إيقـاعـات مرعبة
( تذكير )
" أيتها المدينة .. كل هذا بينما أنت تضحكين وتُغنين حولنا ..
مندفعة في سرور عارم ؟!! "
الشاعر الفرنسي بودلير
( الإيقـاع الأول )
هدأة الليل المغمور بإشعاع القمر المقهور تتمايل وتتأرجح حتى تنهار وتتحطم .. أمام زحـف الصقيع الموحش وهوج الرياح الرعناء فتتبدل السكينة الناعسة وتغير جلدها .. لتنطلق سهام البرد الموجع وتصفر الهوجاء معلنة ميلاد الخراب .. وأرجوحة الذكرى النتنة محفورة في داخل أعماق مخيلتي .. تتمايل وتتـئد حتى تبين وتتضح .. كقوس المطر المنبثق في أعقاب الغيث أيـام "النشوغ" إلى كنوز الخيرات في زمن العطاء المتدفق والسادر في غياهب السنين الجوفــاء .. وأحس بقساوة اللسعـات المنهمرة على جسدي الواهن المسلوب .. وخيوط الذكرى المتعفنة تحكم قبضتها على عنقي المشلول .. وأحاول جاهداً أن ألملم أطراف ثيابي لأدثر جسدي .. ولكن .. إذا بأناملي تلامس أوصالي وتستقر تحت أضلعي الملساء .. ولا أثر لبقايا أسمالي البالية والتي ضاقت ذرعاً بأوساخ جسدي المتقيح والمشتاق إلى الماء وأحسست بأحشائي تتقرّح ويزداد ضغط أصابعي عليها فيزيد من وجعها وإيلامها .. فآهٍ يا ألم الجوع الثائر في أمعائي .. وآهٍ يا كبدي الأسود المسموم .. وأحاول جاهداً أن أستجمع شتات أفكاري وأكبح جماح عقلي الشارد في عمق المأساة .. وأستدرك نفسي وأمري .. ولكن قسـوة الأيـام الفائتـة التي حفرت في أعماق أعماق مخيلتي تزيدني خوفاً ورعباً .. وعندما ضغطت على نفسي في محاولة للإحساس بواقعي المبتور .. إذا بأنين شيوخ يخر له جبين القمر .. وبكاء أطفال تتصدع له جبال العالم المسحور بزيف الشموس الخدّاعة .. والنائم على أنغام المادية الفتّاكـة .. وهمهمات نساء ثاكلات حائرات ضامرات الأثداء ترتسم الأحزان على وجوههن الصارخة المتضرعة للعطاء .. وإذا بلسـان حالي يقول " أيعقل أن تكون هذه المدينة التي سمعت عنها .. أحقاً هذه المدينة التي حدثنا عنها ذو الشأن والسلطان .. حديثاً ما زال يطن في أذني رغم قسوة الأيام وعذاب الرحيل المر .. حديثاً يطن في أذني وله وقع المجاديف تصارع الأمواج .. حتى خلتهم آخذونا إلى ( إرم ذات العماد ) وإذا بنا وسط الفيافي والوهاد " .. وهتفت أعماقي بصوت مسموع :
- لا يُعقل أن نسكن هذه الخيام ويقولون أنها مدينة للاجئين ..
وإذا بهيكل بجواري يتحرك محاولاً النهوض ولكن جسده المتهالك من طول الرحيل وقساوة التجربة .. وأخاديد وجهه الحاكية تجارب السنين .. وانحنـاءة ظهره حالوا بينـه وبين تحقيق حلمـه في الوقوف .. فاستند على مرفقيـه بإعيـاء شديد .. وأتاني صوتـه من وراء سنين عمره الضارب في صفحات التاريـخ :
- يا ولدي لا تصدق كل ما يقال .. واعلم أن حالنا والأمان قطبـان متنافران لا يلتقيـان .. وأدعو معي لنسأل الله أن يحفظ الإنسان من أخيه الإنسان .. .. وأن تتحملنا هذه الخيام .. ..
( الإيقــاع الثاني )
إرهاصات سوداوية تزج بنفسها في قاعي وتتكوّر .. وخواء يكاد يسلمني للقنوط .. " أحقاً هذا الذي تقول ؟؟ .. .. أسألك بحق السماحة المرتسمة على محياك أن تصدقني القول !! " ..
- يا بني أي صدق تريد وهل يعرف زمانكم الصدق ؟ .. ( وأصرخ مدافعاً )
- ما لزماننا .. إنه مملوء بالفرح الأخضر ومتوهج بالحسن الأغر .. إننا أبناء المدنية التي تسحق كل قديم .. وتحرق كل تخلف .. وتبني كل متصدع .. المدنية التي لم تنعموا بها .. كتب علينا أن نلعق شهدها بعد أن لسعكم نحلها .. إننا التطور والتجديد .. الحب والسخاء .. السلام والنماء .. العلم والضياء ..
وبهدوئه وسماحته التي أحسده عليها :
- لا تخدع نفسك .. فإن كانت خدعتك مدنيتك .. فانظر أمامك ..
وأرسلت بصري لأرى .. ويالها من مفاجأة .. إنها .. .. نعم إنها ‘‘ زلطة ’’ .. بلحمها وشحمها كما عرفتها منذ سنين .. ولكن .. تسيل الدموع من خديها الملطخة بالوسخ .. اليوم على غير عادتها .. تختلط دمامتها بقذارتها .. وشعرها الملفوف كلون ردائها الممزق عند الثديين ببلاهة .. كم أسأت لها هذه المسكينة .. وكم رميتها بالحجارة .. وأنا في طريقي إلى المدرسة .. ولكن لم أرها يوماً تبكي .. كنا نظنها لا تعرف الكلام والبكاء .. كانت أكبر من كل بذاءاتنا وسخافاتنا .. وكأنها خلقت من صخور ذلك الجبـل الحارس المدينة من عواتي الجن – كما كانت تحكي لنا جدتي ـ .. نعم .. أنها " زلطة " التى ولدت مع هذه المدينة .. وتشبه حجارتها وترابها .. فاقتربت منها أكثر وسألتها :
- لماذا تبكين يا زلطة ؟!
- لصوص .. سفلة .. أوغاد .. ...
انهالت تكيل السباب .. فذهلت وعاجلتها بالسؤال :
- من تقصدين .. ؟ .. ؟؟
- أولئك الذين سرقوا طفلتي .. الذين سرقوا أحشائي ..
- من تقصدين ؟ .. وأي طفلة تعنين ؟ " وبعصبية أجابتني .. "
- مولودتي التي أخرجتها من هنـا – وهي تشير بأصبعها – ألا تفهم يا هذا ؟!
وازدادت بذاءة أكثر حتى خجلت من نفسي .. وانكسرت نظراتي .. أتفحص قدميها المتشققة كجروف النيل في زمن المحل .. وعدت أسألها وأنا مازلت مطرقاً :
- ومن أين لك طفلة يا هذه .. ؟!
- لقد أنجبتها قبل يومين فقط .. ) وكشرت أنيابها وتطاير الشرر من عينيها .. وهمت أن تغرز أنيابها في لحمي .. وهي تصيح .. ) سوف تسألني أنت أيضاً .. سوف تقول لي من أباها ؟؟ .. ياسافل .. يا .. ..
واستحييت من نفسي أكثر وآثرت الهروب بجسدي .. وكان هو مازال واقفاً مكانه فابتسم في وجهي بوقاره المعهود .. وقال " هذه واحدة من تفاهات مدنيتكم .. ! " ..
عصام عبدالرحيم
عصام الدين أحمد عبدالرحيم تابر
** وسنلتقى احبتي مع بقية الإيقاعات ... ولكم ودي وتقديري .
المفضلات