بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة فى قاع المدينة ..رواية
عبدالغني خلف الله
الحلقة الأولي
أحياناً تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحياناً تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد ..تتقاذفك الأنواء وتبحر بك إلي المجهول .
ولو أن الأمور تسير علي وتيرة واحدة لأمكن التعامل معها بنمط سلوكي ثابت لكنها تتقلب مثل طقس هذا البلد .. وهأنا بعد كل هذه السنين الطويلة التي شكلت حياتي بكل تقلباتها الموجعة والمفرحة أحاول أن أفهم نفسي ولماذا كان عليها أن تمضي بهذا الطريق دون غيره .. وهل كان من الممكن تفادي ما حدث هنا أو هناك أم أنها سخرية الأقدار طوفت بي من هذه الناحية إلي تلك وما بينهما أكثر من صدفة خرجت من جنون الوقت لتضحكني أو لتبكيني ..ولماذا كل هذا اللف والدوران يا هذا ؟.. إسمي حربي ..صالح عويضه عبد النور الملقب ب(حربي ) .. لماذا لا تدخل مباشرة إلي صلب الموضوع يا حربي فتريحنا وتريح نفسك .. حسناً .. سأفعل .. فقط دعني أعود بذاكرتي إلي الوراء ..لا ليس قليلاً ..بل كثيراً .. فالمسألة أكبر من مجرد حكاية نلهو بها قليلآ ثم ينتهي الموضوع ..أريد أن أحاكم كل الذين زوروا ظلماً وعدواناً تاريخي ..غيروا من طبيعتي .. ذبحوا في دواخلي البراءة .. وأصبغوا علي الألقاب والصفات ..فأنا تارة البطل والمنقذ وتارة الخائن وربما المحتال والمنافق .. لم أكن بحاجة إلي كل هذه التعقيدات .. فقد كنت أعيش حياتي البسيطة بمنزلنا الكائن بالحي الجنوبي من المدينة في قلب الأحياء العشوائية .. منزل بسيط من (الجالوص) وشيء من الكرتون والمواد المحلية .. ومعي والدتي الحاجه (حوه ) .. ولم يكن لي أخ بل مجموعة من البنات ..وأنا كبير العائلة كما يقولون .. (ناديه) وتعمل ممرضة بالمستشفي العمومي .. و(سلمي ) وتساعد أمي في إعداد ( الكسره وأحيانآ تصنع (الطعمية وتسلق البيض) وتبيعهما في المساء أمام دكان الحاج رضوان ..وكان في وجودها بهذه الزاوية السبب في دخولي حراسة الشرطة أكثر من مرة بدعوي الإزعاج العام وتسبيب الأذي البسيط ..وكانت الأمور تنتهي بجلدنا عشرين جلده أمام محكمة (العمد ) .. فقد لاحظ غيري ولاحظت أنا أيضآ أن (سلمي )هي الأكثر جمالاً في الحي والأحياء المجاورة حتي جبل الأولياء .. كانت تُعني بمظهرها رغم فقرنا.. ترتدي أحسن الثياب المعروضة بسوق ( الحرامية ) كل جمعة .. وكان أكثر من صعلوك يستفزّها ويتحرش بها فتقتحم علينا البيت وهي تبكي ..(مالك يا بت ؟ ) ..فلان قرصني وفلان قال لي كلام ( قلة الأدب ) .. فتثور الدماء في عروقي فأذهب وأبطش بهم ..فقد كنت كأي صبي ميكانيكي مفتول العضلات حتي وأنا في تلك السن المبكرة من عمري .. لذلك لقبوني ب ( حربي ) .. أما شقيقتي الثالثة نسمه .. فهي (تعبانه ..هلكانه ) .. عنوان لجميع أمراض المناطق الحارة وربما المستعصيه .. لا تكاد تتعافي من مرضها حتي تقع مجدداً .. مصيبة عانيت منها وعانت منها نادية أكثر فأكثر ..تأخذها معها للمستشفي حيث تعمل وتحضر لها أطناناً من الأدويه .. والنتيجة .. لا شيء .
لكن الحياة تمضي بدون مشاكل ولا تخلو من المسرات ..فقد كان الجيران منفتحين علي الحياة بصورة غريبة يعبون منها عباً وكأنهم سيموتون غداً .. يعيشون ليومهم و( بكره ) في علم الغيب .. فلن تكون الحال بأسوأ مما تركوها خلفهم في تلك البلاد البعيدة والتي هجروها بسبب الحروب والجفاف وتلك قصة أخري .. حياة تبحث عن الفرح .. تقتنصه كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. مثل ماذا يا حربي ..؟ كنا نخرج كل عطله في رحلة إلي الحدائق العامة .. نجهز ما تيسر من الطعام ونستأجر ( دفار ) عبدو الفولاني .. وعبدو هذا بدأ بعربة كارو تلتها أخري وثالثة حتي وصل إلي ما وصل إليه .. عربة نصف عمر كثيرة الأعطال وكانت حين تتعطل ينادي عليّ من فوق السور فألبي طلبه بسرعة البرق ..تعلمون لماذا ؟ ..لأن بالداخل صغري بناته أميره .. تحلف عندما تراها بأنها القمر ليلة إكتماله .. (شنكل) القادم الجديد للحي والذي اختارني من دون الصبية لأكون رفيقه وكاتم اسراره ..همس في أذني ذات يوم وقال لي ( الشافعه دي يا حربي خطيره ..والله المنقه ذاتو ) وأضاف في غيرة واضحة (ظاهر عليها الجو بتاعك ..) أجبته وأنا محرج ..أبداً والله دي بت الجيران يا (شنكل )..بت طيبه ومؤدبه .. كانت تحضر لي (الشربات) وأنا أعمل بهمة ونشاط مستخدمآ كل مهاراتي الميكانيكية لصيانة عربتهم .. وهي تخصني بنظرات يلفها الخفر والحياء .. وإذ ما أحاول أن أقول لها شيئاً أتذكر كم هو شاسع البون بيننا .. فهي طالبة وأنا صبي ميكانيكي .. ولكننا حين نصل إلي الحدائق تسمعني كلامآ يسري كالكهرباء في عروقي وتشتري لي ( آيس كريم ) ..مثل ماذا يا حربي .. ؟ أشياء لا أفهمها .. تقول ليك .. تقول ليك كلام ( الغُنا ) وكنت اعتذر عن الإنضمام لكل رحلة لا تضم أميرة ..وفي مرحلة من المراحل صرت أنتظر لحظة خروجها من منزلهم لتركب في الحافله لأقول لها صباح الخير.. شنكل قال لي تشجع وقل لها ما يجول في ضميرك ولا تخش الرفض .. ( صنف البنات المتعلمات ديل ما زي الحبوبات .. بدورن الكلام النضيف ) .. وهي فيما يبدو مقتنعة بي وإلا لماذا تسمعني في كل مناسبة ذلك الكلام اللذيذ .. الحاج رضوان ( سيد الدكان ) .. قال في وجود أمي الحاجه ( حوه ) .. هذا الولد ممتاز وينتظره مستقبل باهر ..وأخذت كلامه علي أنه مجرد مجاملة لأمي التي تحرص كل الحرص علي تسديد ديونها في أول كل شهر .. وهذا بالطبع ما يسعد عمنا رضوان..
المفضلات