يستمد من الإسلام روحانيته ومن الهندسة دقته
الخط العربي إبداع بلا حدود
الخط العربي آية في الجمال والروعة، إبداع بغير نهاية، ففي كل اللغات يكون الخط وسيلة لنقل المعاني، بينما الخط العربي وسيلة وغاية، أخذ من الطبيعة نضارته، ومن الهندسة دقته، ومن العمارة هويته، ومن العقيدة الإسلامية روحانيته ونورانيته، تتعلق به الأنظار حيث تراه بعد أن بلغ من الفن منتهاه، تقف أمامه العيون طويلا، وتتأمل أسراره تفصيلا. عمل جميل جليل، تستريح له النفوس والقلوب، زينة وزخرفة للجدران والأبواب وحسن ومهابة للمنبر والمحراب.
عطلت مسيرته في الجاهلية حياة القتال والترحال وبعد ظهور الإسلام صال وجال، وامتدت فروعه في جميع الاتجاهات وتعددت صوره وأشكاله بمرور القرون حيث استخدم في كتابة المصحف الشريف والسنة النبوية والمراسلات والدواوين والعلوم المختلفة.
ظهر في منطقة الحجاز قبل الإسلام بقرن من الزمان، وقبل ذلك على أطراف الجزيرة العربية في الشرق والشمال والجنوب لاختلاط سكانها بحضارات الفرس والروم واليمن، تعلم البعض في مكة والمدينة والطائف من خلال رحلاتهم وكتبوا به الألفاظ العربية وقيل إن خط النسخ ولد من النبطي، والكوفي من السرياني، أول من تعلم في مكة بشر بن عبد الملك الكندي من الأنبار وتزوج من أخت أبي سفيان بن حرب وعلم بعض القرشيين.
وعند ظهور الإسلام لم يكن في مكة من يعرف الكتابة سوى بضعة عشر رجلا منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.
ومن أهم الآثار الباقية من صدر العصر الإسلامي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وهو محفوظ في خزانة الأمانات المقدسة في متحف “طوب قابي” في مدينة اسطنبول التركية.
بدأ الاهتمام بالخط العربي في المدينة المنورة مع بداية دولة الإسلام بعد الهجرة النبوية المشرفة.
وتطور مع ترتيب أمورها وتنظيم أحوالها وحركة جيوشها وفتوحاتها شرقا وغربا، وتخطى الاهتمام بالكتابة حدود الجزيرة العربية إلى سائر الأقطار التي دخلها الإسلام في عصر الخلفاء الراشدين ثم والأموي والعباسي.
الرواد الأوائل
وضع أبو الأسود الدولي قواعد النحو العربي بتكليف من الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه كما حدد حركات الإعراب “الرفع والنصب والجر” على هيئة نقاط ملونة.
وقام تلميذه نصر بن عاصم، ويحيي بن يعمر بوضع النقاط على الحروف العربية بالشكل الذي نراه اليوم، وظل المسلمون يقرأون مصحف عثمان بن عفان لمدة 40 عاما بالفطرة اللغوية السوية ولم تكن حروفه مضبوطة ولا منقوطة.
وأرسى الوزير العباسي ابن مقلة (272 328 ه) دعائم الخط العربي وهندسته، ويرجع إليه الفضل في وضع أسسه وقواعده، ونسخ القرآن الكريم مرتين، لكن كتب تاريخ الخط العربي وآثاره لم تحفظ لنا شيئا مما كتب.
جاء من بعده علي بن هلال “ابن البواب” الذي طور نظام الخط وعرفت طريقته بتناغم الخطوط والحروف، نسخ القرآن الكريم 64 مرة، وكان والده بوابا لدار القضاء في بغداد، عاش في القرن الثالث الهجري.
ومن أشهر خطوطه الريحاني والمحقق، وأنشأ مدرسة للخط العربي وجاء ياقوت المستعصمي “ت 699 ه” من هضبة الأناضول في تركيا ليواصل المسيرة، طور ياقوت الخط واهتم بالبعد الجمالي وتخرج على يديه 6 تلاميذ من كتاب، الثلث، والنسخ والتعليق والريحاني، والمحقق، والرقاع. ولا تزال آثاره في مكتبات اسطنبول وطهران.
وجاء من المنطقة نفسها في تركيا الشيخ حمد الله الأمامي (ت 690 ه) كتب القرآن الكريم 47 مرة بأحجام مختلفة، كما كتب آيات الذكر الحكيم على جدران المساجد وعلى المسابح، ومن آثاره خطوط محراب جامع يزيد في اسطنبول.
الكوفي والنسخ
ظهرت عشرات الأنواع والأشكال من الخطوط العربية، وينسب عدد كبير منها إلى المناطق التي ظهر فيها (المكي والمدني والأنباري والكوفي والبصري والحيري والحميري والفارسي والأندلسي).
ومن اشهر أنواعه الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة في العراق وهو خط جاف، حاد الزوايا، مستقيم له طابع هندسي، انتشر في جميع الأقطار الإسلامية واستخدم في كتابة القرآن الكريم على مدار 5 قرون، زينت نهايات حروفه بعد ذلك بزخارف نباتية وكتب على أرضيات من أغصان النبات وأوراقه، كما ظهر الخط الكوفي المضفر بحروفه المتداخلة.
ومن أشهر الخطوط “النسخ”، وهو مستدير الحروف استخدم في المراسلات وأعمال الدواوين، ومنها خط الثلث والرقعة والريحاني والديواني، وأكثر الخطوط اللينة رشاقة “النستليق” وهو خليط بين النسخ والتعليق، وانتشر في إيران خلال القرن الخامس عشر، واستخدمه الخطاط الإيراني مير علي في القرن الثالث عشر الميلادي في كتابة ملحمة الشاهنامة للفردوسي التي قضى في تأليفها 36 عاما وتشمل 60 ألف بيت وتروي تاريخ الفرس حتى الفتح الإسلامي.
وفي العصر العثماني ازداد الاهتمام بتركيب الجمل والأسماء خاصة للحكام والسلاطين.
اهتمام أوروبي
جذب الخط العربي اهتمام الفنانين الأوروبيين بملامحه الزخرفية وأبعاده الجمالية فاستخدموه في لوحاتهم وتحفهم ومبانيهم ونقلوا بعض الكلمات والعبارات العربية، ومثال ذلك مجموعة التحف الأوروبية، ومنها صليب أيرلندي مكتوب عليه “باسم الله” يرجع إلى القرن التاسع الميلادي، كما انتشرت الزخارف والخطوط العربية على المنسوجات الأوروبية والعملات المعدنية التي ظهرت في مدينة البندقية الإيطالية، وحملت كلمات عربية وآيات قرآنية وسميت بالعملات العربية البيزنطية.
كما اشتملت لوحات الفنانين الإيطاليين على كلمات عربية منها أعمال المصور جيوتو (1276 1337م) وهو من رواد فن التصوير الأوروبي، والمصور الفلورنسي فيليبو ليبي (1406 1469م) الذي استخدم الخط العربي في لوحاته وعلى ملابس شخصياته.
ولا يزال الخط العربي محل إعجاب واهتمام الفنانين العالميين حتى الآن بدراسته وتحليل كتابته، ومنهم الفنان الإنجليزي أنتوني جوزيف، والياباني كونتشي هوندا.
تجويد وتجديد
اهتم المسلمون في كل زمان ومكان بكتابة القرآن الكريم تماما كما اهتموا بحفظه وتلاوته، وأثمر هذا الاهتمام ما تحت أيدينا من هذا التراث العظيم من الخطوط العربية.
وساهمت ثلاثة عناصر أساسية في تطوير الخط العربي وتجويده وتجديده هي: العاطفة الدينية التي تجيش في صدر الفنان المسلم، وتحركه في هذا الاتجاه بقوة وإيمان. والخشية من شبهة التحريم في تصوير الكائنات الحية مما دفعه إلى تفريغ الشحنة في أعماله ولوحاته، وشخصية الحرف العربي وقابليته للتشكيل سواء كوحدة زخرفية مستقلة أو مع غيره من الحروف والكلمات.
وأسهمت في تطوير الخط العربي جميع الدول العربية والإسلامية وأنشئت له المدارس والمعاهد، ومنها المدرسة الملكية للخط العربي التي تأسست في القاهرة 1923م، ونظمت له المعارض والمسابقات، ومنها المسابقة العالمية التي تنظمها تركيا كل عام، كما أقامت مكتبة الإسكندرية لأول مرة مركزا بحثيا متخصصا في الخطوط العربية.
وفنان الخط العربي لا يكتب أي شيء يعرفه أو يصادفه، لكنه يدقق ويفكر ويحسن الاختيار، يبدأ بآيات الذكر الحكيم، ثم سنة النبي الكريم، وبعد ذلك يبحث عن خير ما قيل من كلام الأنام وحكمة الأيام والأعوام.
ويبدو الخط العربي كأنه كائن حي، يعيش على قدمين، أو يطير بجناحين، أو يورق ويزهر أو يعقل ويفكر، لوحاته لحن عذب الأنغام، وصوت تطرب له الآذان، وقد يختلف العلماء في أمر تاريخه ونشأته، لكنهم يتفقون على تقدير قيمته وعبقريته.
القاهرة - “الخليج”:
المفضلات