صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 26 إلى 50 من 85

الموضوع: أنستاسيا .. وردة الهزيع الأخير ..رواية جديدة .

     
  1. #26
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    أحاول الاقتراب أكثر فأكثر من( إزابيلا ) ومحاولة فهمها .. لماذا أنت غامضة ومترفة وأنيقة لهذه الدرجة يا ( إزابيلا ؟!) ..من أين جئت وكيف نشأت ثم ترعرعت ووصلت إلي هنا ؟ ..طيبة كجدتي مذعورة كالعصافير في بلادي ....دافئة في بلاد تنام وتصحو علي هسيس الثلوج المنهمرة بلا انقطاع ..وودودة كخالاتي وعماتي ..لا أسرار ولا ثراء ..كل هذه الحياة التي أحياها بشيء من الدعة تخفي وراءها مأساة وقضيه ..المأساة قضيتي أنا والقضية هي قضية شعب يناضل من أجل التحرر من ربقة الإقطاع والفساد والاستغلال ..وقصتي يا أويس تحتاج إلي فضاء أرحب من مقهى أل ( هاسيندا ) الضيق هذا .. ما رأيك لو انتقلنا إلي منزلي فأحكي لك حكايتي بكل ما فيها من تفاصيل موجعة وأخري مفرحة ..لا عليك سأدفع أنا الحساب لأن الرجل عندنا في السودان لا يسمح للمرأة بدفع الحساب بالمقاهي والمطاعم ..حقا ؟1 ليتني كنت امرأة سودانية فلا أكافح لأعيش ..علي الرحب والسعه ..ومن ثم تدحرجنا بعربتها الفارهة نحو منزلها المطّل علي نهر موسكو المنساب في هدوء وكأنه يحتفل ببزوغ القمر ربما بعد قرن من الغيوم ..أمرت ( إزابيلا ) الخادمة بإعداد مقعدين قرب المدفأة الخشبية ..ولماذا لا نجلس في الصالون الأنيق المترع بالدفء ..لا يا أويس ..التدفئة بالأخشاب فيها شيء من الرومانسية بعكس التدفئة بالغاز ..كما تشائين فأنا ضيفك الليلة والزائر في يد المضيف كما نقول .. هل يعني هذا أنك أخيراً في قبضتي يا صديقي ..؟ إذن عليك تحمل جنوني وانفعالاتي .. قد أبكي فلا تبخل علي بكتفٍ صديقةٍ وكفكف دموعي وقد أثور وأحطم الأشياء التي أمامي .. فحاول أن تحتملني ..فأنا أحتاجك بشدة ..يا إلهي كيف سمحت لنفسي بأن أقع في حبك هكذا وبلا ثمن ..أنا التي دوخت (بوقوتا ) بجامعاتها ومسارحها بل وشرطتها أيضاً .
    إيه يا أويس ..لماذا أطلعك علي جميع محطات حياتي لتغادرني مثل قاطرة سريعة ..لدي إحساس عميق بأنك لست سوي غيمة أنيقة ستظلّل حياتي لساعات ثم تمضي إلي سبيلك ..كم أتمني لو كنت كولومبياً مثلي ولو أنك كنت جارنا لآماد طويلة ولو أنك تخصني وحدي لا فرق إن كنت حبيبة عينيك لأعفّرك بالقبل ولو أنك كنت أبني فأضمك بكل التحنان والأشواق ..فبأي صورة أتملكك يا أويس يا شمساً إفريقية تلهب ثلوج أوجاعي ..حياتي يا أويس بعد تعرفي عليك في (الهايسيندا ) أخذت منحيّ آخر وبعداً جديداً ..عشت طفولتي وأنا أتمرغ في الجاه والثراء في كنف عائلتي ..والدي رجل أعمال مشهور تعرفه أمريكا اللاتينية وتخشاه ..فهو رجل أمريكا القوي الذي لا يشق له غبار .. بإمكانه أن يسقط الحكومات وأن يرفع من شأن هذا الحزب أو ذاك وأن يشتري نتائج الانتخابات وتخضع له الهيئات والنقابات ..مارد اقتصادي خلط السياسة بالاقتصاد ومارس كل صنوف التآمر والخيانة ..دموي وقاسٍ ولا شيء يوقفه عند حده ..تزوج من أمي كاتبة القصة القصيرة الجميلة والقادمة من أروقة الجامعات كأستاذة للأدب الإنجليزي ..ولأنها قدمت من الطبقة الوسطي المرشحة للبرجوازية الجديدة وجدت في والدي ضالتها المنشودة فتزوجته من دون حب ..زيجة أساسها المصلحة المتبادلة ..أبي وقد امتلك كل شيء كان بحاجة للظهور بمظهر رجل الأعمال المثقف الذي يُعني بالأدب والثقافة والفنون..وأمي وقد رفضت دور النشر تبني إبداعاتها قبلت به عندما عرض عليها شراء دار للنشر جد مشهورة في (بوقوتا) وكان صاحبها الذي كم أهان والدتي مرات ومرات برفضه طباعة قصصها وتحقيرها قبل بالعرض لأنه مواجه بديون كبيرة كانت كفيلة بإيداعه السجن ..المهم تزوجا وكنت أنا نتاج تلك العاطفة البلاستيكية المصطنعة ..فدب الخلاف بينهما وعشت موزعة بين غطرسة والدي ورومانسية والدتي التي لم تعد تحتمل كل تلك الخيبات فانتحرت بعد مضي ثلاثة أعوام علي ولادتي لتكفلني عمتي .. إمبريالية أخري أشد قسوة من والدي لأعيش في سجن كبير عبارة عن قصر أسطوري اشتراه والدي لنقيم فيه وكان نادراً ما يزورنا ..بيد أنه كان يحرص علي تمضية الإجازة الصيفية معي فيأخذني في رحلات لا تنتهي ..زرنا باريس عشرات المرات ولاهاي ولندن ..هل تشعر بالملل يا أويس وأنت تسمعني ..إذا كان علّي أن أتوقف أرجوك قل لي بلا تردد ..لا ..لا ..علي العكس تماماً.. أشعر بفرح غامر وأنا أقرأُك من جديد ..أما أنا فأشعر بثقِل في أجفاني ونُعاس شديد ..أنا متعبة جداً يا أويس وسأكمل لك قصتي في فرصة أخري ..لا بأس يا إزابيلا ..سأرحل لأدعك تنامين ..لا ..لا ..قالتها برعب حقيقي ..أتوسل إليك ألاّ تتركني وحدي .. ولكن ...أفهم قصدك يا أويس .. بإمكانك أن تنام علي هذه الأريكة وسأنام هنالك في غرفة نومي ..أريد أن أخلد للراحة وأنا مطمئنة ولو لمرة واحده ..هذا المنزل الكبير يخيفني .. عواء الريح بالخارج واصطفاق النوافذ وتحليق الستائر في سماء غرفتي ..إن وجودك قربي يشعرني بالاطمئنان ..سأبقي ما دامت هذه هي رغبتك ..تصبحين علي خير ..وأنت بألف خير .

  2.  
  3. #27
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    متعته السرد تجبرك على أن لا تغادر
    وكذلك انت

  4.  
  5. #28
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    شكرا يا ريس علي مرورك البهي وإطلالتك المفرحة ..ومع علمي بصعوبة القراءة الإسفيرية فإنني أعد عشاق المنتدي بعدد وافر من النسخ المطبوعة في أقرب فرصة إن شاء الله ..هذا مع تحياتي .

  6.  
  7. #29
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة التاسعة
    ومن ثمّ توجهت صوب غرفتها وهي تلتفت نحوي بعد كل خطوة تخطوها وتركت الباب موارباً لتؤرقني طول الليل اشتهاءات بائسة ..بيد أنني قاومت جميع رغباتي وتظاهرت بأني أغط في نوم عميق ..ومع بزوغ فجر اليوم التالي تسللت خلسة دون أن أوقظها وسرت علي غير هدي فوق الرصيف المبلل وكانت ثمة نوارس تحلق فوق الشاطئ غير آبهة بالبرد القارص ..وصلت غرفتي ولم يكن شوماخر موجوداً بالغرفة ..لعله أمضي الليل مثلي خارج النزل ..دفنت نفسي تحت الألحفة الثقيلة وأنا أرتجف من شدة البرد الذي يطحن عظامي ونمت نوماً عميقاً جداً ..ولا أدري كم ساعة أمضيتها وأنا مستغرق في النوم وقبيل الظهر بقليل أيقظني صوت مدير النزل وهو ينادي علي إسمي ..( مستر أوليس ..مستر أوليس ..) ..أجبته وأنا أفرك أجفاني ..كم مرة يا كريموف أخبرتك بان أسمى أويس وليس أوليس ..معذرة يا صديقي العزيز ثمة ضيف بانتظارك في غرفة الاستقبال إنها الآنسة ( أنستاسيا ..) ..أنّا ..!! حسناً ..حسناً .. دعها تنتظرني قليلاً ريثما أغير ملابسي.
    إلي أين يا( أنّا ؟!) ..سآخذك للتعرف علي أسرتي بمناسبة عيد ميلاد شقيقتي الصغري ( باتريشيا ) .. قلت أسرتك ؟! ..وهل تقيم بموسكو ؟! ..لا بل علي بعد مائة كيلومتر من هنا ..عظيم ..عظيم ..كم كنت أتوق للتعرف علي نمط الحياة في الريف لديكم ..الريف فقط أيها الذكي ..؟!!..وأسرتك طبعاً ..امنحيني نصف ساعة لأغيّر ملابسي ..عيد ميلاد ..؟ تري أي هدية ستختار يا أويس ؟ وقررت أن أهدي شقيقتها حقيبة اليد المصنوعة من جلد التمساح وكنت قد اشتريت بعضاً منها من شارع الجمهورية بالخرطوم ..وفي مطار موسكو استمعت من موظف الجمارك لمحاضرة في السلوك والأخلاق ..هل هذا جلد حقيقي يا رجل ..لماذا أنتم قساة القلوب لهذه الدرجة أيها الأفارقة ..؟ لا عجب إذن ..ألستم من أكلة لحوم البشر ..؟ فماذا تساوي حياة تمساح مسكين في نظركم ؟ ..حاولت إقناعه بأن هذه الحيوانات تنفق بعامل الزمن والأوبئة ..تخافون علي الحيوانات وتمطرون إخوتنا في أفغانستان ب(النابالم) يا سوفييت ..هكذا حدثت نفسي وأنا أبتلع إهاناته خوفاً من مصادرة الحقائب ..ستكون هدية مميزّة دون أدني شك ..(واو..!) هتفت (أنّا) وهي تتصفحها ..إنها جلد حقيقي ..لا بد أن تكون باهظة الثمن ..أنت إنسان رائع يا أويس ..وكم أحبك لهذا السبب .. وفي الطريق إلي قرية أنستاسيا رجعت بذاكرتي لعيد الميلادي الأول والأخير ..كنت في السابعة من العمر عندما نقل والدي للعمل بواد مدني وتشاء الظروف أن نسكن بالمنازل الحكومية قريباً من منزل المحافظ بالحي البريطاني ..هكذا يسمونه في مدني ويحاول البعض تسميته ب(الحي السوداني) دون جدوي ..وفي ذات مساء رأينا الثريات تلون بوابة منزل المحافظ ..سألنا عن المناسبة فقيل لنا أن اليوم هو عيد ميلاد أبنه الذي يزاملني بنفس الصف ..وأذكر أنني بكيت من شدة إحساسي بالقهر والغبن ورفضت تناول الغداء المتأخر كالعادة .. إذ كنا لا نتغدي إلا بعد عودة والدي من العمل ..ولم أكفف دموعي إلا بعد أن تلقيت وعداً قاطعاً بأن يقام لي حفل صغير الخميس القادم بمناسبة عيد ميلادي الذي مضي عليه وفق الأوراق الرسمية خمسة أشهر ..ولم تفّوت الرائعة رزان هذه المناسبة فأهدتني شيئاً قد لف بعناية أشبه بالمنديل وقد شاع في ذلك الزمان البعيد التطريز بالحرير الأبيض فوق المناديل البيضاء ..ترسم الفتاة قلباً صغيراً بال( عشري ) وتنصّفه بسهم قيل أنه سهم ( كيوبيد ) لعّله إله الحب لدي الإغريق أو شيء من هذا القبيل ..وعندما فضضته ثاني يوم وجدتها عباره عن ( فوطة ) بيضاء وقد ظهرت في زاوية منها تبقعات أشبه بدائرة صغيرة ..وكأن كوباً من الشاي قد وضع عليه ..وفي ظهيرة اليوم التالي اعتذرت لي (رزان) عن ذلك التصرف الأحمق قائلة ..لقد فوجئت بموعد الاحتفال بعيد ميلادك يا أويس ولم أكن أعرف حياكة المناديل لأصنع لك واحداً أهديه لك في الحفل ..فما كان مني إلا أن سطوت علي أغراض المنزل ..إنها أغلي هدية قدمت لي يا رزان من أغلي إنسان في الوجود وسأحتفظ بها ما حييت ..هنا تلألأ وجهها بفرح غامر ..وهذا ما فعلته بالضبط فلا زلت حتى الساعة وأنا هنا في موسكو أخرجها من حقيبتي من آن لآخر أشمها وأضمها إلي صدري ..رزان يا رزان .. تري أين انتهت بك الأيام وهل لا زلت تذكرينني كما أفعل علي الدوام ؟!..وكان ذلك أول وآخر عيد ميلاد ينظم لي لأن جدي أفتي بحرمة الاحتفال بعيد الميلاد وثار في وجه والدتي لما علم بما قمنا به ..مضيفاً بأن هذه إحدى بدع الشيطان ..عدت من جديد إلي أنستاسيا الغارقة وسط كم من الأغراض المقرطسة ..طلبت منها والدتها إحضارها معها ..وكانت تضج بالإشراق والابتهاج ..ولم أدر سبب هذه المعنويات العالية إلا بعد وصولنا إلي القرية ..فقد أثار وجودي بين أفراد أسرتها وجيرانهم وصديقات الصغيرة (باتريشيا) ذات العشرة ربيعاً موجة عارمة من الفضول والحماس ..وكان أكثر الحضور ترحيباً بي العمة فرانشيسكا ..والتي سبق أن عملت بالخارجية بسفارة الروس بنيروبي ..(أنّا) لم يرق لها استئثار عمتها بي طوال الحفل فطلبت مني أن نخرج لنتمشي قليلاً في حديقة المنزل غير مكترثة للبرد ..أرجوك لا تهتم بالعمة فرانشيسكا يا أويس ..إنها ( إيرما لادوس ) جديدة ولا أجد في نفسي ميلاً نحوها ..تصور إنها حامل وهي في هذه السن وبدون زواج ..إن والدي غاضب منها جداً ..وقد وبخها بشدة علي هذه الفعلة المشينة بيد أنها لم تستسلم وبادلته توبيخاً بتوبيخ ..الآن وقد أقلعت عن معاقرة الخمر وارتياد ( الخمارات ) تريد أن تصبح قديساً يا باساييف .؟!.

  8.  
  9. #30
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة العاشرة
    انتهت الامتحانات وتبقي أسبوع واحد علي إعلان النتائج وفكرت في التسكع مع بسام القادم من( نابلس) بالضفة الغربية في ( سان بطرسبرج ) ..تلك المدينة الساحرة التي تحتضن جده لأمه العالم والبروفسير في علم وظائف الأعضاء الدكتور نصيف ..استقبلتنا عائلته بترحيب شديد ولم تكن عائلة كبيرة فقط ابن واحد نجا من مذبحة (دير ياسين) بأعجوبة كبيرة وراح ضحية المذبحة ثلاثة من أطفاله وكان وقتها في رحلة خارج فلسطين ..وعلمت منه أنه حاصل علي الجنسية الأمريكية وقد زار إسرائيل لاستعادة بعض ذكريات طفولته هناك ..قال لنا وصلت (حيفا) ليلاً وفضلت الانتظار حتى صباح اليوم التالي ولمّا كان النزل الصغير قريباً جداً من دارنا وبستاننا فقد فضلت السير علي الأقدام ..كان هذا النزل قبل وصول اليهود عبارة عن مقهى الحاج عواد ..الرجل الطيب الذي طالما أدهشنا بموهبته الفذة في صناعة الشاي بالزنجبيل وبحكاياه المثيرة عن الحرب العالمية الثانية وكان قد حارب إلي جانب الحلفاء .. كل العرب حاربوا (هتلر) إلي جانب الحلفاء ..فماذا كانت النتيجة ؟! ..المهم حاولت وأنا أضرب بحذائي الثقيل أرضية الشارع الرطبة أن أعيد تشكيل الأشياء هناك ..وقرأت كل الوجوه الغائبة بفعل الموت أو الذبح أو التهجير القسري ..استعدتها الواحد تلو الآخر ..عماتي وخالاتي وأصدقائي ..حتى الأطفال الذين كانوا يدوزنون المكان بصخبهم وضحكاتهم ..استعدتهم جميعاً ..وكان ثمة بنايات جديدة قد نهضت ووجوه غريبة تذرذر الشوارع ولافتات كتبت باللغة العبرية ..كان كل شيء قاسياً علي قلبي ..كان قاسياً ..قاسياً يا بني ..مهلاً جدي ..بسام وهو يتدخل في الحديث .. كفاك ذكريات وآلام يا (بروف) ..بكي الرجل ..بكي كثيراً جداً لا أدري كم مضي علينا من الوقت وهو يبكي ..ناولته كوباً من الماء كان موضوعاً علي الطاولة بقربي ..تجرعه وهو يهمم ..استغفر الله العظيم ..استغفر الله العظيم ..شجعته علي الاستمرار في الحديث وكان بسام في تلك اللحظة قد خرج لإحضار بعض الأغراض أو هكذا خُيل إلي ّ لعلّه أيضاً قد انفعل بما يسمع وكان قد حدثني هو الآخر عن معاناتهم بسبب المستوطنين والإغلاق والحصار ومداهمات الجنود الإسرائيليين لهم تحت جنح الظلام ..إذن المأساة مستمرة بالنسبة للأجيال المهاجرة والأجيال الطالعة سيان ولا فرق بين العام 48 و88 ..أخذ نفساً عميقاً وواصل الحديث ..لم أجد صعوبة تذكر في الوصول إلي دارنا برغم الشوارع المسفلتة التي شوهت معالم الضيعة ومزقتها إرباً إرباً ..وصلت الدار وكان سوراً عملاقاً قد تم بناؤه فوق السور الأخضر المعشوشب علي زماننا الموشي بالقرميد والورود ..قرعت الجرس فجاءتني صبية صغيرة ..فتحت الباب وعندما رأتني أنكرتني في بادئ الأمر بيد أنني سألتها بإنجليزية رصينة إن كان والدها موجوداً بالداخل ..اطمأنت نوعاً ما وطلبت مني الانتظار ريثما تُعلمه بقدومي ..حضر رجل في العقد الخامس من عمره وكان أوربي الملامح ..وهو من النمسا تحديداً وقد علمت بذلك طبعاً بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث ..حدثته عن الغرض من زيارتي وقلت له أنت تسكن في منزلي .. ماذا ؟! هل جننت يا رجل ..لا بد أنك أخطأت العنوان أو ربما فقدت ذاكرتك أو ..لم أفقد ذاكرتي وأنا بكامل وعيي ..وهنا ناولته جواز سفري ..أنت أمريكي إذن ..لا بد أنك تمزح ..من أرسلك من أصدقائي في (نيوجرسي ) .. لا أمزح يا عزيزي ..نعم هذا المنزل يخص عائلتي ..صحيح أنه لم يكن بهذا التحديث ..ولكنه منزلنا وقد ولدت أنا بتلك الغرفة وولد أطفالي ..هنا كانت البئر الصغيرة التي كنا نسحب منها الماء بواسطة الدلاء قبل أن تأتوا أنتم وتغتصبوا أرضنا ..أنظر .. وكانت بعض بقايا الآجر والطوب لا تزال تتشبث بالأرض أنظر إنني أحفظ هذا المكان شبراً شبراً ..ولم يغب عن ذاكرتي أربعون عاماً ونيف ..كان الرجل لطيفاً وكذلك أفراد عائلته وكانتا صبيتان وطفل رضيع ..أنا أقدر شعورك وانتماؤك لهذا البلد ولكنني دفعت كل شقاء عمري وما أملك لشراء هذا المنزل من الدولة ولا علم لي بمالكه الحقيقي ..أنا لا ألومك ولا أنوي مقاضاتك أو إزعاجك .ولكنني كبرت وأود أن تكتحل عيناي من هذا المكان قبل أن أفارق هذه الحياة ..طبعاً ..طبعاً حضرة البروفسير ..علي الرحب والسعة ..علي الرحب والسعة وهكذا هيئوا لي غرفة مطلة علي الوادي حيث بساتين الزيتون والعنب ..بساتيننا ..وأمضيت الساعات الطويلة وأنا أحدق في الفراغ العريض مستعيداً كل لمحة وكل دقيقة أمضيتها هنالك وودعتهم علي أمل الالتقاء بهم مرة أخري وقدمت لهم دعوة لزيارة (سان بطرسبرج) ..أنظر ..وكان في هذه اللحظات قد تناول ألبوماً عملاقاً يحتوي علي مئات الصور ..هذا هو المستر (فاغنر) وهذه (هيلين) زوجته وأطفاله الرضيع الصغير ويدعي مارك والصبيتان مارلين وآندي ..وحاول تعريفي بصور قديمة بالأبيض والأسود لأطفاله وأقربائه الذين قضوا في المذبحة فسقط الألبوم من يده واستأذنني ليرتاح قليلاً ..وأصداء آهاته وأنّاته عالقة بقامته المديدة وهو يربط الروب حول خصره ويغيب في الجانب الآخر من المنزل ..التقطت الألبوم وأضجعت علي الأريكة ..أغمضت عينيّ وتصورت أن عدواً ما سيقتلعني وأهلي من جذورنا بواد مدني ويقذف بنا خارج السودان فأصابني رعب حقيقي لم يتبدد إلا بعد عودة بسام بابتسامته العريضة وهو يسأل أين جدي ؟!

    التعديل الأخير تم بواسطة عبدالغني خلف الله ; 16-01-2013 الساعة 08:28 PM
  10.  
  11. #31
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    برضو منتظرين

  12.  
  13. #32
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    شكراً عزيزنا الغالي محجوب علي توقفك هنا وكدت أنسي السيدة أنستاسيا في زحمة العمل والمشغوليات الكثيرة ..فتعال نواصل التجوال مع ( أويس ) مع كل الود وأطيب الأمنيات لك وللأسرة الكريمة .

  14.  
  15. #33
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الحادية عشرة
    (لينينقراد ؟!) ..يااه كم كنت أتمني زيارة هذه المدينة الباسلة وهاهي (إزابيلا) تمنحني الفرصة لتحقيق حلمي وبعد زيارتي لها أحببتها أكثر لأكثر من سبب..إني أتذكر لحظة حضور إزابيلا لأخذي إلي هناك .. .. كانت ترتدي ملابس شبه عسكرية تظهر مفاتنها الغريبة ..وتضع علي عينيها الواسعتين نظارة سوداء .. ترجلت من العربة لتحييني .. سنأخذ أنا وأنت المقعد الخلفي وسيتولي (بريماكوف) القيادة ..ما أجمل ربيع (موسكو) بالرغم من قصره .. قلت لها ونحن نتوغل في الوديان بعيداً عن أجواء العاصمة الملبدة بالضوضاء والدخان .. أنظر يا أويس ..هاهي زهور (الأوركيد) تطرح عنها رداء الشتاء الثقيل وتتبرج للطبيعة ..نعم ..نعم ما أروعها ..أمضينا سحابة ذاك الصباح والظهر ونحن نصعد ونهبط بين الغابات والتلال المعشوشبة و(إزابيلا) تأسرني بحديثها وضحكاتها وبعطرها المسفوح .. وفي جزء من الطريق الوعرة تحولنا إلي ما يشبه اللاعبين علي حلبة المصارعة .. تارة تقذفني العربة في أحضانها وتارة أخري علي كتفيها وهي صامدة في مكانها فقد اعتمدت ربط حزام الأمان وفضلت أنا كعادة كل سوداني التحرر منه أثناء السفر ..توقف (بريماكوف) فوق هذه التلة لأننا سنمضي الليل هنا ..هنا يا إزابيلا ؟! ..والبرد والحيوانات المفترسة واللصوص ؟..لا تقلق يا (أويس) لقد أعددت لكل شيء عدته .. لدينا خيمة ومدفأة تعمل بالبطاريات وطعام يكفينا لمدة أسبوع ولدينا أيضاً (كلاكنشوف) ومسدس عيار 9 ملميمتر .
    كنا متعبون جداً ولولا قوة ومتانة العربة ( الأستيشن واقن ) المصنوعة في اليابان لما أمكننا الوصول حتى تلكم النقطة ويبدو أن إزابيلا قد تعودت علي هذا الطريق الخلوي .. وفي أثناء الرحلة عدت بذاكرتي إلي طريق وعر بكردفان بالسودان .. كنت قد أخبرت والدي ووالدتي بقصة لقائي مع ( رزان ) بالمهرجان ولم يكن والدي قد علم بعد بأن صديقه الأستاذ عبدو يعمل بسودري فاقترحت عليهم تمضية جزء من إجازة عيد الأضحى ب(سودري) ..كانت تجيش في خاطري أشواق وحنين لرؤية ( رزان) مجدداً ..بيد أن والدتي اعترضت بشده بحجة أن المشوار صعب وبأنها حبلي في شهرها الخامس وأنها تود حضور زواج ابنة خالها بواد مدني .. فاتفقنا علي أن تأخذ والدتي إخوتي إلي ( وادمدني) ونذهب أنا ووالدي إلي سودري ..هو يشتاق الأستاذ عبدو ويشتاق رحلات الصيد التي أدمنها هو وبعض زملاؤه ..انطلقنا عبر ( بارا ) ثم واحة ( البشيري ) وفي تل يطلقون عليه ( قوز الصرّه ) عجزت عربتنا تماماً عن تسلقه فأمضينا الليل فوق أعلي التل تماماً كما نفعل الآن وكنا محظوظين إذ عبرتنا عربة بها عدد كبير من العمال الذين يعملون علي مكافحة الجراد الصحراوي .. فساعدونا في تخطي ذاك التل وبعد تخطينا لل(مزروب) ..اقترح السائق علي والدي الالتفاف علي تلال (سودري) المستعصية بطريق جانبي يمر عبر قرية تدعي ( تنه ) .. وبدا وكأن الطريق بالفعل سالكة وممهدة بيد أنا اكتشفنا بعد ساعات بأننا قد تهنا في الصحراء .. نفد الماء الذي معنا واستسلمنا لقدرنا وتذكرت في تلك اللحظات القاسية قصة ( صول ) الشرطة الذي تاه فمات وغيره كثيرون ممن يمكثون في بطن الصحراء ..ومرة تنقذنا العناية الإلهية بمرور نفس العربة ونفس العمال المتوجهين نحو دارفور وهم يقتفون أثر الجراد . .فتخلف أحدهم معنا ليعود بنا إلي المزروب لنبدأ مجدداً رحلة العذاب والصراع مع الرمال الممتدة حتى حافة الأفق .. وحين وصلنا ( سودري) ..وصافحت عيناي ( رزان ) ضاع الإحساس بالتعب وعاودني الإحساس بالحيوية والنشاط ..ها ..فيم شرودك يا أويس ..هذه التلال تذكرني بسفوح كردفان وهو إقليم ذاخر بالجمال وبالطبيعة الساحرة وبالفنون ..أنا أيضاً تذكرت ( كولومبيا ) وطني الذي أتعشقه لدرجة الإدمان .. قلت لي في آخر مرة أن والدتك قد انتحرت بعد أن فضل عليها والدك الملياردير المعروف علي نطاق أمريكا اللاتينية والعالم فتاة وضيعة من شذاذ الآفاق ففضلت الموت علي الحياة ولم تكملي بقية القصة .. لعلها كانت حساسة جداً ..لأنه من الصعب علي امرأة ..أي امرأة أن تنتحر من أجل رجل لو لم تكن تحبه حباً ملك عليها أقطار نفسها ..نعم هذا ما حدث بالضبط ..لقد تزوجا بعد قصة حب عاصفة وكانت والدتي علي وشك الزواج من ممثل سينمائي شاب ومحبوب لدي الكولومبيين لو لا تدخل والدي ..وطبعاً سئمت الإقامة مع عمتي المتغطرسة التي كانت تعيّرني بأمي علي الدوام وتقول لي إنك أخذت كل شيء عن والدتك ولم تأخذي منا شيئاً وإلا فيم اختلاطك بالعمال والخدم في قصري ..إنك تفضلين تمضية أوقات فراغك مع الخيول وداخل الإسطبلات ولا تجلسين ساعة من الوقت مع عمتك ..أنت تافهة ووضيعة كأمك ..عمتك تسمعك مثل هذه الإهانات القاسية يا ( إزابيلا ) ؟..بل وأكثر لذلك لم أعد أحتمل إهاناتها وغطرستها وذات يوم قررت الهرب والعودة إلي (بوغوتا) وكانت وقتها في رحلة عمل خارج ( كولومبيا ) .. لجأت مرة أخري إلي والدي ليجد لي حلاً وكنت أفضل الموت لألحق بوالدتي في السماء علي أن أعود لعمتي ..كان استقبال زوجته الجديدة لي فاتراً وكان والدي لم يعد بعد من العمل .. قالت لي بعنجهية واستبداد ..لا أظننا سنجد لك غرفة خالية بالدار .. وعليك تدبر أمرك لدي عودة أبيك من الشركة ..لا غرفة لي في القصر الذي ولدت فيه وأحفظ تضاريسه عن ظهر قلب ؟!!..إييه كم هي غريبة هذه الحياة ..عاد والدي ليفاجأ بي بغرفة الاستقبال الكبرى .. وطلب من زوجته أن تدعنا لوحدنا .. قلت له أفضل السكن بالجامعة .. إذ لم يتبق علي التحاقي بها سوي أسبوع واحد فقط ..اقترح عليّ أن أطير إلي باريس وأمضي بعض الوقت هناك قبل أن تبدأ الدراسة ولدي عودتي اشتري لي عربة جديدة وكان قد رتب الأمر مع إدارة الجامعة التي يتكفل بثلث نفقاتها .. وبالجامعة تعرفت علي (سيزار) .. شاب من الأقاليم الشرقية ..نشأ وعاش في بيئة فقيرة وقد أصّر علي أن يصطحبني لزيارة عائلته في أول إجازة لنا .. كانت فرحتهم بنا كبيرة وهم يشاهدون ابنهم بصحبة فتاة تقود سيارة جميلة .. وكان المنزل عباره عن ثلاث غرف بإحدى مدن الصفيح كما درجنا علي تسميتها .. وهنالك اعتنقت الشيوعية والفكر الاشتراكي .. ومع تنامي حركة القوات المسلحة الثورية بكولومبيا في أوساط الشباب .. هربت مع سيزار ومعنا ثلاثة آخرون من الزملاء وفتاة تدعي ( نورما ) .. وقبل أن نغادر بوغوتا .. قمنا بعملية سطو علي إحدى الصرافات الخاصة وكنت أنا من قام بالتمويه علي العملية باستغلال اسمي وبطاقتي الائتمانية وما هي لحظات حتى سيطرنا علي الصرافة وأخذنا كل ما نستطيع حمله من أموال وانطلقنا بعربتي بين الوديان الصخرية والغابات إلي أن تلقفتنا إحدى الفصائل التابعة للحركة .. كان وقع الخبر مدوياً علي والدي وعمتي وأركان النظام الحاكم ونشرت صورتي جميع الصحف وأنا أشهر مسدسي في وجه الصراف .. ثم .. ماذا يا إزابيلا ..هيا اخبريني ماذا فعلت داخل معسكر المتمردين ولماذا أنت هنا في روسيا .. تلك قصة أخري وأنا متعبة يا أويس .. هذه الذكريات تؤلمني جداً .. يا إلهي كم تؤلمني .. قالت ذلك وهي تبكي وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل .. و(بريماكوف) قد نام داخل السيارة .. وبقينا لوحدنا داخل الخيمة الصغيرة .. كان الجو شاعرياً ومفعماً بحميمية لا تصدق .. دفء وشموع ملونة .. كنت ظمأناً جداً للطبيعة العذراء وكذلك هي ..فشربنا حتى الثمالة ولم نرتو بعد ..وسرت النشوة في كياني حتى العظم ..ولم أرتو بعد .. تدفقت النشوة مع دمائي .. سافرت في أوردتي وشراييني ..ولم أرتو بعد .. وعندما بزغ الفجر لملمنا أشيائنا استعداداً لمواصلة المشوار وقلبي يحدثني بأنني قد أدمنت إزابيلا والطبيعة معاً ولا مهرب مذ تلك الساعة .

    التعديل الأخير تم بواسطة عبدالغني خلف الله ; 22-01-2013 الساعة 08:38 AM
  16.  
  17. #34
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثانية عشرة
    أصدقاؤك بالبوابة الرئيسية يستحثونك علي الخروج ومعهم عربة تقودها سيدة جميلة ..هل هي ( برجيت باردوث) يا مستر أوليس ؟ ..هل تقبل بها زوجة يا كريموف إذا خطبتها لك ؟ قلت وأنا أداعبه كعادتي منذ انتقالي للداخلية الغربية .. ؟ ..ليتك تفعل سيدي . .فهي ساحرة جداً .. وهذا الشيب الذي علي رأسك ..سأخفيه بطريقة أو بأخرى .أوأنت جاد فيما تقول يا كريموف ؟ ..( أنجلينا ) وقد صادف الموضوع هوي في نفسها .. لماذا لا تتزوجني أنا ؟! ..أنت ..؟! ..أفعل سيدتي ..أفعل بكل احترام ..وضحكنا ربما لأول مرة بعد أيام من الحزن والدموع .
    تلقفتنا المجموعة أنا وشرودر وهذا طبعاً اسمه الجديد بابتهاج شديد ما عدا ( أنستاسيا ) التي حدقت في ساعة يدها وهي تهمهم ..نصف ساعة تأخير يا أويس ..نصف ساعة أيها الإفريقي المفتري .. هل ظننت بأننا مزارعون ذاهبون لقطف الموز ؟
    جلست قرب شاهنده وقد منحتني كفها أشد عليها بقوة طوال المشوار لأمنحها معنويات إضافية بعد أن تأكد لها أن أفراد أسرتها قد نجوا من الزلزال ..وهمست في وجه ( إزابيلا ) بتحية مقتضبة جاوبتها بعبارة ( هاي ) ومن ثمّ انطلقنا ..و كان الحفل أسطورياً وباذخاً عكس عظمة السودان في شتي المجالات بالإضافة إلي معرض للمصنوعات الجلدية واليدوية المختلفة وقد ازدانت جدران القاعات والممرات بالسفارة بصور تجسد الطبيعة والتاريخ والوجوه والسحنات العربية والزنجية والهجين وكأن السودان أمم متحدة مصغره .. شرب المدعوون الكركدي الساخن فطرد من عظامهم البرد القارص وكانت ثمة إيقاعات صوفية تلون المكان ..أخذ كل مدعو موقعه بالقاعة الرئيسية وبثت أفلاماً تسجيلية تعّرف الحضور بالسودان ..مناخاته وأقاليمه ورقصاته الشعبية ..وقد تفاعل الجميع مع الدفوف الإفريقية الصاخبة ورقصات القبائل النيلية والاستوائية وتعلقت عينا ( أنستاسيا ) برقصة السيف رقصة ( كسلا) وهي تتمايل يمنة ويسرة ثم وفي لحظة حبور عارمة غادرت موقعها فرقصت بنفس الطريقة أمام المسرح الصغير وكأنها قد قدمت من سفوح ( أولوس ) بجبال التاكا وشاركتها في الرقص بعض زوجات الدبلوماسيين ..وكان عرساً سودانياً رائعاً أعادني في طرفة عين إلي إستاد الأبيض عروس الرمال الساحرة وكان وقتها والدي قد انتقل من أم روابة ليعمل في بلدية الأبيض ..فقد أقيم الاحتفال الرسمي بعيد الاستقلال بالأبيض ذاك العام وتضمن مهرجاناً ضخماً أعد له إعداداً جيداً ..وكانت من ضمن الفقرات عروضاً أشرف عليها خبراء من كوريا الشمالية جُمع لها عدد ضخم من الطلبة والطالبات بمدارس الولاية المختلفة .. وكان مطلوباً مني وسبعة آخرون من الطلبة والطالبات أن نشكل حرف الألف في السودان بأجسادنا عبر حركات متفق عليها ووفق الفقرات الموسيقية المنبعثة عبر مكبرات الصوت تعزفها فرقة موسيقية تابعة للقوات المسلحة بزيهم الأحمر والأزرق ..مضت البروفة بسلام وعندما هممت بالاستلقاء علي ظهري بالقرب من الطالبة التي ترقد بجانبي التفت لأجد الآنسة المقابلة بملامحها الجميلة وقدها الفارع ليست سوي ( رزان ) .رزاااان عبدو هنا..؟!! ..أويس مرغني الفاضل ..؟!! .. شبكنا أيدينا ورحنا في ضحك أقرب للهستيريا .. وأنتقل بقية الطلاب للحركة التالية وبقينا في رقدتنا يدانا مشبوكتان والضحك الذي تحول إلي نهنهات وبكاء أدهش الذين يلوننا في العرض فارتبك الجميع وضاعت معالم (السودان) في خضم الفوضى التي عمت المكان ..أوقف المعلم المختص ( البروفة ) ..واستدعانا ليوبخنا وينذرنا بالجلد إن لم نلتزم بقواعد المهرجان وذهب لأبعد من ذلك فأسند لفتاة أخري موقع رزان وأرسلها إلي آخر درجة في أعلي الإستاد .. بيد أنني تقصيت مكانها ووجدتها بداخلية بنات الأبيض الثانوية أمام السكة حديد .. جلسنا في غرفة الاستقبال بالساعات الطويلة نستعيد ذكريات ماضينا في (واد مدني) وعلمت منها أن والدها يعمل الآن بمدرسة (سودري) حاضرة (الكبابيش) وأن كبري شقيقاتها قد تزوجت .. ومرة أخري افترقنا مع نهاية أيام المهرجان .. ودعتها عبر ثنايا صندوق الباص الذي أقلهم إلي مناطقهم وكان الجميع ينشدون ..( أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريق ) ..ومرة أخري بكت وهي تودعني وتوصيني أن أحافظ علي نفسي وأقسمت لي بأنها لا ولن تفكر في أحد غيري وبأننا سنلتقي مجدداً طال الزمن أم قصر .

  18.  
  19. #35
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة ( 13 )
    ها قد وصلنا ..قالت ذلك وهي تحرر نفسها من حزام الأمان وتقذف بذراعيها خلف رأسها وتتمطي ..يااه ..كانت الرحلة متعبة جداً يا عمتي ..مرحباً بكم .. قريبتها وابنتها وقد هرعتا لدي توقف العربة قرب البوابة الرئيسية .. منزل أشبه بقلعة .. وكأن جميع أفراد عائلة إزابيلا من الأسرة المالكة .. علي رسلك ..علي رسلك العمة توصي أحد الخدم بأخذ الحذر وهو يحمل حقيبة سوداء متوسطة الحجم الجميع يوليها اهتماماً وحرصاً خاصاً من بين جميع الحقائب .. أخلدت للنوم ضحي ذلك اليوم وفي المساء أخذتنا مضيفتنا وابنتها وتدعي (سيسيليا ) في جولة نتعرف خلالها علي معالم المدينة الأسطورية ..هذه المقبرة لأبطال ( ليننقراد ) الذين دافعوا عنها باستماتة أذهلت الألمان .. خمسمائة ألف جندي من الطرفين المتحاربين سقطوا وهم يحاولون اقتحامها أو الدفاع عنها .. هنا تذكرت تلك الأفلام التسجيلية بالأسود والأبيض التي يبثها التلفزيون وهو يستعيد أحداث الحرب العالمية الثانية ..كانوا جنوداً بسطاء بشواربهم الكثة وعيونهم الضيقة يتقافزون شاهرين بنادقهم أمامهم وهم يركضون .. هؤلاء الحمقى الذين فقدوا حياتهم في ميادين القتال وهم يلّبون أشواق قادة بلهاء أكثر حماقة منهم في المجد وإثبات الذات وأحلامهم التوسعية ويعتقدون أنهم إنما حاربوا لتحيا أوطانهم وشعوبهم حرة ..وبالنهاية خمسون مليوناً ما بين قتيل وجريح ..وانتحار هنا وانتحار هناك ..والموافقة علي شروط وإملاءات كانت ستوفر تلك الأرواح الساذجة والبريئة ولكن ..لكن ماذا ؟ ..لكن فحسب .
    سلكنا الطريق العام ونحن نعود أدراجنا إلي موسكو وإن كنت أفضل العودة بنفس الطريق الذي سلكناه الأسبوع الفائت بالرغم من وعورته لنستعيد ذكريات تلك الليلة التي أمضيناها معاً هنالك فوق التلال أنا و(إزابيلا) ..الليل والشموع وموسيقي ربابتي التي أحضرتها معي من السودان ..و(إزابيلا) المتدفقة بكل ما فيها من أريحية وجمال ..الآن تذكرت لماذا فاجأنا ذاك الدب الروسي المفترس .. لقد اجتذبته ولا ريب أنغام الربابة .. أصيب (بريماكوف) بالرعب لدي اقترابه منا فصاح فينا إلي العربة يا مدام إلي العربة يا مستر .. هيا أسرعا .. ولكنني رفضت التحرك وقلت لإزابيلا ..إهدائي لا يجب أن نشعره بأننا خائفون منه .. تشبثت بي وهي ترتعد من الخوف .. فلنقذف له ببعض الأرغفة ولننظر ما هو فاعل .. تقدم نحوها وشمّها وهو يرفس العشب بأرجله الخلفية في حالة من الهيجان الشديد ..وهنا طاشت في ذاكرتي ذكريات الفترة التي أمضيناها بمدينة بور بجنوب السودان ..كان والدي قد نقل كمدير تنفيذي للمجلس هنالك وكنا نقيم في دار واسعة تقع مباشرة علي النهر وفي المساء تخرج قطعان ( القرنتي ) وتعيث فساداً في شجيرات الموز بحديقة المنزل .. وكنت وقتها مفتونآ بلعب تنس الطاولة بنادي الموظفين القريب من منزلنا ومركز الشرطة .. وتعلمت حينها أن قطعان ( إبن آوي ) ..لا تحتمل الضوء ليلاً فإذا ما هاجمتك فرادي أو مجتمعة ما عليك إلا أن تصوب نحوها نور البطارية ( الطورش ) فتهرب من أمامك ..وهذا ما فعلته مع ذاك الدب الروسي العملاق .. فتراجع مذعوراً وهو يركض مبتعداً .. أنت هائل يا أويس .. ماذا فعلت يا سيدي أي فكرة لوذعية هذه .. ؟ كيف علمت أن الدب يخاف الضوء بهذه الصورة الغريبة .. شرحت لهما تجربتي مع ( بنات آوي ) وأنا أتنفس الصعداء .
    هل ستنطلقين بنا مباشرة نحو الداخلية ؟! .. لا بل سنذهب إلي منزلي لتشرب كوباً من عصير التوت ( الكولمبي ) .. يقولون في بلادنا أن من يشرب عصير التوت (الكولمبي) لا يتردد في الفناء عشقاً لكل ما هو (كولمبي) .. هل تريدين مني أن أموت فيك أكثر من ذلك يا ( إزابيلا ) ؟ .. بالطبع .. يا طفلي الغالي .. ويقولون في بلادنا من يشرب من ماء ( توتيل ) لا بد أن يعود إلي كسلا ....وأين تقع كسلا هذه ..إنها من أجمل مدن السودان وتقع في أقاليمه الشرقية ....لحظة حتى تشرب آخر قطرة منه .. لقد شربتها وانتهي الأمر .. وكان مشروباً بنكهة (الكاسترد ) .. أعطاني في البداية دفعة مفاجئة من النشاط والحيوية ومن ثمّ شعرت براحة عجيبة ورغبة جامحة في الخلود للنوم ..أمرت ( بريماكوف ) بتوصيلي بعد أن ودعتني حتى البوابة الرئيسية ومر بنا زوج من الجيران رجل وزوجته ..ولم يسلما علينا وكانت نظراتهما عدائية نحو ( إزابيلا ) .. علاقتك بالجيران بحاجة إلي ترميم عاجل .. ماذا أفعل بها ؟ .. تساءلت في لامبالاة ..إنني أضرب حول نفسي طوقاً رهيباً من العزلة ولا دخل لي بهم .. وقبل أن أصعد إلي العربة .. ناولتني زجاجة عطر فاخرة بدت وكأنها قطعة من الماس بالنظر إلي الطريقة التي لفت بها ومعها مظروف لا أعلم ما بداخله حتى تلكم اللحظة ..هذا العطر هدية من ابنة عمتي ( سيسيليا ) .. أوصتني أن أسلمك له لأنها تشعر بالخجل الشديد تجاهك ..( سيسيليا ) .. ذات الخمسة عشرة ربيعاً ..والله ما أروعها بطفولتها وشقوتها الحلوة ..ثم ..؟ ..هذا مبلغ بسيط هدية من عمتي لتختار بها الهدية التي تناسبك .. فهي لم تجد في أسواق ( ليننقراد ) شيئاً يليق بك فتهديه لك ..رفضت بإلحاح شديد استلام المظروف .. وقلت لها نحن نفضل الموت جوعاً علي أخذ المال من إمراة مهما كانت عمق العلاقة التي تربطنا بها .. هذا في عرفكم أنتم أما نحن فلا وعليك أن تحترم عاداتنا وتقاليدنا .. اسمع يا عزيزي أويس .. إذا لم تأخذ هذا المظروف مني الآن سأخاصمك أبد الدهر ولن تراني بعد اليوم ..حسناً ..حسناً ..سآخذه حالاً .. فأنا لا أتصور الحياة بدونك يا ( إزابيلا ) .. قراسيا حبيبي .. جاو .. ولدي وصولي إلي غرفتي اكتشفت أن بالمظروف عشرة آلاف دولار بالتمام والكمال ..أعطيت منها كريموف علي الفور عشرة دولارات وهو يحمل عني متاعي .. فكاد يطير من الفرح .

  20.  
  21. #36
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    ( 14 )
    إن دماراً هائلاً قد لحق بالمباني وهنالك قتلي وجرحي ومشردون بلا مأوي ..آه يا أويس ليتني مت قبل أن أسمع بذلك ..لا تقولي هكذا يا شاهندة وأنت فتاة مسلمة ولن يصيبكم أذى إن شاء الله ..هل تعتقد ذلك يا أويس .. أنا لا أعتقد ولكنني أرجو الله مخلصاً أن يجنب بلادكم الكوارث والمحن ..وهنالك المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة ..الكل سيقف إلي جانبكم ..نحن لانريد المجتمع الدولي ولا منظمات الإغاثة ..إنها تظهر فقط وقت وقوع الكارثة وتصور المشاهد المرعبة لاستقطاب الدعم ثم لا نسمع عنهم شيئاً ..ما نوده هو وقوف أخوتنا في الإسلام ..المسلمون ؟!! ..وأين هم يا شاهندة أين هم ؟ ..هل تسّمين هذه الشعوب المتصارعة والمتناقضة مسلمون ..والآن ماذا أفعل يا أويس ؟ أنا خائفة جداً ..خائفة يا أخي الغالي أويس ..أرجوك دعني أتشبث بك فأنا أوشك أن أفقد الوعي ..أشعر بضعف شديد ..ومن ثم ّ تهاوت نحو الأرض وهي ترتجف بصورة مقلقة جداً ..شاهنده تماسكي ..حبيبتي خذي نفساً عميقاً ..ببطء ياشاهنده ببطء أكثر ..هيا مرة أخري ..هيا ..هكذا أفضل ..ضعي ثقلك علي كتفي ..ها ..كيف تشعرين الآن ..أشعر بشيء من التحسن .. لقد فقدت شقيقي ولا أريد أن أفقد بقية أفراد عائلتي .. يا رب ..خذ بيدهم ..يا رب ..فأنا أحبهم جداً ..اللهم آمين .. قلت لها وأنا أجلسها علي أريكة قرب النافورة الكبرى ..ارتاحي قليلاً ودعينا نراجع عيادة الجامعة والطبيب المناوب ..أنت طبيبي وأخي يا أويس ..لست بحاجة إلي الطبيب ..أحتاج فقط إلي وجودك إلي جانبي ..لكنني أفكر في ترك الجامعة والعودة إلي كشمير لأكون قريبة من أهلي أموت وأحيا بقربهم ..لا يا شاهندة ..ليس هذا رأياً صائباً ..لقد تبقت لك سنة واحدة ويجب أن تصبري قليلاً ..ثم تعودي وقد حققت طموحات أهلك وبلدك فيك ..أتمني لو أستطيع .. أتمني أيها الغالي أويس .
    هاأنا ألوذ بصديقي وزميلي في الغرفة ( شوماخر ) وتعليقاته الساخرة حول كل شيء لدرجة أنه يسخر أحياناً من نفسه ومن الألمان بشكل عام .. فقد كنت حزيناً ومهموماً وتحولت في الآونة الأخيرة إلي صندوق للأحزان .. الكل يطرح همومه علي قلبي وأنا لست مؤهلاً بعد لتحمل عذابات جميع هؤلاء الأعزاء ..شاهندة من جهة والتي تتوقع أسوأ الاحتمالات بعد الزلزال الذي ضرب بلادها ليضيف بعداً جديداً للمأساة القائمة أصلاً بسبب تقسيم كشمير بين شطر هندي وآخر باكستاني تقلقني اخشي أن ترحل فجأة ولا أجدها بقربي .. كم أشعر بأنني مشدود إليها ولا أملك تفسيراً لتعلقي بها ..هل هو إحساس أخوي ؟ ..هل هو حالة من الحب ؟ لا أدري .. إييه ..وكم هي قصيرة وحلوة هذه الحياة وليت الساسة في العالم المأفون هذا يعطي حق تقرير المصير لكل شعوب الأرض لتعيد لمرة واحدة وإلي الأبد تشكيل نفسها وهويتها وترابها ..بدلاً عن هذا التشتت والقهر والطغيان وإلا فليقل لي أي عارف متنفذ إن كانت هذه الحدود القائمة الآن بين الدول قد نزل بها القرآن أو الأنجيل ..دعوا كل قومية تلتئم من جديد وأعيدوا رسم الأمم وفق رغبات شعوب الأرض .. ساعتها ستختفي هذه الصراعات المريرة وهذا القتل والتشريد والعدوان ..لم أعد احتمل كل هذه المآسي وزاد الطين بلة كما يقولون انفعالي بقصة ( البروفسير نصيف ) وداره المغتصبة في (حيفا) وبكاؤه أمامي مثل طفل صغير رغم كل ما ينطوي عليه الرجل من علم وثقافة وإنسانية ..لا .. لا ..هذا كثير جداً ..(شوماخر) يا جاري العزيز ..لماذا شعبكم جاد وعملي ومتغطرس ..متغطرس ؟! ..هل قلت متغطرس ..؟ ..إننا أطيب شعب في الوجود ونعشق النكتة والضحك والسخرية ..صحيح أن وقت العمل للعمل ..خمسة أيام من كل أسبوع عمل دؤوب ولا مجال للتراخي أو التسيب ويومان هما السبت والأحد نمارس فيهما هواياتنا المختلفة ..نركب الدراجات لعشرات الكيلومترات داخل الأدغال الكثيفة والغابات ونغني ونرقص في الأمسيات ونتناول القهوة والعصير ونحن نمضي سويعات نهار كل أحد مع الأصدقاء بالمقاهي و(الكافتريات) ..نحن نستمتع بوقتنا ونؤمن ببلدنا ألمانيا العظيمة ذات التاريخ العريق ..وهل لديكم أدغال مثلنا يا (شوماخر) ؟! ..بل غابات علي مدي البصر فقد حكم ألمانيا في القرون الوسطي قيصر مهووس بالحفاظ علي البيئة وأصدر قانوناً يقول ..أن كل من يقطع شجرة يشنق في الشجرة المجاورة لها ..أنت تمزح يا (شوماخر) ..عندنا تقطع الشجرة لأتفه الأسباب وقد تجتث من جذورها لمجرد تحويلها إلي بضعة جوالات من الفحم ..أليس لديكم غاز أو فحم حجري ؟!..هذا تصرف بشع يا أويس ..لم يتبق إلا أن تعيرونا قيصركم ذاك ليفرض علينا قوانين كهذه حتى لا نعبث بالغابات ..ولكن قل لي ..ما نوع النكات التي يتم تداولها في مجتمعاتكم ..؟ ..النكات لا تصنف وليس هناك شكل معين للنكتة أو الطرفة .. بل للنكتة مناخ وتصور معين يا (شوماخر) ..نحن مثلاً في السودان وبالنظر لتركيبتنا القبلية ..نتبادل الحكايات عن هذه القبيلة أو تلك ..خذ هذه النكتة ..كان قروي من الريف البعيد يستمع للأخبار فعلم أن الأمريكان قد صعدوا للقمر ..التفت إلي جاره وقال ..ماذا سيفعلون آخر الشهر ؟! ..لم أفهم النكتة جيدآ يا (أويس) ..بيد أننا نسخر من قبيلة في ألمانيا تدعي (أوست فريزلاند ) ..وهي منطقة رعوية وزراعية لم تتأثر بعد بالحداثة .. يقولون لك .. عندما حطت (الهلوكبتر) أول مرة في ( أوستفريزلاند) ..قدموا لها ( البرسيم ) .. ويقولون لك إذا رأيت شرطياً هنالك يضع علامة ( كتاب ) فوق كتفه الأيمن ..هذا يعني أنه يعرف القراءة والكتابة ..أما إذا رأيته وقد وضع علامة كتاب علي كتفه الأيمن وثان علي كتفه الأيسر فهذا يعني أنه يعرف شخصاً آخر يعرف القراءة والكتابة .

  22.  
  23. #37
    نائب المشرف العام
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المشاركات
    9,979





    لكَ التحية أخي عبد الغني.

    ما زلنا في إنتظار تتمة القصة.





    علِّمي نفسك ما تندهشي

    صدِّقي كل الما معقول!!

    -----------------------

    سأبقى ماحييت بدار دنيا .. رفيقاً لا يخون ولا يجافي
    وأحفظ عهدكم في عمق قلبي .. ويروي ودكم نظم القوافي

    ويبقى دائماً هناك وإن (مرام) لتحقيقه.

    -----------------------------------------------

    اللهم اغفر لوالدي، وارحمهما وأطل في عمريهما يارب العالمين.

    -----------------------------------------------

    اللهم ارحمني برحمتك، واغفر لي يا مالك الغُفران،
    واجعل قبري روضة من رياضك، وأدخلني فسيح جناتك،
    يا رب العالمين.
  24.  
  25. #38
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزتي الغالية بنت الرفاعي ..السلام عليكم ورحمة الله
    ضاعت مني أنستاسيا في قاع المدينة وفي الواقع نسيت أن هنالك من يتابع ..أعود لها بكل سرور ومعذرة للتقصير هذا مع تحياتي .

  26.  
  27. #39
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الخامسة عشرة
    يقولون إن خير وسيلةً للدفاع هي الهجوم .. وهذا ما فعلته مع (أنستاسيا) حين التقيتها بعد رحلة ( لينينقراد ..) رسمت فوق وجهي قناعاً زائفاً من التجهم والاستياء بصورة أخافتها .. وظلت تردد عليّ في حيرة واضطراب ..أويس ما بك ..عزيزي ماذا حدث في غيابي ؟! .. ما حدث في غيابك يا امرأة .. هو غيابك .. لا أفهم ما تقصد .. حقيقة لا أفهمك يا أويس .. كيف تجرؤين يا زوجتي المثالية علي الغياب عني وعن أولادنا أسبوع بأكمله .. سأطلقك يا ( أنّأ ) .. وسأرسل خلفك أطفالنا الخمسة إن عدت لهذا مرة أخري .. ليس من تقاليدنا أن تسافر الزوجة دون إذن من زوجها .. مفهوم يا امرأة ؟! .. قلت زوجتك ؟ أنا زوجتك ولدينا خمسة أطفال ؟ .. نعم وسأطلبك في بيت الطاعة إن لم تطيعي أوامري ..سرتها هذه المسرحية الجديدة بدرجة لا توصف .. والآن اسمعني جيداً يا ( أويس ) .. أقسم بأنني سأتزوجك إن شئت أو أبيت وعليك أن تكف عن العبث بي وبمشاعري .. لأن مثل هذه الأمور لا تحتمل المزاح .. والآن سأوضح لك يا زوجي العزيز كما تدّعي أين كنت .. لقد اتصلت بك قبل سفري إلي( بكين )مع الوفد المرافق للرئيس ( قورباتشوف ) وعلمت من (كريموف) بأنه لم يكن موجوداً لدي مغادرتك الداخلية .. لقد أردت عتابك علي طريقة ( السايكودراما ) وها أنت تقسمين بأننا سنتزوج .. وعليك أن تعلمي بأنني مستعد للزواج بك الساعة إن كان هذا يناسبك .. أنت غالية جداً عندي يا ( أنّا ) .. بل أغلي شيء في حياتي .. وكان عليك أن تتمهلي لأخطبك أنا قبل أن تقوليها أنت صراحة .. أنستاسيا يا طفلتي الرائعة بل الأروع .. كنت وستظلين أعظم قصة حب في حياتي ..وكرامتك من كرامتي .. لقد كنت سخيفاً جداً إذ وضعتك في مثل هذا الموقف .. وعلم الله أنني أحبك بكل كياني .. لم تتحمل أعصابها المرهفة هذا الموقف فبكت وهي تداري وجهها بكّلتا يديها وتتأوه باطّراد فاقتربت منها وأنا أربت علي كتفها .. لا بأس يا عزيزتي .. أرجوك كفي عن البكاء ( It,s O.K. ..) والآن هيا ابتسمي ..هيا .. ومن بين الدموع التي سألت علي وجنتيها الساحرتين ..تفتحت نصف ابتسامة خجولة أضاءت وجهها الجميل .. نعود لرحلة بكين .. ماذا حدث ؟ ..كانت رحلة محبطة لنا جميعاً ..كنا نحاول الإستقواء علي الغرب وضغوطاته بحلفائنا التقليدين لكن الشعب الصيني استقبلنا بالمظاهرات العدائية .. نحن ُيفعل بنا هذا ؟! الاتحاد السوفيتي العظيم يتعرض رئيسه للإهانة ومن دولة شيوعية ..؟ .. بهذه المناسبة وددت لو ألفت انتباهكم لحدث خطير تناقلته إذاعات العالم في غيابك وهو طرد المسلمين الأتراك المقيمين لقرون بواحدة من بلدان السوفييت بعد أن خيروهم بين تغيير أسمائهم ذات الطابع الإسلامي وتغيير ديانتهم وعدم التخاطب باللغة التركية وبين البقاء بذاك البلد .. وكان منظراً مؤثراً نقله مراسل ال ( B.B.C. ) وهو ينقل النبأ..أي منظر يا أويس .. ؟ الأتراك المبعدين وقد حشروا قسراً داخل القطارات في رحلة بلا عودة من منازلهم التي ولدوا وترعرعوا بها من أول جيل للمهاجرين قبل مائة عام وحتى الجيل الرابع ..إنهم حتى لا يعلمون من أي جزء من الأراضي التركية هاجر أسلافهم .. هذه قسوة غير مبررة وستكون بداية النهاية للإتحاد السوفييتي .. إنه ليحزنني إبلاغك بوجهة نظري هذه وبكل صراحة لأن بلدكم لم تقصر معنا .. وفرت لنا ( الأونيفيرستيت دورشبي ) أعظم العلماء والأساتذة وأضخم المعامل وأجمل الُنزل ..أنتم كرماء جداً يا أنستاسيا وجامعتنا جامعة الصداقة عظيمة ومتميزة .. ولكن مثل هذه التصرفات تغضب الله سبحانه فينتقم منكم .. أرجوك توقف ولا تكمل .. سأبلغ رئاسة الحزب فوراً بما حدث وأنا متأكدة بأن وزارة الخارجية لن تسكت علي مثل هذا التصرف الذي سيغضب أصدقائنا في الشرق الأوسط وبالدول الإسلامية أيضاً.
    لم أعد أحتمل غياب صديقي وزميلي في الغرفة شرودر وكان عليّ العثور علي أنجلينا باية وسيلة سيما وأن الجامعة مغلقة في إجازة نصف العام .. فكرت أول ما فكرت ببسام الذي توطدت علاقته مع أنجلينا بصورة لافتة وهنالك بوادر تحول دراماتيكي نحو نعوم من قبل شاهندة .. التقيته صدفة ذات مرة ..استوقفته وقلت له في حزمٍ شديد ..أيها العزيز نعوم ..شاهندة أختي وهي مسلمة وأنت مسيحي من اسبانيا .. ومظفرأباد ليست كمدريد .. عليك أن تكون مؤدباً ومهذباً معها وإلا .. لماذا تهاجمني بهذه الصورة العدائية يا أويس ..شعوري نحو شاهندة هو شعور أخوي تحتمه زمالتنا ووجودنا في كلية واحدة وأنا احرص عليها أكثر منك .. صدقني يا أويس سأحافظ عليها كما لو كانت شقيقتي .. أثق في كلامك ووعودك يا نعوم .. صحيح أنت أوربي النشأة ولكنك زرت لبنان وتدربت مع المقاومة وفيك حساً ثورياً تغذيه حزمة من القيم النبيلة ولأنك وشربت من نهر (الليطاني) .. ألستم من قال أن من يشرب من نهر الليطاني لا يعرف الحقد سبيلاً إلي قلبه .. هل بدأت تشعر بالغيرة منه يا أويس .. في الحقيقة لا ونعم .. شاهندة عزيزة علي قلبي بيد أني لا أجد الوقت الكافي لأمنحها عظيم اهتمامي وقد بت موزعاً بين ( أنّا ) و( إزابيلا ) وتبقي رزان صامدة في ثنايا الذاكرة المتعبة لا تفارقها ليل نهار ..وأخيراً عثرت علي إحدى صديقات أنجلينا التي أرشدتني إلي مكان تواجدها .. قالت لي ( أنجي ) عصبية وقلقة جداً طوال الفترة الماضية وقد تركتها للتو بإحدى الحانات وهي تشرب الكأس تلو الكأس حتى أضحت مخمورة تماماً .. وكلما أسألها عما يقلقها تنفجر باكية .. مرحبا أنجي .. أويس ؟!! قالت ذلك وقد انتفضت محدثة فوضي لا مثيل لها بالمكان .. تساقطت الأكواب و( منفضة ) السجائر وعلبة سجائرها واندلق كأسها علي الطاولة بعد أن تدحرجت فوقه زجاجة (الويسكي ) التي لم يتبق منها الكثير محدثة فرقعة هائلة كقنابل ( المولتوف ) .. ما بك يا أنجي ؟ اخبريني بربك ما بك ؟ .. احتضنتني بقوة وهي تردد ( halt mich fest.. lass mich nicht ) ..ومضي زمن طويل قبل أن أتمكن من تهدئتها .. إنها كارثة لا تصدق يا أويس .. لقد غادر شرودر إلي كينيا وهنالك التقي بعض الرفاق ومن ثمّ استقلوا طائرة اللوفتهانزا المتجهة إلي ألمانيا عن طريق القاهرة وقاموا باختطافها وأجبروها علي الهبوط بمطار مقديشو .. نعم .. نعم .. لقد سمعت بالحادثة في ال ( B.B.C. ) .. ولم أكن أتصور أن شرودر من بين الخاطفين .. هذا يفسر لي غيابه المستمر منذ ما يزيد علي الأسبوعين .. إنه من بينهم .. لقد خدعتنا السلطات الصومالية وأدخلت القوات الألمانية الخاصة للطائرة في زي موظفي الإغاثة .. المجرمين القتلة .. الآن يا أنجي العزيزة أدركت معني القتل وسفك الدماء .. الآن ..؟ بعد أن تأكد لك أن شرودر من بين المفقودين وربما القتلي .. هذا شيء فظيع .. أكاد أُجن يا أويس .. أكاد أُجن .. كانت مطالبهم بسيطة وهي الإفراج عن رفاقنا المسجونين في سجن ( شتوتقارد ) .. أنا حزينة وضائعه يا أخي ومرة أخري يفتح صندوق الأحزان علي آخره ..هونت الأمر عليها وطلبت منها أن تمر عليّ مساء الغد لاستلام متعلقات شرودر ..ماذا أفعل بها .. قل لي بربك ماذا أفعل بها ؟! .. قالت ذلك وهي تمسك بتلابيبي وتهزني هزاً .. لربما تكون بها بعض الأوراق الهامة يا أنجي .. أرجوك لا تسيئي فهمي .. لم أكن أعلم أن شرودر يهمك بهذه الدرجة .. إنه ابن عمتي ويكبرني بعامين فقط .. نشأنا وترعرنا في قرية واحدة .. وعندما بلغ سن السابعة عشرة غادر أسرته ليستقر في ( فيينا ) .. ولحقت أنا به بعد أن صرت في السابعة عشرة .. السن التي تخولني الانفصال عن أسرتي والعيش مع أصدقائي .. إني أتذكر تلك الأمسية التي ودعت فيها والدي المقعد بسبب المرض .. غادر غرفته علي كرسيٍ متحرك حتى باب حديقتنا .. ضمني إليه وهو يبكي .. وكانت والدتي إلي جانبه تشد من أزره دون جدوي .. قال لي بين الدموع والتنهدات ربما لا نلتقي مرة أخري يا طفلتي الغالية (أنجي ) حاولي أن تتذكري ( بابا ) وصلي من أجلي وسامحيني إن قسوت عليك أو قصرت في أمر يخصك .. كنا نعيش في قرية صغيرة جداً تعدادها لا يتجاوز ثلاث ألف نسمة .. وكانت حياتنا مملّة وفارغة تتمحور حول مصنع صغير للأدوية .. لم تستوعب فضاءاتها وعتمتها طموحاتي وأحلامي ..فقررت اللحاق بشرودر في النمسا وارتياد آفاق العالم الرحبة بحثاً عن الحب والمجد والسعادة .. لم يعش والدي طويلاً فقد مات بعد شهر من مغادرتي ولحقت به والدتي بعد عام .. كانت امرأة قوية ومتجبرة ولا أدري كيف لم تصمد أمام الموت .. هذا قدرها ولا يعيش المرء دقيقة واحدة بعد انقضاء أجله .. قلت لها ذلك لأصحح فهما لفلسفة الحياة والموت.

  28.  
  29. #40
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    اذهلنى ابداعك
    وانت تنتقل من فكرة لآخرى
    وترجع لنفس الموقع بدون خلط
    مع كثرة ترحالك
    فأنت الإبداع بعينه

  30.  
  31. #41
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزي محجوب ..صباح الخير
    بداية معذرة للتأخير في الرد بسبب وعكه بسيطه (ملاريا ) ..ما قلتوا حتنتهوا منها ..متين ؟1

  32.  
  33. #42
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة السادسة عشرة
    غادرنا موسكو أنا و(أنأ) فقد علمت أن أسرتها تسأل عني وتود رؤيتي من جديد ..ضمتني والدتها بحنو وحب وشمّتني تحت الأذن تماماً كما تفعل العمات والخالات في السودان .. وكأنما للحب والحنان هوية واحدة وشكل واحد في شتي بقاع العالم .. لماذا كل الكبار موسومين بهذا القدر من الحنان في وقت يتباعد فيه الصغار .. يركضون يمنة ويسرة لتحقيق الثراء السريع وقد يمر عام لا يزور فيه الواحد فيهم أمه وأبيه بينما العمر يمضي وتنقضي الآجال ليفاجأ الواحد منهم ونفاجأ بالمذياع ينعي وفاة فلان أو فلانة .. والد أو والدة كل من الدكتور فلان بكندا والمهندس (علان) بأمريكا .. يرحلون في صمت ودون ضوضاء وأبناؤهم بعيدون هنالك في مدن الصقيع فلا يوسدونهم الثري بأيديهم هم وليس بأيدي الأقارب والجيران .. والآن جاء دور والد أنستاسيا فيأخذني بالأحضان وهو يردد ( دوبريا قيتشر ..ياجولستا ) ..وتقافزت الصغيرة ( باتريشيا ) لتقتحمني في حميمية هائلة .. كل هذا الإعزاز والود تكنه لي هذه العائلة الأنيقة .. يا الله كم أنا محظوظ .. قبلات وأحضان وشميم ( الحبوبات ) .. أشعر وكأنني بين أفراد أسرتى .. رزان لا تحب قبلات العمات والخالات .. قالت لي ذلك وكنا قد عدنا لتّونا من المدرسة وكانت إحدى عماتها قد وصلت من البلد .. أخذتها إليها وقبلّتها فوق فمها وهي تصدر فرقعة وهمهمة مثل ( موه !!) أو شيء من هذا القبيل .. انفلتت منها وهرعت نحو الحمام .. غسلت فمها وجففته ومن ثمّ عادت إلينا ولدي باب منزلهم قلت لها وأنا أغادر .. لم فعلت هذا يا رزان ؟! .. لأنني ببساطه لا أحب أن يقبّلني أحد في فمي ..ولا حتى أنا حين نكبر ونتزوج ..؟..سأفكر في الأمر بعد الزواج بشرط أن تقلع عن أكل ( فول الحاجات والقونقليس بالشطة ) وتنظف فمك بالمعجون والفرشاة .. لن أدع أحداً سواك يقبّلني ما حييت وسأختزن كل قبلاتي لأجلك .
    انتهت مراسم الاستقبال التي أعقبتها وجبة عشاء دسمة .. انتقلنا بعدها أنا وأنستاسيا إلي غرفة الجلوس .. تمددت علي أريكة أمامي وقالت لي بصوت هامس ( أدنو مني يا أويس ..) .. كانت ساحرة ومتألقة وكأنها قدمت لتوها من الجنة .. ستقص عليّ بقية أجدادك .. توقفنا في المرة السابقة عند جدك الخامس .. بل الرابع .. لا بل الخامس .. وكنت أود إغلاق هذا الملف الذي يحولني في كل مرة إلي شهرزاد .. جلست علي كرسي صغير وحدثتها عن جدي المقداد بن الراشد ..قلت لها ..أقسم الملك الأيهم بألاّ يزوج ابنته الوحيدة (قمر الزمان) إلا لمن يعيد له سيفه (قرص الشمس) المرصع بالذهب والأحجار الكريمة من قصر أمير جزيرة الهلاك في أعالي البحار .. وهي جزيرة تسكنها المردة والشياطين وشرذمة من القراصنة قطعت الطريق علي سفينة (الأيهم) التي سافرت إلي رأس الرجاء الصالح خصيصاً لإحضار ذاك السيف الذي أهداه له ملك قبائل (الزولو ) الجنوب أفريقية .. قبِل جدي المقداد بن الراشد الرهان حتى يفوز بقمر الزمان التي طبقت شهرتها الآفاق لجمالها ودلّها ودلالها .. وكان جدي حينها فارساً مغواراً تهابه جميع قبائل العرب .. جمع حوله عدداً من فرسان القبيلة وعكفوا علي صناعة قارب شراعي كبير .. أخذوا معم ما يكفيهم أكلٍ وشربٍ وسيوفٍ وخناجر .. وتمنطق جدي بخنجره الأزرق الذي يا طالما مزق أكباد الفرسان إرباً .. إرباً .. ومن ثم ّ أبحروا ذات صباحٍ سكنت فيه أمواج البحر إلي جزيرة الهلاك لاستعادة السيف المفقود .. وفي الليلة الرابعة علي رحيلهم هاج البحر وماج وأصبح المركب الشراعي مثل كرة تتقاذفها الأمواج .. كانوا قريبين جداً من وجهتم بيد أن المركب انقلب رأساً علي عقب وضاعف من حجم المأساة الظلام الكثيف والرياح العاتية .. وفجأة وجد جدي المقداد بن الراشد نفسه وهو يقاوم الموت بشراسته المعهودة رافضاً الاستسلام .. وفي تلك اللحظات الحرجة انشق الموج عن حوت عملاق ابتلع جدي في ثوانٍ .. فطن الجد المتعب إلي خطورة موقفه وأدرك أن الحوت سيهشمه ويهضمه فيما لو وصل إلي أمعائه ..تشبث بحلق الحوت قريباً من خياشيمه وصار يتنفس من خلالها والحوت الجائع يحاول عبثاً إنزاله إلي الأمعاء .. مضي يوم كامل وجدي قد تكور في موقعه يتنفس مع الحوت ويأكل الطحالب والأصداف التي يمررها الحوت عبر فمه الواسع .. وفي اليوم التالي لاحظ جدي عبر فوهة الخياشيم أنهما باتا قريباً جداً من اليابسة فانتزع خنجره الأزرق وشق بطن الحوت العملاق الذي أرسل دوياً هائلا وهو يضرب الماء بذيله ويتلوي من شدة الألم .. انفلت جدي من حلق الحوت ليغوص بين ثنايا الوحل والأعشاب الكثيفة القريبة من الشاطئ .. نظر حوله فلم يعثر للحوت علي أثر وبانت عند الأفق كثبان الرمل والأشجار الباسقة التي تؤكد نجاته ولو إلي حين ريثما يتبين أين هو من الجزر العديدة المنتثرة بين جنبات المحيط .. تنفس جدي المقداد بن الراشد الصعداء وحمد الله كثيراً علي سلامته ..أمضي سحابة ذاك اليوم وهو يعالج جراحه والآلام الرهيبة التي تعصف بجسمه .. وشيئاً فشيئاً شعر ببعض التحسن .. تحامل علي نفسه ونهض وهو يترنح كالسكارى .. وغادر الشاطئ ليجد نفسه وسط غابة من أشجار البلوط الكثيفة .. والحدائق الغناء التي تعج بالعصافير الملونة .. وكان ثمة نبع صاف داخل الجزيرة شرب منه حتى ارتوي وغسل جسده وملابسه مما علق بها من أدران واستلقي فوق الرمل ونام .. نام طويلاً لدرجة أنه لا يعرف كم مضي عليه من الوقت وهو نائم .. وعندما استيقظ حملت له النُسيمات الباردة أصوات دفوفٍ وغناءٍ ليست ببعيدة عن المكان الذي هو فيه .. تتبع أثر الغناء ليفاجأ بعدد من الصبايا وقد تحلقن حول فتاة رائعة الجمال نامت فوق أرجوحة من الدوالي والصبايا يمرجحنها ويغنين لها .. استجمع قواه وصفق بيديه طالباً الإذن بالدخول لهن .. قفزت الفتاة من أرجوحتها وهي فزعة وأرسلت الفتيات صرخات وأحدثن جلبة وضوضاء من شدة الخوف بيد أن الفتاة أمرتهن بالتوقف عن الصياح .. عمل جدي علي تهدئتهن وجثا علي ركبتيه وهو يقدم فروض الولاء والطاعة ..اطمأنت الفتاة بعض الشيء .. تقدم جدي نحوها وأعطاها منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب والفضة كعربون صداقة وتعارف ..أمرت الفتاة رفيقاتها بالانصراف .. طلبت منه أن يجلس وكانت المشكلة في كيفية التعارف بينهما .. شرح لها بالإشارات كيف وصل إلي هنا ولماذا غادر موطنه في بلاد العرب .. كانت جميلة جمالاً يخلب الألباب ولم يحتمل جدي المقداد بن الراشد تلكم الأضواء التي سفحتها وجنتاها الساحرتان .. صفقت بيديها فعادت الفتيات الأخريات في ثوانٍ معدودة وأمرتهن بأخذه عبر طريق معزولة إلي القصر وعادت هي وبقية الخادمات عبر طريق آخر ليجد نفسه بإحدى غرف القصر .. أحضرت له الخادمة طعاماً وشراباً وملابس جديدة وكانت تلك الأميرة الصغيرة تزوره كل مساء بعد أن يخلد الجميع للنوم .. ليكتشف جدي أن تلك الفتاة ليست سوي ابنة أمير جزيرة الهلاك .. كانت مفاجأة عظيمة كادت أن تقضي عليه .. ووعدته بأن تحقق له مأربه ولكن بقليل من الصبر والتريث حتى لا ينكشف أمرهما فيقتله والدها ومن ثمّ يذيقها الويل والثبور وعظائم الأمور .. وفي ليلة صاخبة كان أمير جزيرة الهلاك يحتفل خلالها بزواجه من الزوجة الخامس والستون ..إنسلت الأميرة من الحفل ودخلت غرفة والدها وبحرص شديد أخذت السيف المطلوب وعادت به إليه وأمرته بالتوجه نحو الشاطئ ليجد مركباً صغيراً به عدد من الرجال بانتظاره ليأخذه ويعود به بأمر منها إلي بلده .. وكانت الريح مواتية والبحر ساكن فلم يحدث ما يعكر صفو تلك الرحلة .. كان الوداع مّر المذاق علي كليهما ولم يدر كيف يشكر جدي المقداد بن الراشد تلك الصغيرة التي لا يعرف حتى اسمها .. فوعدها بان يعود يوماً ما لرؤيتها وعقد حلف مع والدها .. وعاشت القبيلة أياماً وليالي في الرقص والغناء احتفاءً بزواج جدي من الأميرة قمر الزمان .. والآن يا ( أنّا ) ما رأيك في هذه الحكاية ..؟ !! .. أنستاسيا ما رأيك ..؟ دنوت منها أكثر لأكتشف بأنها قد راحت في سباتٍ عميق .

  34.  
  35. #43
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    وادرك شهرزاد الصباح
    وسكتت عن الكلام المباح

  36.  
  37. #44
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزي محجوب ..صباح الخير
    من شبكة حربي لشبكة أنستاسا ..المخرجه كيف ؟!

  38.  
  39. #45
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة السادسة عشرة
    خطاب مستر أوليس ..مستر أوليس ..كريموف وهو يخطئ للمرة الألف في نطق اسمي ..نعم يا كريموف ..ماذا وراءك ؟ ..البشارة سيدي .. البشارة .. لقد وصلك مسجل من الخرطوم ..خطاب لي أنا؟! ..نعم .. نعم بكل تأكيد ..أين هو ؟ قلت له في لهفة عارمة ..ولكن ..أين ..؟ ..فهمتك يا كريموف خذ هذه ..خمسة دولارات ..؟ أنت كريم جداً سيدي ..وأنت أبو الكرم يا كريموف واسمك يشير إلي ذلك فقط أعطني المظروف ..أدخل يده في تضاريس( البالطو) الضخم وناولني إياه ..أخذت منه المظروف وتوجهت نحو غرفتي ..أسدلت الستائر وأغلقت الباب من ورائي وكأنني أختلي بحبيبة قلبي لأول مره ..فضضته بعناية فائقة وكأنني أخشي تساقط الحروف علي أرضية الغرفة ..وشريط كاسيت أيضاً .. يااه .. إذن أنا موعود بالسفر عبر عيون أهلي إلي سماوات وطني الحبيب .. قرأت الرسالة ووجدت بها أسطراً من والدي وأخري من شقيقي وشقيقاتي حتى الصغيرة ( روان) التي لا تزال بالروضة أعطوها حيزاً .. كانت كلمات مفعمة بالأشواق والأمنيات والوصايا .. الصلاة والمذاكرة ولم أجد سطراً واحداً من أمي التي تجيد القراءة والكتابة فانتابني إحساس عارم بالخوف ولكنني ما أن أدرت شريط التسجيل حتى جاءني صوتها واهناً متعباً وحنوناً .. احتضنت آلة التسجيل أضمها إلي بقوة وكأنني أضم إليّ جسد أمي الحبيبة .. وبكيت .. لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا أبكي .. وعندما تعبت من البكاء أخذت قرصاً من ( فاليوم تن ) فنمت ..وفي المنام زارتني أمي ..جلست بقربي تؤنسني وتأخذ يدي في يدها وتقص علي الأحاجي تماماً مثلما كنت صغيراً ..حدثتني عن ( ود النمير .. وفاطمة السمحة والغول .. وود النقادي) .. وآخرين ..كان حلماً جميلاً تمنيت لو لم ينته ولكن هاهو كريموف مرة أخري يقرع الباب بقوة فيوقظني .. مستر أوليس .. مستر أوليس .. السيدة ذات الفراء الفاخر تطلبك علي الهاتف .. نهضت في تثاقل واضح وأنا أشعر بصداع شديد من أثر ( الفاليوم ) .. وذهبت نحو غرفة الإستقبال .. مرحبا إزابيلا .. كيف حالك يا أويس .. أسبوع كامل ولا أسمع حتي صوتك ؟! ..هل هذه هي أصول الصداقة عند قبائل أفريقيا .. لا والله يا إزابيلا ..أنت دائماً في بالي ولكن الامتحانات علي الأبواب .. هل تستطيع المرور عليّ بمنزلي ؟! .. الآن ؟ .. بالطبع فأنا أشتاقك جداً ..حسناً فأنا أشتاقك أيضاً وأشتاق عصير التوت الكولمبي ..كنت بحاجة لكتف صديقة أرتاح عندها بعد الرسالة التي وصلتني من أهلي .. أخذت حماماً دافئاً وغيرت ملابسي بسرعة وحملت معي ربابتي .. لقد أعددت لك اليوم مفاجأة يا إزابيلا وأي مفاجأة ..مفاجأة ستزلزل كيانك ..فقد عكفت أنا وصديقي الإسباني ( نعوم ) القادم من جنوب لبنان علي حفظ أغنية لاتينية كتبها شاعر كولمبي وقمت بتوقيعها علي ربابتي مع بعض التعديلات .. استقبلتني بحماسة بالغة وكأننا لم نلتق منذ قرون .. جلسنا وحدنا في غرفة الجلوس .. سألتها عن أحوالها فغمغمت بعبارات غير مفهومة فهمت منها بأنها محبطة وأنها تتهدم وتموت ببطء .. اختفت وعادت بقنينة كبيرة من التوت الكولمبي الذي أحبه .. صبت لي كأساً عملاقة كمسبح صغير .. شربت منها حتي ارتويت وشعرت بالخدر يتسلل إلي عروقي .. وانزاحت في لحظات كل آثار التعب وآلام الصداع ودبت الحركة والحيوية في أوصالي .. حيوية جعلتني وقتها مستعداً لمصارعة ثور هائج .. إِنتبهت إلي آلة الربابة ورجتني أن أغني لها شيئاً خاصاً جداً قلت لها سأفعل .. أمسكت بالربابة وبدأت الغناء بلغة اسبانية سليمه .. انعقد حاجباها دهشة واتسعت عيناها الرائعتان تكاد لا تصدق ما تسمع .. ضحكت وفركت أصابعها من شدة النشوة .. غادرت موقعها بالمقعد المقابل وجلست بقربي تعيد الكلمات من بعدي وبدأ وكأننا نشّكل ثنائياً غنائياً رائعاً ..( إن عثرت عليك مجدداً في وقت ما .. سأعود إلي نظرات عينيك الحبيبة .. سأفعل معك نفس الأشياء المجنونة ذاتها .. لو عثرت عليك مجدداً .. سأعود إلي نفس المكان الذي فقدنا فيه حبنا .. لو عرفت مكانك لبحثت عنك ولقلت لك .. لا معني لحياتي بدونك .. ولكنك بعيد جداً .. ولكي أحقق هذا الحلم أفعل أي شيء .. كل مرة أتعثر بهذا الصوت .. لم يبق شيء بيني وبينك .. إن كنت أبكي لأن قلبي يفتقدك .. لكنني تعلمت حين أتألم بأنه يجب عليّ أن أنسي .. سأكون متغلغلاً في جلدك .. مبحراً في مسامك . .وسيبقي لي مكان في قلبك .. ولتكن هذه هي التنهيدة الأخيرة .. عندما عثرت عليك ذاك الصباح بينما النسيم يقبّل بشرتك الرائقة شعرت بهذا الحب الأزرق بداخلي وأراك في النجمة التي طالما حلمت بها .. بكل دمعة أثناء الغفران .. كالسماء الزرقاء ربيع أزرق غمرني .. علمني كيف تكون الرقة الساحرة فكتبت قصيده ) .. كانت منفعلة وقلقة وهي تتابع الغناء معي .. وعندما وصلت إلي المقطع الأخير .. أجهشت بالبكاء وهرعت نحو غرفتها .. دفنت نفسها داخل الملاءة وهي تنشج وتتأوه .. قلت لنفسي .. هذه الانفجارات الوجدانية مطلوبة في بعض الأحيان .. راجعت الصالون الأنيق ولفت انتباهي صورة كبيرة ل(إزابيلآ) وهي في ثوب الزفاف ومعها عريسها .. شاب أسمر طويل القامة وقد التف حولهما عدد كبير من الجنود يرتدون الزي العسكري وتظهر في الصورة أشجار كثيفة قرب نبع جارٍ .. شعرت بالخدر والنعاس وبين اليقظة والأحلام رأيت وجهها قريباً جداً من وجهي .. فنمت .. نمت طويلاً وحين استيقظت من نومي وجدتها وهي تجلس قربي تتأملني في تبتل صوفي غريب .. أنت متعب يا أويس .. هيا أعيدك للنزل بعربتي .. نعم من فضلك .. وقبل أن أغادر ناولتني كأساً من عصير التوت .. الشراب الذي بات ينعشني ويسبح بي في سماوات من الراحة والسكون وكأنني (هدندوي) من غابات نهر القاش بكسلا أدمن البن الحبشي .. كان والدي قد عمل بمنطقة أروما القريبة من كسلا ولا يحتاج البجاوي هنالك لكثير عناء ليصنع قهوته .. تجده يحمل شيئاً من البن والسكر والفحم في جرابه ويتوه ممتطياً ناقته في وهاد الشرق وسفوحها بحثاً عن لا شيء في حياة هي أقرب للتصوف .. وعندما يشعر بأنه بحاجة لفنجان من القهوة .. يترجل من علي ظهر ناقته وتحت ظلال أقرب شجرة يقدح زناده ويوقد ناراً صغيرة يحتويها بين ثلاثة قطع من الطوب ليحميها من ( الهبباي ) العاتي لا سيما في الصيف .. ثم يضع إبريقاً فوق النار ويصنع قهوته بنفسه .. وتكون الصورة في أقصي حدود الروعة لو أن (تاجوج )بقربه تناوله الفنجان فلا يملك سوي أن يغني للحب والناس والجبال والأجداد ..( فنجان جبنه بشمالو تسوا الدنيا بحالو ..).
    ها أنا أتكيء علي وسادة الشجن .. تتقاذفني الهواجس والكوابيس الرهيبة .. وشجيرة صحرائي ونجمتي الغائبة رزان تهدهد أوجاعي في المنام فأرتاح . .لماذا أنت بعيدة بهذه الدرجة .. أنظر في الخارطة وأقيس المسافة بين السودان وموسكو فأصاب بالرعب .. والله كم أنت بعيدة يا رزان .. إني أتذكر لحظة فراقنا وأنا أقف قريباً من نافذة المركبة في موقف العربات بالأبيض .. وكفك في كفي ..لكأنها معجونة من أجنح غيمة .. أنيقة وبضة ومشاغبة ..عبثت بأصابعي أكاد أجن من البهجة والسعادة .. وهتفت في سري .. اللهم لا تحرمني من هذا الوجه الطفولي الرائع بكل تفاصيله المدهشة وسمته المترف البهيج ..ذاك الحنون.
    قرع بالباب والقادم ليس سوي أنجلينا جاءت لتأخذ متعلقات إبن عمتها الذي مات في مقديشو .. كم هي غريبة هذه الحياة ..ألماني يموت في مقديشو وطالب غاني يموت في موسكو .. دفعت لها بكل ما يملك شوماخر أو شرودر كما تعودنا علي مناداته .. ولكن أين هو .. ربما استكثروا عليه جنازة متواضعة فقذفوا بجسده للعقبان ووحوش الغابة .. وهل من أوراق أخري ؟! همست والدموع تبلل وجنتيها الناعمتين .. هذا كل ما لديه بخزانة الملابس وقد تكون ثمة أوراق أخري في الحقيبة الصغيرة .. ضمت ملابسه إلي صدرها تشمها وتبكي بكاءً مراً .. بكت الساعات الطوال وأنا أحاول تهدئتها دون جدوي .. لكأنها خزان للدموع يكفي كل المعذبين علي وجه هذه الأرض .. استأذنتني لحظة لتدخل الحمام .. سمعت صرير المزلاج من الداخل وبقيت هنالك أكثر من اللازم .. انتابني نوع من القلق .. طرقت باب الحمام طرقات خفيفة وأنا أنادي عليها .. أنجي ..أ نجي .. هل أنت بخير ؟! .. فجاءني صوتها واهناً ومتعباً وهي تردد بالألمانية ( Ich can nicht ..ich can nicht ) ومعناها لا أقدر .. لا أقدر .. دفعت الباب بكل ما أوتيت بقوة محطماً القفل من الداخل لأجدها وقد وضعت مسدساً قرب صدعها .. أخذت منها المسدس وأفرغته من الطلقات وسحبتها في رفق إلي الغرفة .. وحمدت الله كثيراً أنها لم تنتحر بكل ما يمكن أن يمثله حادث كهذا من ذيول وتداعيات بالنسبة لي .
    وبت غير قادر علي فعل أي شيء .. دائماً متعب ومكدود واشعر بثقل في أجفاني حتي وأنا داخل قاعة المحاضرات .. حالك لا تعجبني يا أويس .. لماذا أنت شاحب هكذا ؟ هل تشعر بشيء ؟ هكذا كان حديث أنستاسيا معي في كل مرة تلتقيني فيها وهكذا كانت ملاحظات الرائعة شاهندة .. حتي روزماري الإيرلندية القادمة من بلفاست والتي تعودت أن ترشقني بنظرات حانية عندما يلتئم شمل الطلاب في غرفة الطعام وتحييني من علي البعد .. هي الأخري لاحظت ما يعتريني من أسقام .. وفي مرة مازحتني وركضنا معاً نتقاذف بكرات الثلج ونحن نلهو في ميدان كرة السلة .. فشعرت بميول رهيبة نحوها لدرجة أنستني نفسي والمحاضرات فاقترحت عليّ جولة في الضواحي علي ظهر الدراجات البخارية وكانت لدي فكرة ما في قيادتها .. تجولنا في الغابات والمزارع دونما زاد دونما اتجاه .. وتمنينا لو نتوه العمر كله .. ألم تكفك ( أنّا ) وإزابيلا لتضيف لقلبك المتعب أثقالاً جديدة من المواجد .؟ كأن للجمال ثأر قديم لديك .. ما أن تتاح لك معرفة هذه الجميلة أو تلك حتي تستسلم تماماً وترفع جميع راياتك البيضاء ولا تقاوم وزملاؤك في جامعة الصداقة يقاومون الأنظمة المستبدة في بلدانهم بالدم والبارود .. ولكنني لا أؤمن بالقتل وإراقة الدماء دفاعاً عن فكرة أو قضية ما .. لأن ذلك الطريق يوقع ضحايا أبرياء من المدنيين وعابري الطريق الذين لا ذنب لهم وأؤمن بمدرسة غاندي في مقاومة الظلم والاستبداد .. المسيرات السلمية والإعتصامات فإن لم تنجح فسلاح الإضراب العام يفعل الأعاجيب في السلطة أي سلطة مهما كانت قوتها وجبروتها .. خذ مثلاً شرودر الذي فقد حياته وهو يقاوم حكومة بلده المنتخبة ديمقراطياً .. ما لها ألمانيا ؟! تقدم تكنولووجي ورفاهية لا يوجد لها مثيل .. أتفهم دوافعه لو كان قد قدم من دول العالم الثالث حيث تشقي أجيال بحالها من أجل الحصول علي شربة ماء أو جرعة دواء وليس مقعداً لحضور حفل للأزياء .. واليوم كان من المفروض أن أذهب مع ( أنّا) لمراجعة طبيب إختصاصي صديق لعمتها السفيرة السابقة ولكن إزابيلا أخبرتني علي الهاتف بأن عمتها خواليتا وابنتها سيسيليا قد حضرتا من لينينقراد وتودان رؤيتي .. توجهت علي الفور نحو منزلها لتأتي أنستاسيا في الموعد المتفق علي فلا تجدني .. لقد غضبت غضباً شديداً ولعنتك بكل اللغات .. كريموف يصف لي الموقف لدي عودتي من منزل إزابيلا .. يا لروعة الصغيرة سيسيليا ..أمضيت معهم بعض الوقت وكان علي إزابلا تركنا لوحدنا والذهاب في مشوار هام بالنسبة لهما .. حملتا ذات الحقيبة السوداء التي كانت تجد كل الحفاوة والاهتمام لدي وصولنا لآخر مرة إلي لينينقراد وهاهي ترقد الآن مهملة قرب الباب المؤدي إلي غرفة نوم إزابيلا ولا أحد يعيرها أي اهتمام .. لماذا هذه الدورة العجيبة من الحب والاهتمام ومن ثمّ الصد والإهمال بعد حين حتى بين الجمادات ؟! .. أمضيت وقتاً رائعاً وغريباً مع الصبية سيسيليا .. كانت صاخبة وضاجة ومسلية ومتوثبة كنمرة صغيرة .. وماذا أيضاً ؟ كانت حلوة وأنيقة ورائعه .. وماذا أيضاً ؟ كانت ناضجة وشيقة وغضة وناعمه .. وماذا ايضاً ؟ كانت كقطعة حلوي كحزمة من المرمر .. مشرقة وبهية و..و.. كل هذه الصفات تجمعت في سيسيليا ؟!! ..أنت تبالغ يا صديقي .. لقد منحتني ساعات من الدفء والروعة تكفيني بقية عمري .. وامتعضت حين سمعت بوق سيارة إزابيلا يطلب من الحارس فتح البوابة الرئيسية .. لعلني أول شخص تعامل معها كسيدة محترمة وليس كطفلة .. لتسكب كل ما بدواخلها من رقة وحنان .. مرحبا أويس .. مرحبا إزابيلا مرحبا خواليتا .. هل كانت سيسيليا رائقة ومؤدبة معك ؟ خواليتا .. تسأل بشيء من المرح ..أسأليه ماما .. بل كنت صامتة ومتجمدة كبحيرة روسية في فصل الشتاء .. الحق يقال .. لديك بنت رائعة يا عمة خواليتا وينتظرها مستقبل باهر .. إنها ذكية ومهذبة ..عدنا للأوصاف يا ( كامل الأوصاف ) .. علي رسلك .. علي رسلك .. ضعها هنا .. ومرة أخري تستعيد الحقيبة السوداء أهميتها .. هل قالت لك سيسيليا بأننا سنغادر بعد نصف ساعة من الوقت ..؟ العمة خواليتا تفاجئني بهذا القرار الصعب ..ماممااء ..هل سنغادر فعلاً ؟ ..اتركيني لبعض الوقت في موسكو .. أرجوك ماما .. أتوسل إليك .. لماذا لا تقولين شيئاً يا إزابيلا ؟ .. لا مجال لتركك ورائي والدراسة ستبدأ بعد غد .. مرة قادمة حبيبتي .. أعدك بأن أعيدك إلي هنا لتمضين إجازة الفترة مع ( إييزا) .. إييزا ؟! .. هل هذا هو الاسم الذي ينادونك به وأسمع به لأول مرة ( إزابيلا ) أنا الذي كنت أعتقد بأنني من أقرب أصدقاؤك يا .. يا ..إييزا ؟! .. لا والله يا أويس ولكنني سأشعر بالخجل إن طلبت منك ذلك .. وحانت لحظة الفراق القاسية .. سيسيليا تغرق في البكاء وكأننا في موسم البكاء والندم .. لماذا الجميع يبكون في هذا البلد ؟! .. سأتذكرك كثيراً أويس .. يا إلهي ..لماذا أنت بهذه الروعة التي آلمتني ؟.. آه ما أصعب الفراق وما أتعسه .
    نحتاج لفحص شامل للدم والأنسجة ولصورة مفصلية ب(الراديو آكتيفتي ) ..الطبيب الاختصاصي وهو يوجه حديثه نحو أنستاسيا بينما أنا راقد علي ظهري فوق أريكة الفحص أمامه وكانت قد اعترتني حمي شديدة وصداع نصفي وتعرق أفقدني كثيراً من السوائل مع شيء من التشنج وطلب مني أن أعوده بعد أسبوع لمعرفة النتيجة .. ولم أكد أغادر المشفي حتى أخذتني ( أنّا) بسيارتها إلي مطعم خلوي .. لماذا نتناول طعام الغداء في هذا المكان البعيد يا عزيزتي ..؟ هذا لأنني أعددت لك مفاجأة ما .. مفاجأة ؟! .. ما هي يا (أنّا) .. أرجوك قولي لي .. وكيف ستكون مفاجأة إذا ما أفصحت عنها .. لا تستعجل ستعرف بعد ساعة من الزمن .. دلفنا إلي داخل المطعم الفخم وكانت ثمةّ أريكة قد أعدت لشخصين تتوسطها باقة من الورد وبعض الشموع .. أخذ النادل معطفينا وأجلسنا بأدب جم .. وبعد دقائق ظهر شخص يحمل بيده آلة موسيقية أشبه بالكمنجة وبدأ العزف .. طعمنا وشربنا وفي خضم هذا الزخم الاحتفالي أخرجت (أنّا) علبة أنيقة وقالت لي بحزم وبصرامة .. أسمع يا أويس .. اسمعني جيداً .. أنا أخطبك زوجاً لي علي سنة الله ورسوله .. وتسطيع الرفض أو القبول .. علي سنة الله ورسوله ؟! .. وهل أنت مسلمة يا (أنّا) ..نعم والحمد لله ..بيد أني أخفي إسلامي عن الروس وكذلك انتمائي للشيشان .. وطني الأول .. أذهلتني المفاجأة وكادت أن تقضي عليّ لو لا تشبثي ب( حسبنا الله ونعم الوكيل ) .. هل تمنحينني بعض الوقت فأصلي وأستخير الله ؟! .. بالطبع تفضل .. هرعت نحو الحمام توضأت وصليت في ركن قصي من المطعم ركعتين وتلوت في سري دعاء الاستخارة وشريط من الذكريات ينداح أمامي .. صورة أمي وأبي وأهلي ورزان .. ياااه .. لكم تتوالي عليك المفاجآت يا أويس .. بالأمس القريب شهدت بمسجد موسكو الكبير إسلام ( نعوم ) من أجل شاهندة وسفرهما معاً إلي (مظفرأباد ) ليخطبها من والدها حسب شروطها وأن يتم الزواج وفق التراث الكشميري وقبل شهر سألت إزابيلا عن صورة الزفاف التي تزين مكتبتها فأخبرتك بأن الذي يظهر في الصورة هو زوجها الراحل ( سيزار ) .. ذلك الطالب الذي هرب معها بعد نهب الصرافة وقد تقدم في صفوف القوات المسلحة الثورية التي تقود المقاومة المسلحة في كولومبيا وبينما كان يعقد مؤتمراً صحفياً داخل الغابة بإحدى المناطق المحررة حدث انفجار قوي أودي بحياته وعدد من الصحفيين وتمكنت إحدى الفصائل من نقلها إلي كاراكاس ومنها إلي روسيا وسبق ذلك بالطبع تحويل جميع أرصدتها إلي هنا .. يا لهذا العالم الغريب .. عدت إلي أنستاسيا .. اسمعي يا ( أنّا ) .. أنا من أطلبك زوجة لي فهل تقبلين ..؟غادرت موقعها وعانقتني طويلاً وهي تبكي وتردد ( الحمد لله العظيم ..) .
    تقبلت إزابيلا النبأ بما يشبه الصدمة .. وظلت تردد .. هذا مستحيل .. هذا حرام .. هذا غير عادل .. قلت لها محاولاً مؤاساتها هذه الأشياء مقدرة سلفاً والزواج مثل حادث المرور لا تعلم متي وكيف يقع ومن سيكون الطرف الثاني في الحادث والأفضل لنا يا إييزا أن نظل أصدقاء .. ألسنا أصدقاء يا إزابيلا ..؟ نعم .. نعم .. ولكنني أحبك ولم أكن بحاجة لأقولها لك صراحة .. أنا أحبك يا أويس .. يا إلهي ساعدني يا إلهي ساعدني .. لن أخذلك يا إييزا .. لن أخذلك وسأبقي ما حييت صديقاً مخلصاً لك وللعمة خواليتا وللصغيرة سيسيليا .. أعدك بذلك والآن هيا كفي عن هذا المزاج الغاضب .. تعلمين شيئاً يا إييزا .. لقد اكتشفت اليوم كم أنت جميلة حين تغضبين .. أرجوك امنحيني مزيداً من التململ والغضب .. كف عن هذا الهراء يا يا أويس .. لقد بعتني وخنتني وفضلت أنستاسيا عليّ .. هذه القروية الروسية الساذجة أخذتك مني وأنا بحاجة لك أكثر منها .. علي الأقل لديها أسرتها والجامعة والحزب .. أما أنا ..ماذا تبقي لي ؟ .. ماذا ؟ مات زوجي وانقطعت صلتي بوالدي ووطني .. كنت أعول عليك كثيراً وكنت واثقة بأننا سنتزوج .. لا تبكي يا إييزا ..فأنا هنا بجنبك وسأظل .. والآن هيا ابتسمي .. هيا .. هكذا أجمل .. أتمني لك السعادة معها ومن كل قلبي .. وآمل أن تقدر كم هي محظوظة حين حصلت علي جوهرة نادرة المثال اسمها أويس .. والآن أريد شيئاً من عصير التوت ..عصير التوت ؟! .. قالت في ارتباك .. لقد نفدت الكمية التي معي .. لا تشربه يا أويس .. أرجوك لا تشربه مرة أخري ولا تسألني لماذا وقبل أن أغادر دست في يدي علبة أنيقة وهي تهمس في وجهي هذه هديتي لأنستاسيا .. أهدته لي والدتي عندما نجحت في الدخول للجامعة وأنا بدوري أهديه لعروستك .. فتحت العلبة لأجد عقداً من الماس الحقيقي .. ( واو !!!) .. هذا عقد من الجواهر الحقيقية حبيبي .. من أين حصلت عليه ولماذا .. لا بد أنه غال جداً أويس . .( أناّ ) وهي تقلب العقد بين يديها .. هذا العقد هدية زفافك من إزابيلا .. عبس وجهها لبعض الوقت وأعادته لي بشيء من الغضب .. أرجوك خذيه .. لا تحرجيني مع إزابيلا .. لأجلك فقط سآخذه .. وكان واضحاً أنها مفتونة به .. وضعته حول عنقها الأنيق فبدا أكثر جمالاً وإشراقاً .. من المؤكد أنه يساوي ملايين الروبلات .

  40.  
  41. #46
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة السابعة عشرة
    ومضت الأيام سراعاً ونحن نركض هنا وهناك لتجهيز لوازم العرس .. نريده زفافاً متواضعاً وفي نطاق أسرتي وبعض أصدقاؤك لا أكثر ..المهم أننا سنتزوج .. وذات صباح شديد البرودة تغطيه الثلوج الكثيفة .. جلست بغرفتي وأنا أرتجف من البرد أقلب في يدي مسدس أنجلينا الذي سحبته منها خوفاً من أن تؤذي نفسها به .. سمعت طرقاً شديداً بالباب .. افتح يا أويس .. أفتح بسرعة فالبرد قارص في الخارج .. بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم .. لكأنه صوت شرودر .. لقد مات وشبع موتاً .. شرودر ؟!!! .. شعرت بدوار خفيف وأن رجلاي لا تقدران علي حملي وتهاويت نحو أقرب مقعد .. أويس ما بك ؟! ما بك يا رجل ؟! .. ألم تمت يا شرودر ضمن من ماتوا في مقديشو ؟ أم أنك شبح عاد من وراء برزخ بعيد ؟! .. مقديشو .. لعلك تقصد عملية ( بادرماينهوف ) بطائرة اللوفتهانزا .. تلك قصة طويلة يا أويس وأنا متعب جداً .. لقد حالت الشرطة الكينية دون صعودي للطائرة في اللحظات الأخيرة .. سأخبرك فيما بعد .. سأخبرك .. كيف حال أنجلينا ؟ .. لم أرها قبل مدة وكانت علي وشك الانتحار بسببك .. إنها تحبك بقوة يا شرودر ويتحتم عليك عدم التفريط بها من أجل قضاياكم الواهية .. قضايانا واهية يا أويس ؟! .. بالله عليك كف عن إزعاجي بنظرياتك يا شرودر . .ماذا تعرفون عن الظلم الاجتماعي وكل احتياجاتكم متوفرة بالأسواق وحكومتكم تمنح رواتب شهرية حتى للعاطلين عن العمل .. ماذا تعرفون عن المعاناة وعن التفاوت الطبقي وأنتم تتمتعون بجميع الخدمات في بلدكم الماء والخضرة والعلاج والتعليم وحرية السفر لأي مكان والبنوك التي ما فتئت تقرض حتى غير الراغبين في الإقراض .. قروض لشراء شقق وقروض لشراء سيارة وإجازات في سواحل البحر البيض وجزر كناريا .. وتلفزة ودور سينما وانتخابات حرة ونزيهة .. في وقت نشقي فيه لمجرد الحصول علي لقمة العيش وفرصة للعمل وربما للهجرة .. كرة قدم متطورة وملابس زاهية الألوان وأجسام قوية وأناقة لا تصدق .. وبرغم كل هذا الثراء تأتي ياشرودر لتغيّر المجتمع بالقوة ..امنحونا عشر ما بأيديكم ونرضي بديكتاتور إلي الأبد .. هل انتهيت من دفاعك عن الرأسمالية يا أويس ؟! .. حسناً يؤسفني أن أقول لك بأنك إنسان بلا أفق ولا هوية وكل همك الكل والشرب كبقية الحيوانات .. طابت ليلتك .. أحلاماً سعيدة ومرحباً بك من جديدٍ في دنيا الأحياء يا شرودر.
    راجعت الطبيب في الموعد الذي حدده لي ووجدت أمامه حزمة من الصور والتقارير المخبرية وقال لي أن ثمة تأثير مباشر علي الأعصاب جراء تناولك قدراً أكبر من اللازم من الكحول أو الحبوب المهدئة وربما نوع غير ضار من المخدرات .. هل تدخن الحشيش ؟ .. لا .. لا طبعاً .. أعوذ بالله .. حشيش ؟! .. تربيتي ومعتقداتي الدينية لا تسمحان لي بمثل هذا الانحراف .. لا باس إذن خذ هذه الروشتة وستجد بعض الأدوية التي ستساعدك كثيراً ولكن المهم أن تتذكر أي نوع من المشروبات أو الكحول يصيبك بالخدر .. عصير التوت الكولومبي .. إنه هو ولا ريب ..لا .. لا ..لن يكون في بال إزابيلا إدخالي إلي تلك الدائرة الجهنمية .. دائرة الإدمان علي المخدرات .
    لا وقت لدينا يا أنجي .. ستذهبين معي الآن إلي غرفتي فثمة مفاجأة سارة بانتظارك .. أرجو أن تعفيني من زيارة النزل مرة أخري .. بت لا أطيقه منذ وفاة شرودر .. بل ستذهبين ولا داعي للتسليم بان شرودر قد مات .. هل رأيت جثمانه بنفسك ..؟ لا ولكن .. هنالك بصيص أمل ولو ضئيلاً باحتمال وجود شرودر عالي قيد الحياة .. قلت لها مقاطعاً .. وقريباً من باب الغرفة حاولت أن أقلل من حجم المفاجأة عليها .. كم تعطينني من المال إذا كان الشخص الذي بانتظارك في الداخل هو شرودر ؟ .. أعطيك كل ما أملك .. أعطيك نفسي لأصبح جارية لك ولأنستاسيا ..أعطيك .. كفي .. كفي والآن تفضلي بالدخول .. شرودااااار .. ومن ثمّ تهاوت نحو أرضية الغرفة .. بذلنا جهوداً مضنية لتستعيد وعيها .. جربنا الماء البارد والعطر .. وشيئاً فشيئاً بدأت تستعيد وعيها ..تساءلت في البداية بصوت واهن .. أين أنا ؟ ومن يكون هذا الشخص ؟!! ..إنه شديد الشبه بشرودر .. بل إنه شرودر .. حبيبي ..أخي .. لقد نجوت .. لقد نجوت .. وذاب كلاهما في أحضان الآخر .. أغلقت الباب خلفي فقد كان الموقف فوق طاقة احتمالي وحين عدت لهما وجدته ممسكاً بيدها وقد أراحت رأسها فوق كتفه وهي تردد كنت دائماً شديدة التشبث بفكرة وجودك علي قيد الحياة ولكنني أفقد الأمل في بعض الحيان فيجُن جنوني .

  42.  
  43. #47
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    مبروك يا عريس
    حلقة مليئة بالمفاجأت
    زواج وادمان وعودة الى الحياة
    وتقلبات فى بحور الحب والعشق
    من زهرة الى وردة

  44.  
  45. #48
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    وعقبال الشباب يا ريس ..مع كل الود ..لكن زولك المسجون داك وأعني ( حربي ) نطلعو من السجن ؟

  46.  
  47. #49
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثامنة عشرة
    عادت شاهندة ونعوم بعد إنهاء مراسم الزواج ب( مظفر أباد )وفق العادات والتقاليد الكشميرية .. إنها جنة الله في الأرض يا أويس .. لم أكن أتصور أن كشمير بهذا الثراء في كل شيء .. الآن عرفت لماذا تخشي الهند وباكستان توحد شطري كشمير .. لأن أي قدر من الاستقرار السياسي أو الوحدة سيطيح بكل آمال وخطط الهند وباكستان في السياحة .. فاغتنمت فرصة وجودهما معاً فدعوتهما لحضور الحفل الصغير الذي سنقيمه بفندق ( أنتشو ) بموسكو .. ستكونين وزيرة العروس يا شاهندة وستكون أنت يا نعوم وزير العريس .. هل لديكم مثل هذا التقليد في بلدكم يا أويس ؟.. شاهندة تتساءل في دهشة واستغراب .. من كانت وزيرتك يا شاهندة ؟ .. إنها صديقتي ( ماليكا ) .. وأنت يا يا نعوم .. كنت رئيساً بلا وزراء .. هكذا أحسن .. قلت له .. تنهي وتأمر كما تشاء .. وها أنت تحصل علي حقيبة في حفل عرسي .. أفعل بفخر واعتزاز .. وأنا كذلك سألتقي ( أنستاسيا ) في أقرب فرصة لأخبرها بما يتحتم عليها عمله .. هي مؤامرة إذن .. إن كيدكن عظيم ..من يتآمر علي من ؟ .. الرجال أس التآمر في هذا العالم وبفضلكم تجد الأرض كل ما تحتاجه من دماء وأشلاء .. والمحرّ ض من خلف الكواليس هو في الغالب امرأة ..أليس كذلك يا نعوم ؟ .. ها ..ما رأيك ؟ ..نظر نحوها فأومات له بالرفض .. لا يا أويس أنت تبالغ ولا ريب .. هل بدأنا الاستسلام منذ الآن .. و(ضحكنا ضحك طفلين معاً ) وافترقنا علي أمل اللقاء .
    هل صحيح يا أويس ما سمعته ؟ .. روزماري تستوقفني بقامتها الفارعة وتفاصيلها المموسقة وكانت تضع فوق عينيها الساحرتين نظارة سوداء .. أنيقة ومترفة ورائعه .. أستأذنكم لبعض الوقت وسأعود إليك لاحقاً .. نعوم وهو يهم بالمغادرة .. بل ابق معنا .. وماذا سمعت يا روز ؟ .. لقد قيل لي بأنك ستتزوج من تلك الروسية الشقراء التي أجرت معنا ( الإنترفيو ) لدي وصولنا إلي هنا الصيف الماضي .. نعم يا روز ماري سأتزوجها وهذه فرصة أدعوك وصديقك لحضور حفل العرس بفندق ( أنتشو) .. صديقي ؟ من هو صديقي ؟ .. ذلك الإيرلندي الذي كان بصحبتك .. ليس صديقي إنما هو مواطن إيرلندي لا أكثر .. كان لي مشروع صديق من إفريقيا اسمه ( أويس ) ولكن يا خساره .. سرقته مني شقراء من هذا البلد .. أنا مشروع صديق لك يا روزماري ؟ .. انزعي هذه النظارة من عينيك لأقرأ مثل هذا الكلام في لألاء عينيك يا روز .. هل تتغزل في عيوني أم ماذا .. أرجوك ضعيها جانباً فأنا أحب التحليق في سماوات عينيك .. لن أنزعها .. إداً سأنزعها أنا .. وبدأ وكأننا نتعارك .. التحمنا في حميمية هائلة وبذل كلانا مجهوداً كبيراً وفي النهاية ظفرت أنا بالنظارة .. كانت منفعلة وأنفاسها تكاد تتقطع وصدرها يعلو ويهبط .. لقد سامحتك هذه المرة يا أويس .. لقد أوصلتني إلي مرحلة من الهياج جد غريبة وفكرت في لحظة ما أن استخدام مهاراتي التي تعلمتها مع ( الآي .آر .أ .) .. من تاكندو وأساليب الدفاع عن النفس .. ولو فعلت لكنت الآن في غرفة الإنعاش .. (الاي .آر . أ ) ..؟!! .. لقد قالتها دون أن تقصد وتظاهرت بأنني لم أسمعها جيداً .. هل هو معهد رياضي ؟! .. من ؟ .. هذا الذي نطقته قبل قليل .. نعم .. نعم .. إنه معهد معروف في بلفاست .. دعوتها علي كوب من الكولا فقبلت .. ( جلست أمامي كحمامة بيضاء) .. وجهت سؤالي مباشرة نحو عينيها .. لماذا تودون الانفصال عن المملكة المتحدة .. عن انجلترا بكل ما لديها من ثقل اقتصادي وسياسي ؟! .. ماذا أقول لك يا أويس .. إحساس المرء بأن حملاً ثقيلاً يجسم فوق صدرك إحساس بغيض .. لقد كانت إيرلندا وما زالت وطن المجد والشعر والفنون .. تذخر بطاقات اقتصادية هائلة وقد حباها الله بخيرات وفيرة .. فما حاجتنا للإنجليز ؟ .. ولكن بلدكم منقسمة علي نفسها وأنتم لا تعانون مثل الأكراد المتوزعين علي عدد من الدول ولا كالفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال .. ولا حتى كالكشميريين الذين يتوقون للتوحد تحت مظلة واحدة .. فماذا ينقصكم يا روزماري .. ماذا ينقصكم ؟ .. بإمكانك التلويح بجواز سفرك البريطاني هذا فتفتح لك كل المطارات أبوابها وترحب بك .. هذا ليس مبرراً كافياً لأفقد هويتي الوطنية وأذوب في كيان الآخر .. إذن جربوا النضال عبر الوسائل السلمية بدلاً من تفجير القنابل في غرف استقبال الفنادق والقطارات فيسقط الأبرياء .. هذا ما فكرنا به بالضبط وقد أنشأنا حزباً سياسياً وليداً يحمل اسم ( الشين فين ) وإذا لم ننل استحقاقنا في حق تقرير المصير سنعود مرة أخري للكفاح المسلح وليكن ما يكن .. قلت ل(نعوم ) وكان صامتاً طوال الوقت .. وأنت يا نعوم .. كيف تقرأ الموضوع .. أنا .. أقرأ ماذا ..؟ وفهمت منه أنه لا يود التحدث أمام روزماري .. إلي اللقاء أويس .. إلي اللقاء مستر نعوم .. روز ماري وهي تتراجع خطوتين للوراء وتزيح خصلاتها عن عينيها وتحرك شعرها يمنةً ويسرةً وهي تغادر وقد منحتنا التفاتة رهيبة أفقدتني صوابي .. هل تعجبك هذه الأيرلندية المأفونة يا أويس ؟ . .نعوم وقد تصفح تعابير وجهي وهي تودعنا وتنصرف .. يمكنك أن تقول بأنني متيم بها .. ويمكنك أن تقول بأني إنسان ضيع بوصلة مشاعره في هذا البلد العجيب .. ومع وجود أنستاسيا بكل ألقها وروعتها وأحلامنا الخضراء في عشٍ هادئٍ يجمعنا معاً إلا أنني لا أملك القدرة الكافية للصمود في وجه الجميلات بجامعة الصداقة .. ولكن قل لي بربك يا نعوم هل أنت مع رأيها في أسلوب إدارة النضال في إيرلندا الشمالية .. بالطبع أنا معها وإلا كيف سنحرر نحن إقليم (الباسك) .. ؟ .. تحررونه بقتل وجرح المئات من الجنود والأطباء والمعلمين ورجال الإعلام ..؟ .. ليس أمامنا من خيار آخر .. هؤلاء القوميون المتعصبون في اسبانيا لن يدعوننا وشأننا ولا يجدي معهم الحوار ..هل سبق لك يا نعوم أن قتلت اسبانياً ولو عن طريق الخطأ ؟ .. أنا ؟ أقتل ؟ قال ذلك باضطراب واضح .. فلماذا ذهبت إلي جنوب لبنان إذن ؟ هل ذهبت إلي هنالك من أجل السياحة والتمتع بمناظر الطبيعة الخلابة ؟ .. لا .. لا ..الأمر ليس بهذه البساطة .. لقد ذهبت للتدرب علي استعمال السلاح وصنع المتفجرات .. ويجب أن أعترف لك يا أيها الصديق العزيز أويس .. بأنني قتلت جندياً اسبانياً واحداً فقط طوال انخراطي بمنظمة ( إيتا ) .. وكيف كان شعورك وأنت تقتل شخصاً لا تعرفه وليس بينكما خصومة شخصية ؟ .. إيييه يا أويس لماذا تضعني علي كرسي الاعتراف وكأنك قاض ..؟ لا بل كصديق .. قل ولا تخف من شيء .. كان ذلك في وقت عصيب مرت به ( إيتا ) كنا بحاجة إلي المال والسلاح وإلي إحداث فرقعة إعلامية تلفت الانتباه إلي قضيتنا العادلة .. قمنا في فجر ذاك اليوم بالهجوم علي نقطة تفتيش للجيش في مشارف ( سرقسطة ) .. كان عددهم حوالي العشرة وكنا نحن حوالي الثلاثين مقاتلاً مزودين بالبنادق الأوتوماتيكية والقنابل اليدوية .. اذكر أنني أصبت أحدهم إصابة مباشرة في القلب .. كان شاباً نحيلاً في مقتبل العمر .. تهاوي نحو الأرض علي وجهه .. انسحبت المجموعة بعد أن تكبدت ستة قتلي وفقدنا نحن اثنين من رفاقنا .. توجهت نحوه وهو يسبح في بركة من الدماء أخذت سلاحه ومحفظته وانسحبنا عائدين لمعسكرنا بعد أن تركنا خلفنا بياناً بتحمل المسئولية عن العملية .. وهنالك نقبت في محفظته وقد احتوت علي مبلغ ضئيل من المال وصورة فوتوغرافية له مع أسرته .. والده ووالدته وحفنة من الأطفال وهو يتوسطهم بزيه العسكري ولكن ما آلمني أكثر عثوري علي صورة أخري بحجم (البوستال) لفتاة رائعة الجمال وقد كتبت خلفها عبارة ( إلي سابا .. مع كل الحب .. عد لي سالماً كما وعدتني ) والتوقيع ..حبيبتك إلي الأبد ( كلارا ).

  48.  
  49. #50
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    الحروب دمار
    للمنتصر والمهزوم
    وسلب لمكتسبات الشعوب
    وخراب لميزانيتها

    لكن ما قلب صاحبك لكوندا

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid