
ونظراً لأن المجلس قد أكد عدم شرعية حكومة الوفاق، ورفضه لما وقعته من اتفاقات مع تركيا، فيصبح اتفاق ترسيم الحدود منعدم الأثر، كما يكون طلب حكومة الوفاق للتدخل الخارجي أمراً غير مشروع.
كذلك حكومة الوفاق لا تسيطر فعلياً إلا على مساحة صغيرة من ليبيا، فليس من حقها أن تطلب تدخلاً خارجياً.
كما أن اتفاق الصخيرات استهدف ترتيب الأوضاع بليبيا لمدة انتقالية، يتم خلالها الإعداد لتأسيس نظام سياسي جديد، وحدد الاتفاق مدة ولاية حكومة الوفاق بعام واحد، يبدأ من تاريخ اعتمادها من مجلس النواب مع عدم جواز التجديد لها إلا لعام واحد فقط، في حال تعذر صياغة الدستور. ونظراً لعدم تنفيذ معظم استحقاقات المرحلة انتقالية وفقاً للاتفاق، فإنه يكون قد فشل عملياً، ولا يجوز الاعتداد به كسند لشرعية حكومة الوفاق، ففوض مجلس النواب الجيش الوطني الليبي في استكمال تحرير طرابلس من الميليشيات المسلحة.
كذلك أكد معظم الليبيين رفض اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، ورفض تدخلها العسكري في بلادهم.
تنديد عربي
أعلنت المملكة عن رفضها وإدانتها للتصعيد التركي الأخير في الشأن الليبي، منددة بموافقة البرلمان التركي على إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، وعدّت ذلك انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن الصادرة بشأن ليبيا، وتقويضاً للجهود الدولية الرامية لحل الأزمة الليبية، ومخالفة للموقف العربي الذي تبناه مجلس جامعة الدول العربية بتاريخ 31 ديسمبر 2019م، وأن هذا التصعيد التركي يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار في ليبيا، وتهديدًا للأمن العربي والأمن الإقليمي، كونه تدخلاً في الشأن الداخلي لدولة عربية في مخالفة سافرة للمبادئ والمواثيق الدولية.
ورأت وزارة الخارجية المصرية أن تمرير البرلمان التركي للمذكرة المقدمة من أردوغان بتفويضه لإرسال قوات تركية إلى ليبيا، جاء تأسيساً على مذكرة التفاهم الباطلة الموقعة بين السراج والحكومة التركية، وحذرت من مغبة أي تدخل عسكري تركي في ليبيا.
كما دعت مصر لوقف إطلاق النار في ليبيا في 06 يونيو 2020م، لكن تركيا رفضت ذلك، لذلك أكد الرئيس المصري في رسائل مصرية إلى تركيا أن مصر كما هي جاهزة للسلام وترعاه فإنها جاهزة أيضاً لخيار الحرب إذا استمر تعنت تركيا والإسلاميين، كما شدد في 20 يونيو 2020م، في مبادرة القاهرة أن أي تدخل مصري مباشر في ليبيا بات شرعياً، مؤكداً أن جاهزية القوات المصرية للقتال صارت أمراً ضرورياً.
وعدّت جامعة الدول العربية قرار البرلمان التركي إذكاءً للصراع الدائر في ليبيا، وقالت إن هذا التصعيد العسكري سيفاقم الوضع المتأزم هناك، كما يهدد أمن واستقرار دول الجوار الليبي والمنطقة ككل بما فيها المتوسط، وأكدت على أن التسوية السياسية هي الحل الوحيد لعودة الأمن والاستقرار إلى ليبيا.
كما أعرب المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي باجتماعه الرابع والأربعين في مكة المكرمة، عن إدانته التدخل التركي في الشأن الليبي، منددًا بقرار البرلمان التركي في هذا الشأن.
أما مجلس النواب الليبي ورئيسه عقيلة صالح، فسارعوا فور توقيع الاتفاق بين السراج وتركيا للتأكيد على عدم شرعيته، ووجهوا خطاباً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يتضمن خطورة الاتفاق على الدولة الليبية، وخطاباً لأمين عام جامعة الدول العربية، لسحب اعتماد حكومة الوفاق، واعتماد الجسم الشرعي الوحيد وهو مجلس النواب.
تنديد دولي
القلق من توسع المدّ التركي في ليبيا، تجاوز حدود القارة الأوروبية ليصل مداه إلى الولايات المتحدة، وهو ما يعكسه الإعلان الأميركي شبه اليومي أخيراً، عن اتصالات رفيعة المستوى يجريها مسؤولون في واشنطن مع نظرائهم الأتراك لمناقشة التطورات الأخيرة في الغرب الليبي.
وأفاد البيت الأبيض في بيان له أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعرب لنظيره التركي، خلال اتصال هاتفي، عن قلقه إزاء تفاقم التدخل الأجنبي في ليبيا وضرورة التهدئة السريعة للقتال، كما أكد وزير الخارجية الأميركي في اتصال مع فائز السراج عن معارضة بلاده استمرار تدفق الأسلحة والذخائر التي يتم نقلها إلى ليبيا.
كما ساهم التدخل العسكري التركي في ليبيا في زيادة التوتر بينها وبين دول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حيث وجه مسؤول رئاسي فرنسي في حديث إعلامي اتهاماً لتركيا بخرق حظر فرضته الأمم المتحدة على تسليح ليبيا، وبزيادة وجودها البحري قبالة ساحلها، ولا يمكن لفرنسا قبول ذلك.
لكن في حقيقة الأمر نجد أن الموقف الأوروبي تجاه ليبيا يعاني من الانقسامات، جراء وجود حالة من اختلاف المصالح أو تعارضها، فتشترك الدول الأوروبية في مخاوفها من التقارب الروسي – التركي في ليبيا وتهميش المصالح الأوروبية، لكنها أيضاً تعاني من تنافس المصالح فيما بينها.
كما أعرب المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي في 19 مايو 2020م، عن قلقة جراء تدخل تركيا في القتال في ليبيا، رغم اتفاقية برلين بوقف إطلاق النار.
وحذرت الأمم المتحدة من التدخل الأجنبي في ليبيا، لكنها لم تذكر تركيا بالاسم، رغم انتهاك الأخيرة لقرارات المنظمة بشأن ليبيا.
كما أكدت رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إن ما نشهده من التدفق الهائل للأسلحة والمعدات والمرتزقة، يجعل الاستنتاج الوحيد الذي يمكننا استخلاصه هو أن هذه الحرب ستشتد وستتسع وستتعمق أكثر.
وحذرت «دير شبيغل» الألمانية، في 24 مايو 2020م، من أن التدخل التركي في ليبيا يحولها إلى نقطة انطلاق للاجئين الأفارقة نحو أوروبا، وإمكانية استغلال أردوغان هذه الورقة لابتزاز أوروبا بملف اللاجئين، ما يعني ذلك تهديداً مباشراً لأمن القارة الأوروبية.
بينما الجانب التركي لم يأبه بهذه التخوّفات، ورفضت أنقرة التهديدات الأوروبية، في تصريحات لرئيسها أردوغان قال فيها: «لا يحق لأحد انتقاد سياسات بلاده في ليبيا»، معتبراً أن «تركيا تدافع عن مصالحها التي يهددها الجيش الوطني الليبي، بدعم من قوى خارجية معادية لتركيا».
وذهب فؤاد أوقطاي، نائب الرئيس التركي، إلى أن اتفاق بلاده مع حكومة الوفاق هو مشروع سلام يصب في مصلحة المنطقة، وفي لهجة لم تخلُ من تهديد، قال: نأمل أن يؤدي ذلك دوراً رادعاً، وأن تفهم الأطراف هذه الرسالة بشكل صحيح.
كما رحبت حكومة الوفاق بالخطوة التركية، مبررة ذلك أنها استعانت بشكل شرعي بالأصدقاء الأتراك للدفاع عن الشعب وحماية المدنيين.
روسيا وتركيا وتبادل المصالح
تنظر روسيا إلى الجيش الوطني الليبي بإعتباره الشريك العسكري الوحيد في ليبيا، ولن يكون أمامها أي مجال سوى الاستمرار في تزويده بالدعم العسكري الكافي الذي من شأنه أن يضمن عدم تحقيق تركيا وحكومة الوفاق انتصارًا حاسماً ضد الجيش الوطني الليبي الذي بدوره قد يضع نهايةً لطموحات روسيا في ليبيا حال توقفت عن دعمه.
لكن هناك مسألة معقّدة وغريبة بين روسيا وتركيا والتي من المرجح أن تلعب دوراً محورياً في علاقة الدولتين فيما يخص الملف الليبي، إذ إن روسيا وتركيا منخرطتان في تنافس وصراع إقليمي متعدد الأوجه والمستويات، ربما أبرزها في سورية، لكن الخوف من أن أي جهود لوقف إطلاق النار في ليبيا يقدم فرصة لروسيا وتركيا للعمل معًا وتعزيز شراكتهما الاستراتيجية في ليبيا على حساب المصالح العربية عموماً ومصلحة الشعب الليبي خصوصاً.
وبينما تعزز روسيا علاقاتها مع شرق ليبيا، نجد أن تركيا تبني وجودها العسكري ونفوذها في طرابلس، وقد يحاول كل من بوتين وأردوغان الاستيلاء على الدبلوماسية الدولية المعنية بليبيا من خلال عملية شبيهة بعملية أستانا، وتطغى بذلك المصالح الروسية والتركية على المصالح الليبية والعربية، وحتماً إذا لم يحدث تحوّل كبير في الواقع الليبي، فإن هاتين الدولتين ستحددان مستقبل ليبيا، خصوصاً مع عدم إظهار الولايات المتحدة انخراطاً جاداً في الملف الليبي، وكذا أوروبا المنقسمة من دون سياسة مشتركة وواضحة، وتحرك عربي بطيء ومتأخر.
يدعم هذا التحليل محدودية التحركات الروسية التي ما هي إلا محاولة لإيجاد موطئ قدم لها داخل ليبيا لتكون جزءًا من أي حل مقبل.
فالتوافقات الروسية - التركية في مستوياتها الطبيعية، بداية من التعاون في الشأن السوري، وانتهاء بصفقة (إس 400)، كل ما سبق يدعم فكرة بقاء الوضع الليبي كما هو عليه، لا تسوية شاملة، ولا حرب كاملة.
ضبابية الموقف الأميركي
في ظل حالة الفوضى السياسية والأمنية على مستوى الساحة الليبية، نجد أن الموقف الأميركي متردداً وغير واضح مكتفياً بدور المراقب، وذلك في مقابل الدور التركي المتنامي عسكرياً، والذي يهدد المصالح الأميركية والأوروبية والعربية عبر محاولته وضع كامل ثقله العسكري للحصول على ثروات شرق المتوسط وجنوبه.
وربما حصلت تركيا على ضوء أخضر من واشنطن لزيادة تغلغلها العسكري في ليبيا لتحقيق ما أسماه السفير الأميركي في ليبيا إعادة التوازن العسكري بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، ومواجهة التدخل الروسي الداعم لقوات الجيش الوطني الليبي، ومنع روسيا من إقامة قواعد عسكرية دائمة في ليبيا خشية التوسع في سيطرتها على منطقة المتوسط والشرق الأوسط التي تعد منطقة نفوذ غربية صرفة.
إذاً الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إيجاد تسوية سياسية قابلة للتنفيذ، وتساهم في تطبيقها الدول الأعضاء في حلف الناتو والدول العربية بعد تحديد رؤية موحدة ومتوافق عليها من الجميع لدعم حل سياسي تفاوضي، وإنهاء العوامل التي تؤدي للتصعيد العسكري، وحالة عدم الاستقرار.
ختاماً.. من الواضح أن الوصول إلى حلّ في ليبيا ازداد تعقيداً، لكثرة اللاعبين الدوليين المؤثرين في هذا البلد، رغبةً من كل لاعب أن يفرض رؤيته التي تحقق مصالحه بمعزل عن مصلحة الشعب الليبي وحقوقه المشروعة.
ومن غير المرجح أن تفلح الجهود الأممية على المدى القريب والمتوسط في وضع حدّ للنزاع الدائر في ليبيا، في ظل عدم تجاوب الطرف التركي الداعم لحكومة الوفاق، ونزوعه للخيار العسكري لتعظيم المكاسب قبل التوجه إلى طاولة المفاوضات، مما يجعل الانقسام الجغرافي للأراضي الليبية مرشحاً للاستمرار لفترة ليست بالقصيرة.
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يردع الطرف التركي ويجعله يجنح إلى تهدئة الصراع والعمل على بناء ليبيا قوية ديموقراطية هو التفكير الجاد للدول المؤثرة وخصوصاً الولايات المتحدة لإيجاد حل عادل يصب في مصلحة ليبيا والليبيين، إلا أن التاريخ والواقع يُنبئان أن الإنسان هو آخر ما تفكر فيه تلك الدول، وأن مصلحة الأمن القومي العربي في ذيل اهتماماتها، بل خارج اهتماماتها من الأساس، وما سورية عنا ببعيد.




---
جريدة الرياض
http://www.alriyadh.com/1834358]لقراءة الخبر كاملاً فضلاً اضغط هنا[/url]