ترجمات رعناء
نحن هنا لا نشق غباراً لشاعر فحل أو ناثر فذ ، فهو حر فيما يكتب و يهرطق. بل نتساءل عن حال السامع أو القارئ الذي يتلقى الكلام كما الخردة من الأسافين والبراغي ، وهي تدق في نعشه قبل أن يتفاعل معهاتحت حالة من الخدر الدماغي ، دون أن يسأل نفسه لماذا؟ وهنا العيب الأكبر. فلطالما سمعنافي مجالات كثيرة تعابير تفتقر إلى المنطق يرددها المرددون بل يتنطعون ويتعنتون في استعمالها حمقاً وجهلاً وصلفاً وكبرياء، فيتلقفها الجاهل وكأن الدر يخرج من أحشائهم. ومنها ردود الأفعال التي تخالف قوانينالطبيعة ومنطق اللغة. إذ أن لكل فعل رد فعل أو ردود فعل متباينة. فإن أطلقنا هذا القانونعلى أمور أخرى شتى من الحياة لوجدنا أن هناك رد فعل وردود فعل، نحو قولهم: كان للعربردودُ فعلٍ مختلفةٌ تجاه إعدام الرئيسِ العراقي السابقِ صدام حسين. فالإعدام فعل واحدومواقفُ الناس منه المتعددةُ هي ردود عليه. وقد يختلط الأمر على معظمهم ظناً منهم أنرد الفعل هو فعل الرد( أي تكرار لفعل عين الفعلِ ) وهذا بالطبع خلط غير مقصود وخطأ شائع.بل هو كما عرضنا في موضع آخر ، ترجمة سيئة مغلوطة للفظ الإنجليزي(reactions) لعدم درايةالمترجم بشروط الاشتقاق في لغة أجنبية وما يقابلها من شروط في لغتنا الأم.
كذلك، شاع مؤخرأ|استعمال التعبير (عدد الضحايا مرشح للارتفاع). و يتكرر على ألسن المراسلين والمذيعينوالصحفيين وغيرهم من إعلاميين وسياسيين. و لو نظرنا إلى معنى (رَشَّح) لوجدنا الآتي:
رَشَّحَ يُرَشِّحُ تَرْشِيحاًفلاناً : رَبَّاه ونَمَّاه؛ نحو رَشَّح الوالدُ وَلَده، يفيد الخير. ورشَحَّهٌ للشيْءِ:أَهَّلَه له وأعدَّه؛ ورشَّح فلاناً لوظيفةٍ ما: زكَّاه لها بمعني؛ ورشّحت الأمُ ولدَها: عوَّدته المشيَ ؛ ورشّحَ السَّائلَ: فَصلَ الأجسامَ العالقةَ فيه باستخدام مادة مسامِّيةتسمح للسائل بالنفاذ خلالها محتجزة الأجسام الصلبة.
فكيف يمكن للعدد الضحايا أن يكونمُرَشَّحاً للارتفاع؟ فكأن ذاك المراسل اختطف معنى "انتخب" بمعنى((short-listing))،دون أن ينظر في مضامينه الإيجابية. و لعل الأمر اختلط على أول من استعمله بين"مرجح" و"مرشح" في حالة تعرف في الإنجليزية بـ(malapropism). فذهب مثلاً يحتذى به. أو لعلها مجرد فزلقة منخاحبها.
كما يشيع في العربية المعاصرةكذلك مصطلح (اللغة الكونية)، وهو ترجمـة عوراء للمصطلح الإنجليـزي(universal language)، بدلاً من اللغة العالمية مثلاً، نحو: الإسبرانتو لغة كونية. ولم يسألناقل المصطلح إلى العربية فيما إذا كانت هذه اللغة الكونية ستستعمل لمخاطبة أهل المريخ أو كوكب آخر في مجرّة أخرى. بل راح يردده بكل فخر وثقة واعتزاز و حماقة، ودون رقيب ذاتيأ و خارجي في مؤسسات ومنظمات على قدر من الإدعاء برفعة المستويات ورقيها، وفي وسائل إعلام أخذت على عاتقها مسؤولية تثقيف الناس وتسييسهم و قولبة أدمغتهم، فأصابها العنت والصلف والغرور، فراح بعضهم يتمرد على المشاهدين وي ستهزئ بهم و يتمادى في طغيانه وفرض منهجه و نظرته عليهم. وهذا من أدبيات الذين ينادون بالتخلص من العَسْف والظلم والاستبداد.فهل يعقل أن تكون هناك لغة كونية؟ فالإسبرانتو أو(lingua-franca) لغة أممية غايتها توحيد وسيلة التواصل بين مجاميع بشرية في الأرض وليس مع معشر الجن أو العفاريت في ناموس الكون بأسره. ولطالما كان شعار ومشروع المروجين لتلك اللغة الموضوعة المصطنعة هو (عولمة الأنجلوأمركانية) فتـتأتى للقارئ الدلالة بأن القصد ليس الكون بل العالم. ومن هذا القبيل القرية الكونية نقلاً مغلوطاً للتعبير الإنجليزي(global village). وينسحب على هذه العبارة الكلام السابق نفسه، فاللفظ (global) مشتق من(globe) و هو الكرة الأرضية، لا الكونية. و سواء أكان القصد من كونية هو ما ينسب إلى الكون، وبخاصّة مايتصل بتركيبه الفلكي ، والناموس الكَوْني هو الكَوْنُ، أم كانت النية هي ما ينسب إلى الكينونة ، فإن مصطلح القرية الكونية وكذا اللغة الكونية عيب منطقي و تشوه خلقي عجيب.
و من الجديد في الأمثلة على المنطق الأعوج عند العرب المصطلح الجديد "عقيدة بلير للمجتمع الدولي ترجمة لـ(Blair's 'international community' doctrine). فصاحبنا لم يميز بين المفردات التي سردها له (عم غوغل) أو منير البعلبكي على أحسن الفروض، فاختار (عقيدة) بدلاً لـ (مبدأ)، فالعقيدة هي ما يُستوثق به من حكم ثابت و دائم لا يَقبل المعتقِدُ الشكَّ فيه ولا يحيد عنه ،لدرجة أن يقر في القلب و تخضع له الجوارح و؛ فيما المبدأ هو القاعدة ، وهي الأصلُ و القانونُ و الضابط ، و هو أمر قابل للتغيير و الجرح والتعديل والحذف و الإبدال والإهمال و الإسقاط إلى ما هنالك حسب المقتضيات والمتغيرات. وكأنما الوحي قد هبط على طوني بلير كما نزل على غيره من قبله فأوحى إليه أن يفرض علينا اعتناق ما اعتقد.
و منه كذلك التعبير الذي يترددا ليوم كثيراً لدى رجالات الإعلام والترجمة، وهو "التقدم إلى الأمام"، ترجمة ركيكة لـ move forward. ويكمن الخلل المنطقي في هذه الترجمة العوراء في ضعفها و إطنابها اللفظي القبيح ،حيث إن التقدم لا يكون بداهةً ، إلا باتجاه واحد وهوالأمام . أم أنه حشو غير مفيد وتنطع في إيضاح ما هو بدهي؟ ثم سق على ذلك من الأمثلة الكثيرة ما يصيبك حتما بتليف في طبلة أذينك الأيسر ومغص شديد تحت السرة. فكلما نطق هؤلاء بمثل تلك الترهات، كلما ثبت قطعاً أن هناك تشوهاً عقلياً مزمناً لا يقبل الجدل في لغتنا المعاصرة.
و يُعزى ذلك، في جانب كبير من النشاط المعرفي ، إلى أمرين متداخلين ومتشابكين لا يمكن فصلهما إلا بتدخل جراحي مضمون الفشل: الأول، هو نظم تصنيف المفاهيم عند الفرد وا لمجتمع، في معاجم ثنائية فكرية ، أي في ذاكرة الإنسان ، وفي المعاجم المادية ، أي المطبوعة في الكتب و غيرها من الوسائل المدركة بالحس. فالإنسان الذي يتعلم لغة أخرى يصنف المفاهيم في ذاكرته يحسب مصادرها اللغوية الأجنبية فيقابل ويطابق تبعاً لذلك. و ينحصر الأمر في أغلبه في المعاني المعجمية للكلام. ويعزز عمليةَ المقابلةِ والمطابقة المعاجمُ الثنائيةُ التي يعتمدها المرء للتحقق من معاني المفردات، و التي تضع المعاني في قوالب جامدة لا محيد عنها. و هذا الأمر يصيب نظم التصنيف بالخلل والاضطراب. فلو عدنا إلى المصطلح(universal) لوجدنا الخلل في مطابقته بالكوني لعدم تجاوزه إلى السياق العام. و هذه علة مستفحلة كأحد أسباب التخلف المعرفي والفكري والحضاري والتقني عند الشعوب المتخلفة و (المستنمية أو الزاحفة على طريق التنمية).
و الأمر الثاني هو علل الترجمات. فقد أصبحت الترجمة عند كثير من المبدعين العرب منهجاً و إطاراً فكرياً مشهماً و مصدراً عقيماً لهبوط الإبداع و ضحالة المادة المستقاة. فقلما تجد من يجدد من واقع بيئته العربية الراهنة. فهناك طائفة تستقي مناهجها الفكرية و رموزها اللغوية من تراث قديم فتحسبها ما تزال في قرونها الحجرية؛ و طائفة تتلقف المعارف بحرفية لغاتها الأجنبية من ملازم مقصوصة ثم ملزوقة ، أو من خلال مطالعات فردية متعجلة لبحوث مبتورة . والأغرب في ذلك ظهورحملة مسعورة لتحديث المناهج و إمعان في تغريبها كتركة متوارثة عن الاستدمار( وليس الاستعمار)الغربي، لا سيما مناهج منذ مطلع القرن العشرين، والمصممة بالدرجة الأولى لتمكين الأثرياء والنخب الاجتماعية والطغم الاقطاعية من السيطرة على مقدرات الأمة على حساب الوطن والمواطنين والانتماء — فتجدها تترجم ما حفظته و أودعته بواطن الذاكرة بشكل تلقائي يتراءى في الكتابات المختلفة و في التعابير المقتبسة من تلك المصادر. و هذا الانفصام الفكري و عملياته الإخصائية المشوهة عند العرب يتسبب في نقل تراكيب تخالف المنطق اللغوي، دون و عي و إدراك لأبعادها الحضارية وانعكاساتها السلبية.
عميل مزدوج
وفي معرض حملة هوجاء لتحديث وت بسيط وتسهيل اللغة العربية و ترميم ما أفسده الدهر ، فألحقه بقواعد صرفها و نحوها ، التي كانت بلغت ذروتها في مطلع السبعينات، فقد سارع أحد الباحثين و علماء اللغة في لبنان(يبدوأ نه عميل مزدوج) إلى شن هجمة شعواء على اللغة العربية واصفاً إياها بأنها لغة ضرب و قتل وعنف ، مستشهداً بعدد قليل من التعابير الاصطلاحية نحو قولهم: (ضرب به عرض الحائط )و (ضرب الله مثلاً ما بعوضة فما فوقها....) و لم أجد ناطقاً واحداً باللغة الإنجليزية يعيب عليها تعابير اصطلاحية مشابهة فيصفها بأنها لغة ضرب و عنف. ومنها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
Hit it big
Hit it off
Hit the books
Hit the bottle
Hit thehay
Hit the jackpot
Hit the road
Hit the roof
Hit the sack
Hit the spot
Strikea balance
Strikea deal
Strikea match
Strike down
Strike hands
Strikeit lucky
Strke it rich
Strike out
Strike up
ويتضح لنا عند التحليل والتدقيق كيف يسارع العرب إلىالتملص من هويتهم بالتخلي عن لسان أمهاتهم ، وتظهر لنا النفسية المتخاذلة والضائعةو التائهة عند أغلبهم و التي تبني ، و لا تؤسس، على معرفة مجتزئة و قواعد واهية وتطلعات واهمة . ولا ريبة أن ثمة تصلباً وتحجراً في الآراء والمواقف سببه حالة انفصام على النفس و إخصاء فكري تعيشها نخبنا للأسف ، وتحاملاً على لغتنا نتبرع به بحجة التجديد والتحديث والعولمة. وما هو في الواقع سوى غطاء صغير لستر العجز اللغوي والمنطقي الكبير ، فيكأنه(يوشك إن أخفي الصدر يفضح ما تحت السرة و العكس صحيح) .
و على ضوء ما تقدم فإن الترجمة من العربية المعاصرة إلى الإنجليزية من الأمور التي لا تشكل عائقاً كبيراً إذا كان المترجم على دراية بمصادر الكلام. فما يكتب و ما يسمع فيها لا يتجاوز التراكيب وا لتعابير الأصلية و المنطق اللغوي لتلك المصادر وا لذي يخالف كما رأينا منطق اللغة العربية. وقد يكون هذا جَسْراً للهوة الحضارية ، كما يحلو لبعض المساكين أن يترجم (bridge the gap) ، ولكنها تبقى فاغرة فاهاً. ولا يسمع منها إلاثغاء و رغاء.
________________________حواشي:
- شاهد عِيَان : تكون بكسر العين لا فتحها ، وتخفيف الياء لا تشديدها كما يشيع في الإعلام العربي المعاصر.
- يُعزى العيب في النطق أحياناً إلى عدم تمكن المرء من قواعد اللغة فلا تأتيه طوع خاطره. لذا يلجأ إلى مط الكلام ليعطي نفسه فرصة لاستدراك الحالة النحوية فيما إذا كانت رفعاً أم نصباً أم جراً ، تسكيناً لزوم السلامة. وقد يكون سببه المفهوم المغلوطب أن على المذيع أن يظهر أواخر الكلمات للوضوح ، تبعاً للمدرسة الإعلامية الأجنبية،فيلتبس عليهم الفرق بين الإيضاح وا لتشديد و المط والغمط و الاستطالة . فيخلطون ما بين إظهار وإخفاء وإ دغام و إقلاب.
يحكى أن أعرابياً صلى الجمعة خلف إمام أعجمي مفوه. فتقدم غليه يثني على خطبته ، ثم تجرأ للفت نظره إلى أنه ضخم و استعلى باللام في لفظ الجلالة (بعد الجر) ، فيما استفل بالطاء في الشيطان ، في "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فزجره الخطيب:آنتمو الأربو تفاخمون الشيتان وطخافيفون "الآآآه." و لا يبتعد هؤلاء العرب عن صاحبنا الأعاجم في بعض تلفظهم للأصواتالعربية.
----------------------------------------------
ءأسف للإطالةودمتم،،،،،،
المفضلات