أرجوحة و زيت،
هذا عنوان لفلم و ثائقي شاهدته على شاشتنا (المحتشمة. فاتني اسم المخرج و لم أشاهد منه سوى لقطة واحدة كانت كافية، لخصت لي فكرة كاتب السيناريو في عدة مفردات محسوبة ؛ غير أنها اطلقت العنان لحفيظتي لتثور و تستدعي أفواجاً من هموم شتي تعيشها بلادي. كانت القصة مستوحاة من مناطق جبال النوبة. تألفت شخوصها من فتية يافعين ذوي سواعد سمراء غبراء شعثاء ، تلهث صباح مساء خلف لقمة عيش نظيفة، حيث يقبل هؤلاءعلى الغلة من حبوب السمسم و الفول السوداني ينظفونها و يلقمونها لإناء خشبي فاغر فاه (فندك)، أظنه نحت من التبلدي، ومحشور فيه يد هون (زند) غليظة من الخشب متصلة بمجموعة هائلة من كتل و خوابير تراكبت جميعها لتصنع لنا منظومة آلية بدائية متكاملة تعلقت برقبة جمل عصارة جعل يجرها و يدور حول نفسه (كشحيح ضاع في الوحل خاتمه).
العصارة طبعاً مصدر رزق كفاف لأناس غبش غلابة لا يملك أحدهم قوت يومه و لا يبيت آمنا في سربه. لكنها تبدو لوحة بانوراما فولكورية آسرة لواحد شبعان ترعان قادم من وديان واغ الواغ و قال جاي يتفسح في فجاج ما سمع أهلها قط بأن التفسح بات صناعة لها أرباب و تجارة لها أسواق داعمة بقوة للناتج القومي؛ ومدعومة بأشياء خادشة للحياء، اللهم إني صائم عن الخوض فيها.
لقد حز في نفسي و غص في كبدي ككل مرة و تقهقرت بي الذاكرة زهاء ثلاثين سنة عندما زارنا في ارياف الجزيرة و فد رفيع من نظرائنا الفلاحين من براري كندا. سلكوا إلينا طريق الخرطوم -مدني . و قد ذهلوا حقاً لما تجمع أمام ناظرهم من كل الأضاد؛ و هم يشاهدون سليل الفراديس/ النيل يشق عباب الوهاد وعلى ضفتيه جيف و رمم لبهائم نافقة من الجوع والعطش. توقع هؤلاء الواهمون أن يعثروا على آثار لحضارة كوش والسلطنة الزرقاء أو البرقاء؛ تكون قد شيدت على آثرها طفرة عمرانية تناطح هامات السحاب؛ و لعلهم منوا النفس بغابات من جنان الفاكهة المدارية تحملها قنوان دانية قطوفها على جانبي الطريق. لكنهم صدموا و عادوا أدراجهم محبطين. حالهم حال كل زائر لبلدنا من بلاد عرفت كيف تكرم الضيف على طريقتها الخاصة و كيف تحتحت جيوبه برضاه، و لو كانت واقعة على مقربة منا في عز الربع الخالي.
أذكر شركة صيينية جلبها الرئيس ألاسبق جعفر نميري لبناء طريق مدني القضارف- كسلا -هيا ، ماراً بشريط من قرانا هذه من تالا ترعة أبزيد وملكية عبد الله مصري و لا عند الخياري. فكان الهمباتة من أهل القرى النشامى يهربون المواد لبيوتهم أو للبيع؛ فلما رآهم الحارس الصيني (نجيخة) لم يرغ و لم يزبد ، بل تعجب وهو يضرب كفاً بكف و يسخر من أمة تسرق نفسها و تختلس من جزلانها وكأنها كلاب ترجع في قيئها و قطط تأكل لحم صغارها.
و الله لنحن قوم نعيش التناقض بحذافيره؛ و إلا قل لي بربك كيف تجتمع لدينا شبكة من الأنيال (المنيلة) و نفشل في محاربة العطش؟ ما الرأي بنفرات زراعية و رغيفنا الأصغر حجماً أخف وزناً و أغلى ثمناً في العالم. و طفرات تعليمية مع وجود فاقد تربوي فظيع(كل واحد عندو كرنك بهيمات فاضي يعملو ثانوية بنات خاصة)؛ ناهيك عن أمية مقنعة. ثم كيف لنا أن نشتهر بسمتنا الراقي و خلقنا السمح الأصيل والاحتراب بهناك ضارب أطنابه في كل أركاننا؟. ثم كيف و كيف لشعب ملهم للثوار مثلنا و لا يظفر في تاريخه برجل واحد يقسم بالسوية و يعدل في القضية و يخرج في السرية.
سمعت أن صمغنا العربي لم يعد ماركة مسجلة باسم السودان, بل لعله ينهب و يعاد تصديره من ميناء ممبسة الكيني أو مصوع و موانئ أخرى يسأل عنها من يعرفها. و أما الذي رأته أم عيني فسلعة تسمى (بلح سكوتي مصري) تباع في الخليج بأسعار فلكية بعد تعبئتها بورق سوليفان ناعم خمس نجوم. فلما قومت الدنيا ولم أقعدها وسألت: ألا يستحي هولاء الفراعنة! دي السكوت قبيلة نوبية سودانية معروفة (يعني حرامية على عينك و كمان بجاحة؟). رد علي زبون خليجي ببرود: صج و الله تستاهلون ، تدري إشلون؟! لأنكم كسالى).و أردف بائع مصري:أنت زعلان ليه ياابن النيل ,داحنا أقرب لكو . وبرضك يعني ما راحتش بعيد.
شايفين كيف يا جماعة الخير!؟ عشان تعرف بس، قوة العين وصلت لحدت وين!!
بوركتم و دام الود بيننا،،،،
و برضو عابرين،،،،،
المفضلات