أحاول الاقتراب أكثر فأكثر من( إزابيلا ) ومحاولة فهمها .. لماذا أنت غامضة ومترفة وأنيقة لهذه الدرجة يا ( إزابيلا ؟!) ..من أين جئت وكيف نشأت ثم ترعرعت ووصلت إلي هنا ؟ ..طيبة كجدتي مذعورة كالعصافير في بلادي ....دافئة في بلاد تنام وتصحو علي هسيس الثلوج المنهمرة بلا انقطاع ..وودودة كخالاتي وعماتي ..لا أسرار ولا ثراء ..كل هذه الحياة التي أحياها بشيء من الدعة تخفي وراءها مأساة وقضيه ..المأساة قضيتي أنا والقضية هي قضية شعب يناضل من أجل التحرر من ربقة الإقطاع والفساد والاستغلال ..وقصتي يا أويس تحتاج إلي فضاء أرحب من مقهى أل ( هاسيندا ) الضيق هذا .. ما رأيك لو انتقلنا إلي منزلي فأحكي لك حكايتي بكل ما فيها من تفاصيل موجعة وأخري مفرحة ..لا عليك سأدفع أنا الحساب لأن الرجل عندنا في السودان لا يسمح للمرأة بدفع الحساب بالمقاهي والمطاعم ..حقا ؟1 ليتني كنت امرأة سودانية فلا أكافح لأعيش ..علي الرحب والسعه ..ومن ثم تدحرجنا بعربتها الفارهة نحو منزلها المطّل علي نهر موسكو المنساب في هدوء وكأنه يحتفل ببزوغ القمر ربما بعد قرن من الغيوم ..أمرت ( إزابيلا ) الخادمة بإعداد مقعدين قرب المدفأة الخشبية ..ولماذا لا نجلس في الصالون الأنيق المترع بالدفء ..لا يا أويس ..التدفئة بالأخشاب فيها شيء من الرومانسية بعكس التدفئة بالغاز ..كما تشائين فأنا ضيفك الليلة والزائر في يد المضيف كما نقول .. هل يعني هذا أنك أخيراً في قبضتي يا صديقي ..؟ إذن عليك تحمل جنوني وانفعالاتي .. قد أبكي فلا تبخل علي بكتفٍ صديقةٍ وكفكف دموعي وقد أثور وأحطم الأشياء التي أمامي .. فحاول أن تحتملني ..فأنا أحتاجك بشدة ..يا إلهي كيف سمحت لنفسي بأن أقع في حبك هكذا وبلا ثمن ..أنا التي دوخت (بوقوتا ) بجامعاتها ومسارحها بل وشرطتها أيضاً .
إيه يا أويس ..لماذا أطلعك علي جميع محطات حياتي لتغادرني مثل قاطرة سريعة ..لدي إحساس عميق بأنك لست سوي غيمة أنيقة ستظلّل حياتي لساعات ثم تمضي إلي سبيلك ..كم أتمني لو كنت كولومبياً مثلي ولو أنك كنت جارنا لآماد طويلة ولو أنك تخصني وحدي لا فرق إن كنت حبيبة عينيك لأعفّرك بالقبل ولو أنك كنت أبني فأضمك بكل التحنان والأشواق ..فبأي صورة أتملكك يا أويس يا شمساً إفريقية تلهب ثلوج أوجاعي ..حياتي يا أويس بعد تعرفي عليك في (الهايسيندا ) أخذت منحيّ آخر وبعداً جديداً ..عشت طفولتي وأنا أتمرغ في الجاه والثراء في كنف عائلتي ..والدي رجل أعمال مشهور تعرفه أمريكا اللاتينية وتخشاه ..فهو رجل أمريكا القوي الذي لا يشق له غبار .. بإمكانه أن يسقط الحكومات وأن يرفع من شأن هذا الحزب أو ذاك وأن يشتري نتائج الانتخابات وتخضع له الهيئات والنقابات ..مارد اقتصادي خلط السياسة بالاقتصاد ومارس كل صنوف التآمر والخيانة ..دموي وقاسٍ ولا شيء يوقفه عند حده ..تزوج من أمي كاتبة القصة القصيرة الجميلة والقادمة من أروقة الجامعات كأستاذة للأدب الإنجليزي ..ولأنها قدمت من الطبقة الوسطي المرشحة للبرجوازية الجديدة وجدت في والدي ضالتها المنشودة فتزوجته من دون حب ..زيجة أساسها المصلحة المتبادلة ..أبي وقد امتلك كل شيء كان بحاجة للظهور بمظهر رجل الأعمال المثقف الذي يُعني بالأدب والثقافة والفنون..وأمي وقد رفضت دور النشر تبني إبداعاتها قبلت به عندما عرض عليها شراء دار للنشر جد مشهورة في (بوقوتا) وكان صاحبها الذي كم أهان والدتي مرات ومرات برفضه طباعة قصصها وتحقيرها قبل بالعرض لأنه مواجه بديون كبيرة كانت كفيلة بإيداعه السجن ..المهم تزوجا وكنت أنا نتاج تلك العاطفة البلاستيكية المصطنعة ..فدب الخلاف بينهما وعشت موزعة بين غطرسة والدي ورومانسية والدتي التي لم تعد تحتمل كل تلك الخيبات فانتحرت بعد مضي ثلاثة أعوام علي ولادتي لتكفلني عمتي .. إمبريالية أخري أشد قسوة من والدي لأعيش في سجن كبير عبارة عن قصر أسطوري اشتراه والدي لنقيم فيه وكان نادراً ما يزورنا ..بيد أنه كان يحرص علي تمضية الإجازة الصيفية معي فيأخذني في رحلات لا تنتهي ..زرنا باريس عشرات المرات ولاهاي ولندن ..هل تشعر بالملل يا أويس وأنت تسمعني ..إذا كان علّي أن أتوقف أرجوك قل لي بلا تردد ..لا ..لا ..علي العكس تماماً.. أشعر بفرح غامر وأنا أقرأُك من جديد ..أما أنا فأشعر بثقِل في أجفاني ونُعاس شديد ..أنا متعبة جداً يا أويس وسأكمل لك قصتي في فرصة أخري ..لا بأس يا إزابيلا ..سأرحل لأدعك تنامين ..لا ..لا ..قالتها برعب حقيقي ..أتوسل إليك ألاّ تتركني وحدي .. ولكن ...أفهم قصدك يا أويس .. بإمكانك أن تنام علي هذه الأريكة وسأنام هنالك في غرفة نومي ..أريد أن أخلد للراحة وأنا مطمئنة ولو لمرة واحده ..هذا المنزل الكبير يخيفني .. عواء الريح بالخارج واصطفاق النوافذ وتحليق الستائر في سماء غرفتي ..إن وجودك قربي يشعرني بالاطمئنان ..سأبقي ما دامت هذه هي رغبتك ..تصبحين علي خير ..وأنت بألف خير .
المفضلات