ماذا يعني أن تكون ابن مزارع من الجزيرة؟؟؟؟؟
كثيرة هي تلك المؤثرات التي تترك بصماتها على حياة الفرد ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن سيقان وأرجل سكان المناطق الجبلية قوية وذلك لكثرة تسلقهم للجبال، وأن أقدام سكان المناطق الصحراوية عريضة وعيونهم صغيرة في الحجم تكسوها رموش غزيرة وكثيفة تمشيا مع طبيعة البيئة، وهناك صفات يكتسبها الفرد بصفة مؤقتة تدوم تلك الصفة بدوام المؤثر وتبقى لفترة ليست قصيرة حتى بعد زوال ذلك المؤثر، فمثلا تجد أن من يقطنون ضفاف النيل خاصة في شمال بلادي يلوحون بأيديهم بقوة وبسرعة شديدة أمام وجوههم طردا لكل ما يحسبونه ذا لسعة سريعة مثل النمتي، ونجدهم يمتازون أيضا بقوة عضلات الصدر حيث السباحة متوفرة لديهم أكثر من غيرهم، وتجد سكان مناطق الغابات يسيرون في شكل طابور..... يسير الواحد وراء الآخر.... لضيق الطرق بالغابة فتصبح تلك عادة بالنسبة لهم حتى ولو سكنوا المدن ذات الشوارع الواسعة، وهناك التأثير أيضا على التركيبة إذا كانت الأرض سهلا منبسطا يمكن للفرد النظر حتى خط الأفق وفي هذا محمدة حتى على التفكير ووجهات النظر والنظرة المستقبلية.
تلك هي مسببات بيئية تترك أثرا خارجيا على تركيبة الجسد وبعض حركاته الفيزيائية، وقبل أن نخوض في سرد الآثار الداخلية للبيئة على الإنسان وخاصة بابن المزارع، نعرج قليلا على بعض الملامح التي تكونت على وجه وشكل إنسان الجزيرة نتيجة بيئته الزراعية.
إنسان الجزيرة بصفة عامة يمتاز بانبساط أسارير الوجه فنجد الوجه بصفة عامة مستو لا تجد فيه نتوءات بارزة واضحة لحجب الغبار أو تغطية العين بجفن سميك يقيه من حرارة الشمس، غير أن الوجه في منطقة الجبهة يكون مرنا للتكيف عرضيا بمرونة واضحة عند حدقات العين لتوسيع وتضييق العدسة، ولا تكون العين متسعة في الجوانب فالتركيز جميعه إلى الأمام لعدم وجود تضاريس في الطبيعة حوله تخيفه أو تحتوي على ما يمكن أن يهدد حياته، فالأرض سهلة ولذلك تكون نظراته مشدودة إلى الأمام، وهذه المرونة في عضلات الجبهة أدت إلى أن تكون معظم تجاعيد وجهه طولية وليست عرضية قد تتمثل بالرقم (11) بين العينين أو أحيانا (111)، ويؤدي ذلك إلى اهتمامه فقط بإضاءة الطريق أمامه فلا يهتم بالديكور والأشياء الجانبية، وقد يمر بمعظم المدن في أي مدينة فلا يلقي بالا لما حول تلك الشوارع من معالم إلا إذا كانت متقاطعة مع خط سيره، فيفرح جدا إذا اشتمل الوصف لأي موقع على معلم يتقاطع مع مساره، وقد يتوه إذا كثرت الملفات لأنه لا يهتم بالمَعْلَم، فالأرض في تكوينه سهل منبسط لا يحتاج إلى المعالم أو هي خالية أصلا من المعالم المصنوعة، فكل شيء يراه على مد البصر، هذا بالنسبة للمزارع ومن يعمل بالزراعة بالجزيرة أو المناقل أو الرهد وتقل تلك التعرجات عند غير ساكني الجزيرة فنجدها تميل إلى العرضية أكثر، وتأثير الأرض ولزوم المشي حافيا في الطين (الجزيري) يؤدي إلى أن تكون قدم المزارع أكبر قليلا وسميكة في البشرة عن تلك التي لغيرهم في المناطق الأخرى، ونجد أن بشرة المزارع بتعرضها المستمر إلى أشعة الشمس أكثر استجابة للتغيرات البيئية، فلو غاب المزارع عن الشمس لفترة وجيزة تتلاءم بشرته بسرعة مع البيئة الجديدة (بلا شمس) بالعكس من الاخر غير ساكني الجزيرة، الذي سيحتاج إلى فترة أطول، وقد تتلاشى تلك الفوارق البسيطة إذا استعمل الناس العاملون بالمزارع الواقيات الطبيعية من نظارات شمسية وقبعات واقية من الشمس وأحذية سلامة، وقفازات واقية للأيدي، غير تلك الآثار الناجمة من الاحتكاك المستمر من آلة الزراعة يدويا باليد واثر بعضها على المشي، بالإضافة إلى تأثير البيئة بصفة عامة على القوام ومقاس الخطوة والتعامل مع الثوب تطويلا أو تقصيرا في حالات الطين والمطر والبرك المائية الصغيرة ولزوم القفز أو الخوض.
هذه التأثيرات البيئية أدت إلى أن يكون الولد في كثير من الأحيان شبيها لأبيه لتعرضهما لنفس المسبب الحياتي البيئي، وان تكون البنت تشبه في الغالب أمها، وحيث أن الجزيرة وسط متداخل من كل الأجناس فبالملامح المكتسبة بيئيا يمكنك التعرف على إنسان الجزيرة. فلو اختلطت عليك الأمور في تحديد هوية شخص ما (سوداني) فيمكن تحديد إن كان هو من الجزيرة أم لا بمبدأ أو نظرية الـ (Deduction) وهو استبعاد كل الاحتمالات المبنية على قرائن معروفة سلفا من الشاهد ...فما تبقى هو الحل...بمعني استبعاد أن هذا الشخص من منطقة جبلية، واستبعاد أنه من منطقة صحراوية، أو من منطقة رعوية، أو من منطقة غابات، فما تبقى فهو من أهل الجزيرة. وبصمات الجزيرة قوية جدا فالجزيرة بيئتها تلك مؤثرة خارجيا على القادم إليها والذي يمكث فيها لفترة ( 05-10 سنوات).
وتأثير الجزيرة على الشخصية والمكونات الداخلية واضح:
بما أن الجزيرة قبل المشروع كانت منطقة رعوية، وفي الغالب كانوا يرعون الإبل، فان الرعاة مشهورون خاصة رعاة الإبل بحب الحرية، وعدم التقيد بالقوانين، ويميلون دائما إلى القوانين المكتسبة من القبيلة أو من المجموعة التي يتشارك فيها الفرد معاشه، فلا يحس بالأمن إلا من خلالها أو هكذا تأصلت فيه هذه الظاهرة وتركت بصماتها عليه، فنجد إنسان الجزيرة أكثر سكان السودان تعطشا للحرية ونجده حساسا جدا لأي شيء يمس تلك الحرية تقييدا أو بسطاً، وبما أن الجزيرة كانت تعتمد مباشرة في مواردها على الأمطار نجد أن إنسان الجزيرة أكثر الناس تفاعلا بمسببات زيادة الرزق من زكاة وصدقة وهدايا، ولان إنسان الجزيرة محفوف بكثير من المناسبات التي تستوجب تواجد المجموعة معه فرحا أو حزنا نجده أكثر سكان السودان تداخلا في مجتمعه متفاعلا به فمرة إنتاج وفير ومرة بلا إنتاج ومرة محصول تعرض للغرق ومرة محصول تعرض للحريق..هذا بالإضافة إلى تلك المناسبات المتوفرة في بقاع السودان الأخرى.
فكثرة المناسبات تتطلب تضافر الجهود مجتمعة من مجتمعه، وهذا خلق جوا صالحا للتداخل والتواصل وللتنافس المكشوف وعلى الواضح، وذلك بالاضافة الى الأعياد المتكررة التي تغمر حياته فرحة باستلام عوائد المحصول.
ولان إنسان الجزيرة يرتبط عمله وتعطله عن العمل بالمطر وأحوال السماء، نجده أكثر الناس اهتماما بالارصاد ومعرفة أنواع السحب المسببة للمطر وقد يعرف أن اليوم سيكون ممطرا من سحابة صغيرة عرف شكلها ولونها وقد يعرف ذلك من درجة الحرارة في الجو.....فنجده في ذلك اليوم لا يخرج للمزرعة وهو متأكد من هطول المطر ذلك اليوم، فينزل المطر بإذن الله حسب توقعه. ..... كنا نمثل علماء في الإرصاد لزملائنا من المناطق الأخرى، وإنسان الجزيرة مشهور بالصبر، كيف لا وهو يبدأ في مباشرة تنمية محصوله وفجأة تأتي الأمطار وتغير كل موازينه، فيبدأ من جديد، ومن نفس المكان الذي بدأ منه قبل أسبوع، وقد يتكرر ذلك ولكن بلا يأس فهو سيصل إلى النهاية، فقد تعلم ذلك في السنوات الماضية.
تعلم انسان الجزيرة من ذلك كله ألا يقول "هذا مستحيل" ....أو أن هذا العمل كثير لا يمكنني أن أتمه وقد انطبق ذلك كله على جميع مجالات حياته في (العمل أو عند قراءة كتاب أو مرجع...او في المقررات المدرسية )، فإنسان الجزيرة تعلم ذلك وعرف أن البداية لكل شيء هي نفسها النهاية لذلك الشيء، فقط أبدا وتوكل على الله، لذا كان توكله على الله دائما في القمة.
ونجد أن إنسان الجزيرة يميل دائما إلى الاستصلاح، فلا يعرف المستحيل خصوصا فيما يتعلق بكل ما هو منتج، وإعادة التأهيل أصبحت ميزة تعيش في داخله فلا يؤمن بأن هذا قديم انتهت مدته الافتراضية.
كانت المقولة في الماضي أن الناس الذين يسكنون على سواحل البحار أو في الضفاف وشواطئ الأنهار هم أكثر الناس ذكاءً، نسبة لوجود اليود باستمرار في الأسماك التي يتناولونها غذاءً لهم ونسبة أيضا كما تقول النظرية لوجود اليود في الجو في الليل في الضفاف فيمتصه الجسد وهو نائم واليود من المواد التي تؤدي إلى توسيع مساحة سطح الخلية العصبية المكون الرئيسي للدماغ، فيزداد الذكاء، وتقل نسبة اليود وكذلك الذكاء كلما بعد الناس من الأنهار والبحار، ولكن ابن الجزيرة ومن قلب الجزيرة في المدارس ودور العلم يكون الأول على اقرأنه من المناطق الأخرى حول الضفاف،
هناك اختلال في النظرية، قد يكون اليود فعلا من العوامل التي تزيد الذكاء، ولكن نحن نعزو ذكاء ابن الجزيرة إلى عدم وجود الحواجز أمام تفكيره، ارض سهلة منبسطة فلا تعرجات ولا التواءات، ولأن إنسان الجزيرة يمتثل ولو عن غير قصد بمكونات الغذاء الرئيسية من بروتين ويود ونشويات وخضار، ولحسن الحظ أن معظم الأمراض المستوطنة في الجزيرة ليس لها تأثير مباشر على الدماغ، إلا إذا تطورت الحالة ، ولكن بوعي إنسان الجزيرة وفطنته تنبه لذلك فصار ينادي كل يوم أن أنقذونا من الملاريا..... ونجد بذلك إنسان الجزيرة اقل الناس تعرضا لأمراض القلب والسكر والشرايين، ونادرة هي حالات الصرع والجنون.
مشهور إنسان الجزيرة بالتصالح مع بيئته، فيعرف أنها ستعطيه إن أعطاها وستمنعه إن منعها، فنجده من أكثر المنادين بصحة البيئة وذلك لإحساسه بتأثيرها المباشر على حياته، فلا يتصالح أبدا مع الذباب أو الجنادب أو الجراد. ونجد إنسان الجزيرة متصالحا مع نفسه فلا تبهره الأوان الساطعة ولا البهرجة ويميل دائما إلى اختيار الألوان الهادئة وفي الغالب لن تجده يلبس لبسا به أكثر من لونين، وتكون دائما أزياؤه متناسقة فلن تجده مثلا يلبس بنطلونا أسودا وقميصا أخضرا بشرابات صفراء أو مع كرافتة سوداء فتحس دائما الانسجام في اختياراته في الألوان ولو لم يدرس ذلك من الناحية النفسية. وإنسان الجزيرة ميال إلى الطرب والتطريب وذلك لزوم انسجامه مع زرعه ومع محصوله فنجد أن أشهر المبدعين نشأوا في الجزيرة.
أن تكون مزارعا أو ابنا لمزارع أو مجاورا لمزارع في الجزيرة أو المناقل أو الرهد فمعناه انك تضم بين جنباتك كل مقومات الحياة ، فأنت تمتلك الفكر، الضمير، محبة الخالق، معرفة القدر والإيمان بالغيب، والمحبة للآخر وتقدير الوالدين والاحترام الزائد للأرض ومن يعمر الأرض وأنك تكره الظلم والتغول على حريات الآخرين وكل القوانين المقيدة للحريات، وانك أكثر الناس شفافية في تعاملك، ومستقر في مظهرك وفي سلوكك، وأنك كريم وتحب لغيرك الخير، وانك حر التفكير بلا قيود وأن نظرتك دائما هي إلى الأمام وفي البعيد في المستقبل وانك إنسان مملوء بالأمل . وقد تكون صفة أن نظرتنا دائما إلى الأمام هي أيضا واحدة من عيوبنا حيث لا ننظر لمن حولنا أين كانوا وكيف أضحوا على ما هم عليه من نعيم وسعادة.
المفضلات