الكلمة أمانة!!
ونحن نتكبد عناء الكتابةهنا ، على يقين بأن الكلام بمجرد إطلاقه على عواهنه هكذا ، يصبح من الصعب ، إن لم يكن مستحيلاً استرجاعه إلى حلوقنا؛ تماماً كما يستحيل اللحاق بفقاقيع رغوة الصابون حينما تنطلق في الهواء الطلق. فنعم ، هي أمانة أولاً على ذمة راويها حين يلقيها .. ثم إنها أمانة من بعد ذلك في عنق من يسمعها بأذنيه وتجول في روعه فتصبح عبئاً ثقيلاً على عاتقه إما يبلعها و يسكت ، أو يعمل بمقتضياتها أو لا يفعل، أو يبلغها و يمضي ليكسب ثواباً ..
و قال حكيم: كم من كلمة كتمتها فملكتها حتى إذا نطقت بها ملكتني..لايفوتنا قبل كل ذلك أن القرآن هو كلام الله, أنزله على قلب نبيه الكريم ليعرفنابذاته العلية..
فقهاء علم اللغات يرون أن الكلام كائن اجتماعي يحمل ذات الصفات لبني البشر كافةً، فهو يحيا ويسقم ويموت. تماماً مثلمما يفعلون.إلخ. وقد يصيب لغة القوم ما يصيب المجتمعات والحضارات الإنسانية من ازردهار واضمحلال أو اندثار وهكذا.
فالكلمة تجدها مثلاً تتهلل و تطير أذناها طرباً حين تفلح في أخذ قارئها إلى معان مخبوءة وراء السطور, تماماً كحال الكاتب حينما يتمخض مخاضاً عسيراً فيلد عبارة جذلة تسوق معانيه إلى المتلقي سوقاً, ذلك المسكين الذي لا تقل محنته جراء صعوبة الاستنباط والفهم, إذ ليس الكل عباقرة. فقد تكون المعاني أحياناً مصبوبة كجلاميد صخر, تستعصي على التعاطي؛ أو يكون المغزى ضرباً من المطلق الفضفاض الذي يرهق العقل كالحق والسعادة والأفق والعدم. لكن كل ذاك يهون أمام سحرالعبارة النافذة التي تأخذ بشغاف القلوب وتشع بنورها في خلجات الأنفس وتسبر سبراً في مغاصات المقاصد البعيدة.
الكلمة تملك ايضاً حيلاً أخرى كثيرة لتسعفها حينما يتعذرالتعبير كفاحاً.. فتلجأ مثلاً إلى التخفي وراء أستار الرمزية أوالإيماء. و لكن لا بد من ساعة احتفاء نادرة تعيشها المفردات مع مؤلفها لحظة التلذذ بحلاوة اللقاء و ولادة نص بكر.فالكلمات والنصوص لها أيضاً روابط اجتماعية ووشائج قربى, تماماً كما النفوس.. فما اجتمع منها يأتلف وما تنافر يختلف..غير أنك كثيراً ماتجدنا نضيق ربما ذرعاً من تلك العلاقات النمطية المعتادة الناشئة بين عبارات يجمعها المؤلف كخردة حدادة فيدقها دقاً كالبراغي والأسافين في نعش نص تعيس فتخنق المضامين والمداليل خنقاً ، وتفسد كل شيئ وربما أورثت مللاً ورتابة.
المتنبي ذاك الشاعرالمغتر بذاته حتى النخاع والباحث لها عن إمارة متوهمة لا وجود لها سوى في خياله الخصب..عرف بإيغاله الشديد في أسلوبين لا ثالث لهما فإما المدح والثناء الجميل إذا رغب و إما القدح و الهجاء المرير إذا غضب..غير أنه ذو عبقرية في تصيد رصين المفردات وسكبها في قوالب استثنائية و غيراعتيادية ، بحيث لا يسهل على سواه اتقانها.هذا ليس غريباً علىى عبقري في مقام أبي الطيب . و لكن العجيب أن نتخيله عاشقاً بحيث يجعل المرأة أحياناً غرضاً من أغراض شعره..أو يتخذ النسيب أداة وسهماً من سهام عشقه.. يختلسه لماماً ليدخله في نسيج بعض قصائده النادرة المتجردة التي ربما لا تمت بعلاقة للغزل أصلاً ..وكأني به كان محباً عفيفاً.. بل كانت تأخذه العفة بالعند والأثم . فالمتنبي كان بلا غرو، فحلاً متربعاً على عرش يوتوبيا إمارته الغائبة والحاضرة في مخيلته فقط .. لم لا وهو ممن يحسنون صنع الشيئ إذا أرادوه وما من حقل يلجه إلا أجاد وأبدع وأدهش وبز وأرهق كل من يجاري عبثاً مهره الجموح التي لا يشق لها غبار في مضاميرها أبداً , كان ذلك شأن كل من حسدوه وكادوا له كيداً ، ولعلهم معذورون في ذلك.
المفضلات