ثقوب فى ثوب العيد
- راتبك =/650.075 جنيه يا عم عبدالصبور .. لو سمحت .. أختم يا أبوي .
- ناقص قريب من 50.000 جنيه .. الحكاية شنو .. الشهر دا .
- لا يا عم عبدالصبور .. مخصوم منك أول قسط من السلفية .
- آه .. الله يلعن أبو السلفية .. هو نحن ناقصين الشهر دا .
- أختم يا أبوي .. ..
وضع ختمه علي الكشف .. ومد يده اليمني واستلم المبلغ واستدار .
***************
عند البوابة التي تفصل الخط الحديدي عن الطريق العام توقف عبدالصبور بدراجته الهوائية أمام بائع فاكهة وطلب منه بعضاً من الموز والبرتقال .. ونظر يمينه فرأي موظفاً شاباً ينضح بالحيوية والشباب والنضارة .. مهندم الملابس .. واقفاً أمام بائع فاكهة آخر .. فحدث نفسه :
" هل يأتي اليوم الذي تكون فيه موظفاً مثل هذا يا أحمد يا بني "
وأمعن النظر فيه واسترسل فى حديث نفسه :
" أنه فى مثل عمر أبنتي الكبرى .. ويعمل موظفاً ويتقاضى راتباً ربما أضعاف ما أتقاضاه أنا .. وربما لم يكن لديه مثل أعبائي .. أسرتي هنا ووالدتي العجوز بالقرية .. ثمانية أرواح تنتظروني أول كل شهر لأدخل عليهم بهذه الوريقات المعدودة والتي يذهب نصفها فى إيجار البيت والباقي لحساب الدكان وإستهلاك الكهرباء والماء .. وما أدراك ما تبقى من هموم المصاريف الأخرى .. والكتب والمدرسة .. آآآآآآآآه .. آآآآآآآآآآآآه .. ليت والدي كان قد أجبرني على أن أكمل تعليمي "
وقطع عليه حبل أفكاره بائع الفاكهة .. فأخذ الأكياس ووضعها خلف الدراجة .. وسار على قدميه يجر دراجته بيده اليمني .. وعند المنعطف لفت انتباهه نفر من الناس تجمهروا حول قطيع من الضأن .. وارتفع لغطهم وضجيجهم في مساومة على أحد الخراف حتى وصل السعر إلى=/265.000 جنيه وتمت البيعة .. فتمتم عبدالصبور فى سره :
" 265.000 جنيه ثمن خروف واحد .. بل حملا صغيراً .. ملعون أبوكي فلوس .. "
ولم ينتظر كثيراً فقد أثقل كاهله هذا المنظر وهذه الصفقة .. فانطلق بدراجته .
***************
عند باب الدار كان بانتظاره أطفاله الصغار فى عيونهم الفرحة الممزوجة بالبراءة رغم ما عليهم من ملابس بالية .. وتحلقوا حول الدراجة وهم يتصايحون ويقفزون فى محاولة لأخذ الأكياس .. وعبدالصبور ينظر إليهم بعيون غائرة وجفونٍ تكورت لإنحباس الدموع فيها .. وشرد بذهنه وهو يتأمل تهافتهم عليه وفرحتهم بحضوره وفى مثل هذا اليوم بالذات .. فهو يوم الفتح عليهم .. .. ينتظرونه ثلاثون يوماً أو تزيد يوما آخر ليذوقوا طعم الفاكهة .
***************
- أبو أحمد باقي للعيد أيام وما اشترينا خروف .
عاد من غياهب تفكيره اللا محدود ونظر إليها نظرة ذات مغزى .. وقال :
- يا أم أحمد باقي من الماهية =/ 285.000 جنيه بعد ما دفعت حساب الدكان أهو " أخرج المبلغ من جيبه ووضعه علي طاولة صغيرة أمامه " وما تنسي باقي إيجار البيت واستهلاك الكهرباء والماء.
- فرجك يا رب " تمتمت بها وهي واضعة رأسها بين كفيها .. ثم واصلت " لكن لازم نشتري خروف الضحية .. من أجل الأولاد الصغار .. حتى لا تموت الفرحة فى عيونهم .
- والله يا أم أحمد اليوم أنا واقف علي خروف ـ حميل ـ اشتروه ب=/265.000 جنيه .. معني كدا إذا حاولنا نشتري لن نستطيع أن ندفع إيجار البيت ونقضي باقي الشهر بدون مصاريف وما نشتري للأولاد ملابس للعيد .. وكمان نسلف عشان نتم باقى الشهر .
- لابد أن نضحي مثل كل الناس حتي لو نسلف .
- نتسلف ؟؟؟ !! نتسلف ؟؟!! أنت ناسيه أنا ماخد سلفية قبل شهر من المصلحة من أجل علاج صفية .. وناسية أنو عمك طالبنا أربعمية ألف جنيه .
- عمي ما مشكلة .. ولن يسأل منهم الآن .. المهم نفكر فى طريقة نشتري الخروف .
***************
توشح الكون بلون المغيب الباهت .. وزحفت الشمس نحو خدرها مودعة الوجود .. ذلك الوداع الذي سوف يعقبه انبلاج الفجر بابتسامة العيد وانطلاقة الفرح والحبور .. ذلك الوداع الذي سوف يعقبه إراقة الدماء قرباناً للعزيز الجليل والرب الرحيم .. فيا له من وداع يحمل بين أعطافه دعوات المعتمرين والمبتهلين لوجهه تعالي .. ويقرح أحزان البائسين من الفقراء والمساكين .. ويا له من وداع اجتمعت فيه الأضداد .. فما أتعس الآباء الذين يحسون بعدم مقدرتهم علي إيفاء متطلبات فلذات أكبادهم في مثل ذلك المغيب .. وكم هو قبيح وجه الألم عندما يرتسم فى عيون الأطفال وتغذيه الدموع المتلألئة فى الأحداق الصغيرة .
في ذلك المغيب وعندما اتكأت الشمس وقف عبدالصبور وهو عائد من المسجد أمام أبنه أحمد ونظر فى عينيه فأحس بقلبه ينقبض .. فعض علي نواجذه وقال يخاطب أبنه الغض :
- ما بك يا أحمد .. لماذا تبكي .
- الخر .. … الخررررررووف .. مات يا أبوي .
وهوت كلمة الموت علي الأب كوقع الحراب فى موضع الأذى فتمتم " لا حول ولا قوة إلا بالله .. رحماك يا رب " وولج إلي داخل الدار وعند الباب ألتقي بزوجته :
- يا أبو أحمد مصيبة وقعت فينا .
- استغفري الله .. كل ذلك امتحان من الله لنا .. وكل شي بيد الله .
- نحن ما صدقنا اتسلفنا واشتريناه .. يا رب سترك .
- فرجك يا رب .
- الآن ما هو الحلل يا أبو أحمد فكر معايا .
- والله أنا ما عندي أي استعداد اتسلف من أي كائن كان مرة أخري .
وساد صمت رهيب .. ثم وقفت أم أحمد ودلفت إلي داخل الحجرة وغابت بها لحظات ثم عادت .. ووقفت أمام عبدالصبور وخاطبته :
- أمسك ما في أي حلل خلاف أنك تأخذ الذهب دا تصرفه .
- مستحيل .. دا دهب أمك الله يرحمها وما ممكن نتصرف فيه .
- يا أبو أحمد ما في إنسان حا يسألنا منه فى الوقت الحاضر .. وأنت شفته حال أحمد .. وأخوانه لما يعرفوا حا يكون حالهم أصعب منه .. أنا لا أستطيع أن أراهم وهم يحسون بالنقص حتي فى العيد .
وانكسرت نظرات عبدالصبور وتشتت أفكاره .. وارتجفت أنامله وهو يمسك بالذهب من زوجته وتمالك نفسه وخـــرج .
( تمــــــــت )
( عصام عبدالرحيــم )
عصام الدين أحمد عبدالرحيم تابر
المفضلات