صفحة 1 من 4 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 25 من 90

الموضوع: الكهوف السحرية ( كيف بت كاتبا)/ سيرة/ صلاح الدين سر الختم على

     
  1. #1
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    الكهوف السحرية ( كيف بت كاتبا)/ سيرة/ صلاح الدين سر الختم على



    صغيرا جدا كنت حين أنبتت لى جدتاى عليهما رحمة الله أجنحة من الخيال بحكاياتهما المسائية عن فاطمة السمحة والغول القبيح نتن الرائحة الذى خطفها ثم نام متوسداً ضفيرتها،وعن كهفه البعيد المظلم ، وعن حسن وحسين (أولاد عيسي الاتنين) الذين ظلت فاطمة السمحة تستغيث بهما وتناديهما بصوت رخيم عذب تقلده الجدتان وتتفننا في ذلك:
    ياحسن وحسين اولاد عيسي الاتنين أنا الغول اكلنى
    فيجيبها الصدى:
    حسين جمال أنا البرد كتلنى...
    تتوالى فصول الحكاية، ارانى حسن وحسين وهما يجولان فى الغابات ويعبرا بجواديهما الجبال ويحلقا فوق أعلى الأشجار وهما يحملقان يمنة ويسرة بحثا عن فاطمة ويصرخا وهما شاهران سيفيهما، فتتوارى الوحوش وتهرب من أمامهما،واسمع معها صوت فاطمة ضعيفاً خافتاً باكياً تحمله الرياح من الجهات الأربع. كنت انتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أهرول مسرعا الى تلك الغرفة الصغيرة التى تقيم فيها جدتاى بالتناوب فى رحلتهما السنوية بين مدنى وابوهشيم،أهرع الى الغرفة الصغيرة حيث التهم أشهى وجبة تنتظرنى فى كل ليلة،أحبس أنفاسى وتتعلق عيونى بشفتى الجدة وعروق رقبتها النافرة، يبدو سريرها المصنوع من الخشب والمنسوج بالحبال عرشا جميلا لملك عظيم من ملوك حكاياتها، وتبدو الغرفة بأكملها كهفا أسطوريا عابقا بالحكايات، ويبدو النمل الماشى على الارض الترابية مستمعاً مثلى للحكايات يجلبه الفضول مثلى فلايغيب أبداً، قد تتكرر الحكاية مراراً ولكن الجدة لاتسردها أبدا بذات الكيفية، بل تقدم وتؤخر وتحذف وتضيف كيفما شاءت، وتغنى بصوت منغم جميل اثناء الحكى غناءً يتبدل هو الآخر، وفى كل مرة يكون للحكاية تفاصيل جديدة لم ترد قبلاً، فتبدو الحكاية حكاية جديدة فى كل ليلةومختلفة عن سابقتها، الأبطال هم نفسهم، والأشرار هم نفسهم، والتشويق هو نفسه، لكن الحكاية تتجدد مثل العصافير على الشجر فى كل أمسية وتنبت لها أجنحة جديدة فى كل مرة تحكى فيها الحكاية.لم أكن املك جدة واحدة، بل اثنتان: زينب بنت الحاج جدتى لأمى، وفاطمة بنت خادم الله جدتى لأبى،كانتا تتناوبا الحضور إلينا من بلدتنا ابوهشيم القابعة أقصي الشمال، يحمل قطار(الصعيد) هذه الينا ويعود بتلك القطار العائد(قطار السافل)، فكنا نحظى بحكاياتنا دائما، وكان من حسن حظنا أن كلا منهما كانت مجيدة للحجى ونظم الشعر والغناء به وذات مخيلة واسعة وذاكرة عامرة بحكايات الناس والنخيل وأنفاس المكان،جدتى والدة أبى كانت امرأة طويلة القامة، جميلة الملامح، لها شلوخ صغيرة على وجنتيها، عيونها واسعة لاتشعرك أبدا بأنها ضريرة،بيضاء اللون بياضا نادرا في أهلنا، شعرها طويل لكنه بات بلون الفضة من فرط ماغزاه الشيب،كانت أسنانها البيضاء القوية المنتظمة تعطيها ألقا وشبابا وهى فى التسعين فتبدو أصغر من ذلك كثيرا،كانت ذات شخصة فريدة، فهى بالرغم من كونها ضريرة،إلا أنها استطاعت بألق روحها أن تنسج من الظلام المحيط بها ضوءا كاشفا بددت به وحشة الحياة من حولها، وجعلتنا ننجذب كالفراش إلى كهفها السحرى فى كل أمسية،كانت ترى بخيالها عوضا عن عينيها فتسافر بنا بعيدا بخيالها الخصب وشعرها الجميل المدوزن الذى يضفى على السرد حيوية وسحرا،كانت ضريرة لكنها أنبتت لنا أجنحة حلقنا بها بعيدا خارج الغرفة الصغيرة والبيت الصغير القابع فى حى عمالى صغير فى ودمدنى، حلقنا عاليا مع خيالها الخصيب وروحها النورانية، نرتاد قصور الملوك الظالمين والعادلين، نسمع قعقعة السيوف وشقشقة العصافير،نرى الغابات الجميلة والمخيفة، نرى وحوش الغابة أسودها وثعالبها وغزلانها،نغوص فى البحر ونرى أنياب التماسيح بارزة ، نتعرف معها على حيوانات الغابة قاطبة وتماسيح البحر وحيتانه التى تتكلم، ونتعرف على أحلام الأطفال تحدثنا عن الفقراء الطيبون والأشرار القساة،والشجاعة والجبن،وكانت قادرة دوما على ان تجعلنا جزءا من الحكاية واختيارنا دوما هو نصرة معسكر الخير، كنا فى خيالنا نسرح فنحمل سيوفا لامعة ونتقمص دور حسن وحسين ونبحث عن فاطمة وحين يجيئنا الغول فى أحلامنا نطعنه عشرات المرات بسيوفنا فى عينه الواحدة المظلمة ككهف ونصحو مفزوعين مبللين بالعرق في الشتاء. أما جدتى بت الحاج فهى كون آخر من الوسامة بحجمها الضئيل وعودها الضامر ولونها الذى يسميه أهل السودان خدرة وهو الى لون الطين أقرب،فكلما وطأت أقدامى جرفا أخضرا نظرت الى تربته السوداء حيث لازرع يغطيها وقلت لنفسى هذا لون وجنة حبوبة زينب بت الحاج، وكانت هى نفسها محبة عظيمة للجروف والطين والنخيل،أتذكرها وهى تلبس مركوبا احمرا جديدا وثويا ابيضا وهى متحكرة فوق حمارتها ضئيلة الحجم مثلها وهى فى طريقها من أبوهشيم الى الجزيرة أرتل فى رحلتها السنوية لجمع الحقوق، مبتسمة متأنقة كعروس ليلة عرسها، وتلك الوجنة الصغيرة تنكشف عن نونة صغيرة مثلما ينكشف الفم عن أسنان متصدعة فيبدو خاوياً،كانت جدتى حين تكون سعيدة وهو حالها الغالب دوما، تبرز وجنتاها فى شكل نتوء صغير للداخل وتبرق عيناها الصغيرتان،كانت هى الأخرى مخزن حكايات لاينضب، وصاحبة صوت جميل يعلو دوما بمدح الرسول الكريم فهى مستمعة جيدة وحافظة لكل مديح اولاد حاج الماحى محبى الرسول، وكانت شاعرة مجيدة لها أشعارها وأغلبها في مدح المشرق ذلك التمر الذى اشتهر به اهلها الرباطاب واحبته هى فلايغيب عن مجلس قهوتها المنعقد مرتين في اليوم الواحد ضحى وعصرا بطقوس خاصة وفريدة أهمها ارتفاع عقيرتها بالمديح والترحم على اجدادها وابائها الراحلين وممارسة هوايتها المفضلة التى تكسب منها عيشها بالاضافة الى الحقوق الموروثة( وتلك الهواية هى ضفر السعف وصنع المصنوعات المحلية منه سواء كانت قففا( سلالا) من السعف أو بروشا للصلاة أوغيرها.كانت تشعل نارها وتقوم بقلى البن حتى يسمر لونه،ثم تمرره على الجالسين لينعموا برائحة البن ودخانه، ثم تقوم بسحنه عن طريق الفندك الصغير ويد الهون، ثم تخلط البن بالماء المقلى المخلوط بالجنزبيل، وتدور الأقداح الصغيرة دورات منتظمة لكل دورة أسم يميزها( البكرى) و(التنى) و(البركة).كانت جدتى تبدو ملكة فوق عرشها تحيط بها رعية محبة تنهل من معينها كما ينهل الناس من نهر عظيم لايعرف التوقف، تبدو جدتى فى تلك اللحظات شيئا خالدا لايفنى أبداً، كنت ألمح المحبة لها في وجوه كل المحيطين بها وفى حرصهم على عدم الغياب عن مجلسها الصغير الذي يكون مقره برندة صغيرة ضحى والحوش الوسيع تحت الظل عصرا، لازلت أشم رائحة ذلك البن وأرى دخانه المتصاعد حول وجه جدتى الصغير وأرى عيونها تبرق كقطة ماكرة فى سعادة من ملك الكون كله، أنظر الى الشرقرق المصنوع من الألمونيوم وهو تعلوه ليفة صغيرة تمنع سقوط حبات البن الدراش التى لم تسحن جيدا الى الفناجين،أنظر الى صحن العجوة الصغير، حبات العجوة الحمراء المغسولة التى تذوب في الفم كالحلم والوهم، لايبقي منها سوى طعم لذيذ وشوق الى المزيد.لم يكن الناس يهتمون كثيرا فى ذلك الزمان بالملاءات والمراتب، كانت العناقريب الصغيرة وسيمة ساحرة بحبلها المنسوج عليها بلا غطاء ولامرتبة، والأوانى عادية وبسيطة مثل ناس ذلك الزمن،وجميع الادوات صناعة محلية خالصة، وكورة الطلس حاضرة والمياه من الزير الساقط نظيفة لامعة تقدم بلا وسيط يحملها فهى تحمل على كوز من الزير مباشرة للضيف،كانت جدتى زينب مزهوة بتاريخ أجدادها وشجرة عائلتها زهوا لايفوقه شئ إلا محبتها للرسول الكريم وآل بيته الذين سمت عليهم كل أولادها وبناتها والأحفاد الذين حظيت بحضور ميلادهم،لذلك تفهمت جيدا تلك الدموع التى غشيت وجه أمى بعد اكثر من ربع قرن من رحيل جدتى زينب حين وقفت أمى في بيت الله الحرام ونظرت من عل للطائفين بالبيت العتيق ومسحت دمعها وهى تقول(..قادر الله..كل دى أمة سيدنا محمد؟.. ياحليلك يا أمي الما بليتى شوقك للرسول....) ثم صمتت وأخذت تهمهم فى سرها وتدعو دعاء طويلا.كانت الجدتان حريصتان حرصا ظاهرا على إعارتنا ذاكرتيهما وماتفيضا به من محبة للمكان وتراثه وللجذور، لذلك كنا نرى عبر سردهما كل مافاتنا من مشاهد ومشاهدات ومن حياة اندثرت وغابت فى البعيد، ونرى كل تفاصيل المكان الذى جئن منه كأننا قاسمناهن الحياة فيه، كانتا تعرفان أننا ننتمى الى جيل مختلف نشأ بعيدا عن جذوره ولايعرف شيئا عن تلك الأمكنة، فأرادتا نقل كل معارفهن عن المكان والإنسان الذى يشغله إلينا وإرضاعنا حليب الحب له، كن بأصواتهن الدافئة ينقلن محبتهن للمكان وأهله حيث حبون ونشأن فى تلك البقعة الصغيرة فى شمال السودان التى بدأت تنأى عنهن وعنا، وكانت تلك جرعة أولى من جرثومة الكتابة والسرد أخذتها صغيرا وأمتلأت بالأسئلة حول اسباب ذلك الحب وتلك الرغبة فى مشاركة ذلك المكان وتلك الصور البصرية والسمعية الجميلة، كانت جرعة أولى مهمة عن طرق السرد والقص وأساليب التشويق والإيقاع المحكم، كانت محاضرات مجانية فى الهواء الطلق وتدريبا عمليا على كتابة القصة والسيرة والرواية، وأهم من ذلك كانت بيانا بالعمل حول أسباب الرغبة فى السرد والولع به، ومن ثم سكنتنى شهوة السرد بشكل دائم كعدوى جميلة لم أملك لها ردا، فوجدتنى منذ بواكير الصبا شغوفا بتقمص دور الجدة صاحبة النهر الذى لاينضب من الحكايات، لكن جمهورى كان أوسع من جمهورهن.

    جدتى زينب بنت الحاج كانت امرأة نادرة المثال، فقد كانت عفيفة النفس ، كريمة، محبة للناس، عاشقة للعمل وملتزمة بالأكل من عرق جبينها بشكل فيه كثير من المبالغة والإفراط،لذلك ظلت تعمل وتكسب من عمل يدها حتى آخر أيامها وقد بلغت الثمانين، كانت نشيطة لاتحب المكوث فى مكانها ولاتحب البقاء بدون وجود مايشغلها،كانت تجئ من أبوهشيم الى ودمدنى فى كل عام في ميقات معلوم ، تبقى هناك حتى يحين آوان حصاد نخيلها الموروث بالجزيرة أرتل وأبو هشيم ، تشرف بنفسها على الحصاد وتوزيع الحقوق، وتشحن حصتها من التمر عبر السكة حديد من أبو هشيم بأقصى الشمال الى واد مدنى فى قلب الجزيرة حيث بيتنا، تركب القطار الى الخرطوم ثم تكمل الرحلة من الخرطوم الى وادمدنى بالطريق البرى، وعند وصولها يمسى شغلنا الشاغل معها هو السؤال عن شحنة التمر العزيزة فى محطة السكة الحديد القريبة بودمدنى،وحين تصل الشحنة نذهب حاملين بوليصة الشحن لاستلام جوالات البلح وننقلها الى بيتنا القريب، حيث تشرف بت الحاج على فحص شحنتها والتأكد من وصولها كاملة ثم توزعها ، قسم للبيت ويكون عادة من أجود التمر، والبقية للسوق، نحملها مرة أخرى على ظهر كارو لتاجر من تجار البلح الذين اعتادت ان تبيع لهم تمرها وتجلس جوار شحنتها حتى تبلغ الشحنة مقرها وتتم البيع وتتسلم نقودها وتحفظها جيدا فى محفظتها الجلدية المعروفة ب (الشكوة) وتستبقى بعض النقود في يدها لشراء احتياجاتها الخاصة من سكر وشاى وبن وصابون وغيره، فقد اعتادت الجدة ان تشترى احتياجاتها منفردة وان تساهم فى كل وقت بشئ ما فى احتياجات البيت حتى لاتكون عبئا ثقيلا على أهله،ثم تنفحنا بنفحات متكررة تجعلنا نتنافس على مرافقتها فى رحلاتها المختلفة. كانت تشترى السعف من سوق السعف من عائد تمرها وتظل طوال إقامتها عندنا تشتغل فى صناعة المنتوجات المحلية من السعف ، تصنع (القفاف) أى السلال من السعف وتصنع البروش( سجاجيد الصلاة) بأحجام مختلفة، ثم تحمل إنتاجها إلى السوق لتبيعه هناك وتشترى من جديد احتياجاتها المتجددة وسعفا جديدا لمواصلة انتاجها.

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 16-08-2014 الساعة 07:51 PM
  2.  
  3. #2
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    الكهوف السحرية (2) ( كيف بت كاتبا؟)
    (التنقل في الأمكنة)

    كان المدخل الثانى لولوجى في عالم السرد والحكايات هو ذلك التنقل الدائم في الأمكنة الذى عشته في طفولتى وصباى وحياتى كلها. ولدت في وادمدنى في مطلع الستينات في أواخر الخريف في أواخر عام 1962 وعشت فيها ونشأت في تلك البيوت الصغيرة التى لاتمنع المطر ولكنها تعرف كيف تصنع الفرح الطازج، وفي مدنى تنقلت مع أسرتى في عدة أحياء وبئيات مختلفة لكل منها خاتم مميز ونكهة خاصة، كل مكان من تلك الأمكنة له شخصيته وطابعه الخاص وحكاياته وشخوصه الغنية المثيرة للأسئلة والدهشة. فحى البيان مثلا والأحياء المحيطة به مثل بانت والعشير وأم سويقو والقبة وجبرونا والدباغة في الجزء الشمالى من مدنى كان عالماً ساحراً وغنياً بصور تحتل الذاكرة ولاتفارقها، كبري حاجة عشة له ذكرياته الخاصة فهو معلم بارز في تلك الفترة وارتبط باحداث كثيرة وبالمناسبة حى البيان يتميز بكثرة الألقاب وطرافتها مثل ( محمود ديشن) و(قزقز) والصبى وامنة الحمراء واب ايدية وحيدر قطامة وود الفتلى وحمورى واحمد شبك وعلى افندى، وهناك صور في الذاكرة، من تلك الصور صورة المراجيح في العيد في القبة وصورة بصات (الضهارى) التى تأتى محملة بالناس لزيارة قبة وضريح ودمدنى السنى التى تقع في مثلث صغير مطل على شارع الزلط، اتذكر الرهبة التى يتميز بها المكان والنساء اللائي كن أكثر زواره والدروايش بطبولهم وجلاليبهم الخضر وحلقات ذكرهم ودورانهم المجنون مع دقات النوبة والطار، ثم ينفتح المشهد نفسه على ميدان المولد في بانت حيث يكتظ بالناس والصيوانات التى تحتلها الجماعات الصوفية المختلفة وبائعى عرائس وحلوى المولد، المراجيح ، البنات الجميلات الجائلات مع آسرهن، أحصنة السوارى التى يدور رجالها حول الميدان لتأمينه، النساء للائي يقمن ببيع الساندويتشات المكونة في الغالب من الطعمية والسلطات الشهية، حلقات الذكر الصاخبة ودوائر المتفرجين، أرتال البشر، الأضواء الساطعة التى تحيل الليل نهاراً،ثم تعود الذاكرة الى حروب الشوارع بين ابناء الأحياء المختلفة، تلمع اسماء وصور الفتوات الصغار والكبار الذين كان يكفى ذكر أسم الواحد منهم لبث الرعب في المكان، وتتداخل مع صور هولاء الأشقياء صورة قاتمة أخرى حين أستأسدت السلطة على جارنا الذى كان يقاسمنا السكنى في ذلك البيت الصغير في حي البيان ، كان دنقلاويا يعمل عاملا بمصلحة السكة حديد وكان عنصرا فاعلا في الحزب الشيوعى حين حدث انقلاب هاشم العطا ، كان صاحبنا الباسم دوما يسكن الجزء الأمامى من المنزل ، لاأنسي ذلك المشهد حين أحاطت قوة عسكرية مسلحة تنتمى للجيش بالمنزل إحاطة السوار بالعصم واقتادوا حسن ساتى طويل القامة النحيل الى عربة مملوءة بجنود مدججين بالسلاح، كنت صعيرا جدا، وقفت أراقب المشهد ، الرجل يمضى وسط الجنود بثبات كأنه يمضي وسط أصدقائه الى مبارة كرة قدم و السينما، الشارع كان مكتظا بالمتفرجين، استفز منظر المفرجين زوجة الرجل وهى لاتزال تتحدث العربية بلهجة نوبية لاتميز بين المؤنث والمذكر، فصاحت فيهم بصوت غاضب تعاينى مالكن؟ سرقت ولا كتلت؟ ما راجل....) تقصد القول( فيم تتفرجون؟ هل تظنونه مجرما أم قاتلا؟ هو رجل شريف فقط.)غاب الرجل عملاقا يتوسط كومة من الأقزام وبقي صوت زوجته الباسلة يرن في أذنى عبر السنين منذ ذلك التاريخ يوليو 1971 حيث كنت في التاسعة من عمرى. كان ذلك مشهدا مثيرا لأسئلة كثيرة جدا تابعتنى في كل حياتى.كان أهم الأسئلة التى أثارها المشهد في نفسي هو : (هل تقود مجرد فكرة تسكن عقل رجل رجلا الى هذا المصير المفزع؟! هل تستحق الفكرة كل هذه البنادق وهذا العدد من الجنود؟! هل هى فكرة خطيرة الى هذا الحد؟!) ، بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ في يناير 1982 كنت على موعد مع مشهد أشد قسوة وفتكا، كنت على موعد مع مشهد اغتيال صديقي وزميلي في الدراسة الشهيد طه يوسف عبيد برصاص جنود تم فتحه في صدور عارية كانت تهتف مجرد هتاف ضد غلاء الأسعار في مظاهرة كنا نظنها مثل كل لحظات الحياة نعيشها بصدق ونمضي بسلام، لكن دم صديقي المنحور بطلقة الكلاشنكوف الذى رشح فوق ملابسي وهو يهتف بكلماته الأخيرة( الرصاص فشنك) كان بوابةعالم جديد أيقظ السؤال القديم: هل تقابل الرصاصة الفكرة دوماً؟! في ذلك اليوم كان كل شئ في فمى مراً،كنت ممتلئا بالغضب وبالشعور بالعجز والخواء، وأتذكر جيدا أننى فكرت في امتلاك بندقية والإقتصاص لصديقي، لم يكن لدى فكرة واضحة عمن يجب الإقتصاص منه، لكن الرغبة في الإنتقام كانت عالية جدا، وكان ثمة شئ آخر مخيف جدا، فكرة الموت، كان وجه صديقي الباسم دوما يملأ الفضاء أمامى والأسئلة تتناسل: (هل مات طه حقاً؟ أم هى مزحة ثقيلة ومجرد كابوس؟ هل سيعود غداً لنذهب سويا لنلحق بليلة شعرية أو عرض سينمائي برابطة الجزيرة للاداب والفنون كما نفعل دائما؟) لكن الأيام مرت ولم يعد الملاك الصغير من رحلته الغامضة وغاب مثلما غابت أخى الصغيرة انتصار التى خطفتها حمى الملاريا وهى لاتزال بعد قطعة صغيرة من اللحم وغادرت بها الى عالم بعيد غامض لم أعرف ما هو بالرغم من أجابات أمى الكثيرة عن اسئلتى عنها، كل ما عرفته من تلك الإجابات اننى لو كنت رجلا طيبا سوف التقي بانتصار يوما ما. وهاهو طه يا أمى يغيب هو الآخر مثل انتصار.
    تتواصل السيرة....................................
    صلاح الدين سر الخم على
    مروى
    13 اغسطس 2014

  4.  
  5. #3
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    ( حبوبة بتول غصن الزيتون)

    اتذكرها بشلوخها العريضة علي خديها وعيونها الواسعة وهمتها العالية وهي تجوب المدينة سيرا علي الأقدام في أغلب الأحيان من أقصاها الي أقصاها مجاملة ومواصلة للأرحام دون أن تتأثر أناقتها بتلك المشاوير المضنية ودون أن تشكو تعباً أو تتذمر، كانت تلبس حذاء نسائياً مصنوعا من الجلد وهو الصورة النسائية للمركوب الرجالي، كان حذاؤها مميزاً ولامعا دوما ويندر أن يعلوه غبار الطريق فتبدو كأنها كانت تمشي علي الماء لا علي طرق ترابية،كانت تحمل في يدها دوما سبحة حباتها لونها خضراء فاتحةتكون ملفوفة دائما في يدها اليمني، كانت روحها عالية دوما وابتسامتها كوناً من الوسامة والطيبة والفرح الطبيعي والمحبة، كنت أحبها محبة كبيرة وزادت تلك المحبة بسبب تلك المحبة بينها وبين أمي التي كنت أقتفي أثرها في كل شئ فأحب معها من وما تحب وأمقت معها من تمقته وما تمقته، كانت حبوبة بتول صفحة فريدة في ذاكرة ودمدني وذاكرة أهلنا المنتشرين في المدينة ، كانت دوما أول الواصلين للناس في أفراحهم وأتراحهم وآخر المغادرين، وكانت دوما هي محور الأهتمام والترحيب والمثال الذي يطلب من الجميع بلوغ مداه وقمته الفريدة في التواصل والمحبة، كان بيتها الصغير في حي البيان مدني المتخذ شكل المثلث الصغير قبالة منزل اسرة فريني هو قبلة كل الأهل وهو صالة الوصول التي لابد لكل قادم الي ودمدني من الأهل أن يمر عبرها وينعم ببشاشة أهلها وكرمهم وكسرتهم التي تعاس علي الهواء مباشرة، أذكر ذلك البيت بصفائح حمامه المعلقة علي الجدران والتي لم تخل قط من الحمام الساكن فيها والمتمتع بخدمات مميزة والمطمئن لأهل الدار والمعتاد علي ضيوفهم الكثر الذين لايزعجونه أبداً، في ذلك البيت الصغير رأيت لأول مرة في حياتي التلفون الأسود ذي الأقراص التي تعلق عليها طبلة صغيرة أحيانا وتكون في أغلب الأحيان بلا طبلة، أشبعت فضولي بشأن كيفية استعمال التلفون في تلك الدار ، وكنت اقف مبهورا أراقب المرحوم صديق محمد علي ابن حبوبة بتول الذي كان يعمل بمصلحة التلفونات وهو يستخدم التلفون ويحادث أشخاصاً غير مرئيين، كنت مبهوراً بصورته علي الجدار بالأبيض والأسود داخل فريم خشبي مذهب ومكتوب أسفلها أسم أستديو مقره القاهرة، كانت الصورة تجعل من صديق شخصاً أكثر وسامة وكونها مصورة خارج السودان يعطيها بعدا آخراً وغموضاً وهيبة، كنت أحاول تخيل القاهرة وشوارعها وملامحها بلا فائدة،في تلك الدار كان اقتراب رمضان حدثا مهما، تجلب حبوبة بتول أمرأة تعمل ببراعة في مجال صناعة الابري الأبيض والأحمر ، كنت اتابع العملية من مرحلة احضار العيش وعمل الزريعة والذهاب الي الطاحونة للتدقيق حتي الكوجان للعجين واشعال النيران والعواسة علي الصاج، اتذكر تلك المرأة وهي جالسة علي بنبر صغير ارتفاعه من الأرض بضعة سنتيمترات وأمامها الصاج الموضوع فوق أربعة حجارة موزعة علي الأطراف وتحته الحطب مشتعلاً متوهجا لينتج حرارة علي سطح الصاج ليعاس الآبري علي تلك الحرارة، كان الحظب يتمرد حينا فيخرج دخانا بدل الوهج فتقوم المرأة بعملية ابدال لنوع الحطب وتستخدم الهبابة لتوليد اللهب وطرد الدخان، يتساقط عرقها غزيرا وهي تضحك وتوالي الونسة مع حاجة بتول وبناتها زهراء بت التجاني وحليوة ومن تكن حاضرة من الجارات أو الأهل، كنت أحرص علي متابعة تلك الطقوس واتحرق شوقا للحظات أكل الابري بنظام القروض مثله مثل الكسرة والفطير،اما طقوس خبيز العيد فهي عالم آخر ساحر نتابعه من الألف الي الياء ولانفوت اكل البسكويت ابتداء من الفرن البلدي ايام كان الفرن البلدي الذي ينتج الرغيف هو المكان الوحيد المتاح لانضاج الخبيز فالبيوت لم تعرف افران الكهرباء والافران المنزلية في ذلك الزمان، فكنا نحمل الصواني التي عليها البسكويت والكعك علي الرؤوس الصغيرة ونذهب الي الفرن لكي تكتمل عملية الانتاج هناك بادخال الصواني الفرن واخراجها ناضجة ومن ثم العودة بها الي البيت.كانت تلك الدار الصغيرة مصدر مسرات كثيرة وكبيرة لنا في طفولتنا الباكرة، وكانت ابتسامة حبوبة بتول اكبر مسرة بين تلك المسرات، فهي تصافح الناس مبتسمة وتمشي مبتسمة وتصلي وعلي وجهها طمأنينة وشبح ابتسامتها المضئية مختبئ في الشلوخ والعيون الواسعة،كانت صرة ثوبها دوما تنفتح عن حلوي أو نقود لشراء حلوي تمنحها للصغار، وكانت لاتنهر ولاتنادي بصوت مرتفع أبدا، ولاتذمك حتي لو كنت غارقا في خطأ فادح أو متسخ الملابس بسبب تهورك، كل ماتفعله هو ان تبتسم وتقول لك باسم امك( يا ود فلانة تعال يا الفالح ...تعال هاك اجر اشتريلك حلاوة لكن في الأول اجر غسل ايديك وغير وتعال يا المبروك...اجر يا الفالح) تفهم انك مخطئ ولكن الأمر ليس خطيرا ، نركض مسرعين مستجيبين للتصحيح اللطيف ونعود فنجدها توفي بما وعدت، تعطيك قرشك السحري فتركض صوب الدكان....كانت كونا جميلا غاب فجأة، فجأة افتقدناها وافتقدنا شلوخها المميزة وصرة ثوبها المفتوحة علي الفرح ونبرة صوتها الخفيض الذي لايزعج باعوضة لكنه يبشر بالخريف والخير، افتقدنا قرشها السحري وبسكويتها وتمرها وحلاوتها المقدمة دوما مثل ثمار شجرة ليمون مزروعة في الشارع، غاب صوتها وهي تقرأ القرآن وتدفعنا الي انتظار ذلك الزمن الذي نحفظ فيه ما يمكننا من اداء الصلاة بانتظام مثلها، بات البيت صامتا، افتقدت الطرق في المدينة خطواتها الوئيدة التي تقطعها جئية وذهابا وصلا للارحام ومحبة وتقربا......سألناهم ببراءة( أين ذهبت حبوبة بتول؟) قالوا بغموض( ذهبت الي عالم رحيم مثلها)....لم نفهم شيئا قلنا بسذاجة( هل تعود قريبا؟ هل ستحضر معها حلوي جميلة؟) كان الصمت هو الأجابة.
    اللهم أرحم حبوبة بتول وطيب ثراها واجعل الجنة مثواها بقدر ما زرعت من محبة وواصلت ووصلت من أرحام.

  6.  
  7. #4
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    بيت النخلة / سيرة/ صلاح الدين سر الختم على
    كان بيتا صغيرا مكونا من غرفتين فقط ومطبخ صغير وحمام، بيتا حكوميا في حى عمالي صغير في طرف مدينة وادمد نى الجنوبى اشتهر وعرف باسم 114 أو الكمبو ،كان الحى يتكون من مجموعة من البيوت المبنية بطريقة واحدة ومنقسمة الي نوعين يسمى الأول (الفرادى) وهو على شاكلة ما وصفناه اعلاه من حيث عدد الغرف، وهناك نوع ثانى يسمى( الدبل ) وهو أكبر قليلا يتكون من غرفتين مفتوحتين علي بعضهما وتتوسطهما برندة داخلية وملحق بهما حمام داخلي وهناك صالون كبير ومعه حمام خارجى وهناك غرفة كبيرة تعتبر مطبخا، والى جانب ذلك فان الحمام مميز عن حمامات الفرادى بالبئر الخاصة به، بينما الفرادى كان يقتقد الي تلك الميزة ويعمل بنظام الجرادل الحديدية التى كان عمال البلدية يحملونها على الرؤوس حين تمتلئ ويفرغوها فى عربة خاصة بها ترميها بعيدا، كان ذلك زمنا قبيحا رأينا فيه بعضنا يحمل فضلات بعضنا على رأسه في منظر مهين مذل، وقد اختفت تلك الصورة القبيحة في السبعينات واصبحت لكل البيوت آبار ملحقة بها، نعود الي بيتنا الصغير ذاك فقد كان يتميز بوجود نخلة باسقة فيه تشكل عنوانه ووصفه وتفصح عن سمتين مهمتين من سمات أهله، فقد كان صاحب البيت العم محمد محمود مزارعا قدم من أقصي الشمال حيث ؟أهله الدناقلة ليشتغل بوزارة الرى في مدنى في المهنة التى يجيدها وهى الزراعة وكانت بصمته ظاهرة في بيته الصغير بشكل واضح وكانت النخلة بمثابة اعلان عن هويته الشمالية وعن بئيته الأصلية وأشواقه الدائمة اليها، كانت زوجته فاطنة ساتى هى الأخري معلما من معالم الحى ورمزا مجسما لثقافتها النوبية فظلت تستخدم رطانتها كأنها لم تغادر أرض اجدادها وظلت تتحدث العربية بالقدر الذي يعينها علي التفاهم البسيط مع من حولها وظلت تؤنث المذكر وتذكر المؤنث غير عابئة بالنحويين والمعترضين ، وظل وجهها يتألق ورطانتها تملأ المكان كلما وجدت من أهلها من يجيدها،ومع ذلك الاعتزاز بالجذور دخلت فاطنة ساتى قلوب الجميع بلغة أخري لغة عالمية لاتكتب لكنها تعاش وتحس وتربط بين القلوب ( المحبة) فقد كانت كريمة محبة للصغار والكبار وبيتها مفتوحا للجميع و كان بالبيت شجرة ليمون مثمرة هى ملك للجميع وكانت النخلة ظلا للجميع مع انها في قلب البيت ، كان الصغار يحبون البيت الخالي من الصغار وصاحبته وكانت النسوة يهرولن كل ظهيرة وصباح الي أم الجميع التى ماتخلفت عن عيادة مريض وتهنئية بمناسبة سعيدة ومواساة ساعة حزن كان لفاطنة ساتى وزوجها اسرة مميزة ، بنتها الكبرى حواء بيضاء البشرة ذات أنف فرعونى جميل وعيون واسعةوهى مرحة محبة للتسامر مع الجميع وحين تجدها وسط اولادها لاتكاد تميزها عنهم في خفة دمها ومرحها وانطلاقها معهم كأنها واحدة منهم وكان زوج حواء العم محجوب دنقلاويا هو الآخر يبدو أكبرمنها كثيرا لكنهما حين يضحكان تشعر انهما رفيقا دراسة، كانت بنتها الثانية خديجة متزوجة ايضا وغير مقيمة معها لكنها مثل حواء لاتغيب هى وصغارها عن بيت الأم العظيمة،ولديها بنت تدعى سعاد كانت موظفة مرموقة تقيم معها حتى تزوجت هى الاخرى، اما الاولاد فكانا قمرين هما بابكر الذي طوي الدراسة بنجاح حتى تخرج صيدليا ناجحا من جامعة الخرطوم وامسى دكتورا ومحاضرا في كليته ذاتها وبات شريكا في مصنع دواء كبير بالخرطوم حتى اختاره الله الي جواره في ريعان شبابه تاركا من خلدوا اسمه واسم ابيه، الاخر (ختم) درس الجامعة هو الاخر بجمهورية مصر وعاد ليستقر بوطنه ويؤسس أسرة، في ذلك الزمان حين فتحنا عيوننا كان البيت الصغير يعج باهله وأهلهم وكان بابكر وختم من اولاد الفريق الذين كانوا يكافحون لاجل اكمال التعليم ولهما صلات واسعة وصداقات، كان البيت الصغير عامرا دوما بالاصدقاء والأهل والاحفاد، كانت سلوي ابنة حواء الكبري زهرة من زهرات الكمبو بمحياها الجميل ووجهها الباسم الطيب وقد جاء من تقدم لها وتزوجت علي عجل كمن يسابق قدرا كامنا متربصا وغابت الزهرة علي عجل وتركت في قلوب الجميع جرحا داميا لكنها تركت لهم منها أثرا طيبا،مرت السنين وغيب الموت بعض أهل البيت الصغير وغيبت الحياة وتقلباتها البعض في بيوت بعيدة وبقيت تلك النخلة باسقة تنظر الي الجميع من عل حتى غابت عن بصرى. لكنها بقيت بشرفة الذاكرة باسقة بهية تحمل في اعلاها ملامح الجد محمد محمود الأصيلة ووجه فاطنة ساتى المميز.
    صلاح الدين سر الختم على

  8.  
  9. #5
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة ( ملامح من السيرة)
    فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة

    فتحنا عيوننا في حى 114 الحبيب وتعلمنا في ازقته الصغيرة وبيوته المعروشة بالمحبة اشياء كثيرة نبيلة وغالية ، كنا فقراء ابناء فقراء، بسطاء ابناء بسطاء، اغلب امهاتنا أميات وكذلك الاباء المتعلم فيهم يفك الخط بالكاد، لكن بمقدور المرء ان يجزم باننا حظينا باجمل واروع وافضل بيئة اجتماعية يمكن أن يحظى بها اطفال وشباب، كانت بيئة طاهرة ونظيفة ومملؤة بالحب والمحبة، كان الكبار كلهم اخوانا واباءا والأمهات كلهن أمهات للكل والأخوات محل تقدير واحترام ،تربينا علي الثقة المتبادلة وعلي الأخوة الصادقة والرجولة والشهامة والكرم والإيثار والتعاون،كانت بيوت الرذيلة علي مرمى حجر منا وكان اولاد الفريق متعففين وعلي خلق ودين، وكانت بيوت الخمور علي قارعة الطريق وكان الحى معافى، كان فهمى نجمة بعيدة متميزة، شاب بدين نوعا ما ولكنه ضاحك بشوش نشط خفيف الحركة لايغيب عن أي نشاط او مبادرة أو مباراة أو تمرين لفريق الأهلي مدنى عشقه الكبير وعن تمارين فرق الحي 114، كان منزلهم يتبع جغرافيا لحى الحلة الجديدة ولكن بوابته الفاتحة علي بيوت 114 فتحت قلوب أهل البيت علي حب الكمبو وأهله فباتوا جزءا لايتجزأ من الكمبو، بات فهمي واسرته كلها ينتمون انتماءا كاملا للكمبو ولايعرفون حيا غيره برغم احتفاظهم بعلاقات طيبة مع اهل الحلة الجديدة جعلت منهم قنطرة ربطت بين اهل الحيين المتجاورين، لم يلعب فهمى الكرة ابدا، ربما بسبب بدانته، ولكنه كان عاشقا لكرةالقدم ونشاطها الاداري لم تعرف المدينة والمنطقة الجنوبية مثيلا له في ذلك العطاء والوفاء الا قلة نادرة توشحت بها مدينة مدنى في ذلك الزمان الجميل ، لمعوا مثل شهب جاءت من السماء فاضأت الكون برهة من الزمان ثم غابت وتركت الناس في شوق اليها، ولعل المقام مقام ذكر لتلك الاسماء: عبدة مالك ومحجوب فضل وصلاح الشاذلى وازهري حبيب نسي وصلاح حسن والنور الفلاتي وبابكر بتاع فريق الوادى وجيرانه ناس الصايم والاستاذ بتاع فريق الوادي وناس يسين بتاع نجوم المزاد في الرابطة الجنوبية وهناك ناس عبد الله سرالختم في التضامن وناس مجدالدين وابوليلي في الثوار وناس الشاعر في الاصلاح وناس الكوارتة وغيرهم ممن سقطوا من الذاكرة ولكنهم يبقوا في ذاكرة المدينة نجوما بعيدة قامت علي اكتافها نهضة مدنى الكروية، لم ينهبوا مال شعب ولم يكونوا اثرياء ثراءا مشبوها ولم يكونوا يطالبون بديون علي الاندية ولم يعرف احد كيف انفقوا عليها، لكنهم كانوا جميعا شموعا تحترق لاجل الاخرين ويفعلون ما يفعلون كالشهداء يموتون في صمت بلا انتظار للثمار، كان فهمي احد اولئك النبلاء الذين جاد بهم الزمان علي اهل السودان فاعطوا بلا كلل وعملوا بلا أمل اقاموا علي سفر وفارقوا علي عجل، ومضوا كالاحلام ، كالشهب، كامطار الخريف، تمضي الي جوف الارض وتغيب فيه فتخرج خيرا عميما للاخرين، كان فهمى بابتسامة دائمة وعقل مرتب هو من أشرف علي ادارة فريق المجد 114 منذ التأسيس وحتى ذهاب المجد الي العدم الذي جاء منه، كان اداريا فذا وهماما وملما بقواعد ادارة نشاط الناشئين ولبقا وصارما في التعامل مع اللاعبين وقد كنت أحدهم لفترة طويلة،لم تصدر عنه يوما لفظة نابية، لم يوجه اساءة للاعب أو خصم أو حكم أو اداري أو مشجع، كان كل جهده وفكره منصبا علي شؤون الفريق، تسجيلاته وصحتها وخطوطه وتقويتها ونشاطه وانتظامه وانتصاره بالطرق المشروعة، لذلك كانت سمعة فريق المجد دوما فوق كل الشبهات ولم يرتبط اسم المجد بشغب أو اعتداء علي حكم أو سوء سلوك من أي نوع، وكان لفهمى ورفاقه في الادارة وعلي رأسهم الاخ الفاتح عبد الوهاب رئيس فريق المجد دور كبير في ذلك السجل الناصع لفريق جاء من العدم وبات في زمن وجيز من عمالقة الرابطة الجنوبية وهى اقوي رابطة في مدنى انذآك، كان فهمى صديقا للاعبي الفريق جميعا بلا تفرقة أو تمييز وكان حاضرا دوما في النادي حيث كان عاشقا للضمنة ولاعبا ماهرا له صولات وجولات فيها مع الريح ابوالريح والمرحوم صلاح التلب مدافع المجد والاخ يوسف الله جابو والاخ صلاح حسن سعيد، جمعتنا بفهمي ذكريات كثيرة منها رحلتنا الي مدينة الابيض واستقبالنا لناس الابيض في النادى حين ردوا الينا الزيارة، فقد كان نجما في المناسبتين، وكانت لنا رحلة اخري الي سنار ورحلة رابعة الي الخرطوم الامتداد، كانت ذكريات جميلة، كانت لفهمي مداعبات خاصة مع زامبيا وفرفر والاخ ناجى تشتش والاخ عادل محمد مختار الثعلب ومحجوب كرفون لاعب الوسط الرهيب بفريق المجد، اما علاقته بالاخ عماد كسبرة وعماد الدنكوج ومحمد احمد الرشيد باكات الفريق فقد كانت علاقة خاصة قوامها مداعبات متبادلة. لا اذكر للاخ فهمي مشكلة مع احد في مجتمع المجد ابدا، غير انه لم يرض انتقالي الي فريق الثوار دون الحصول علي موافقة ادارة المجد، فترت علاقته بي ولكن سرعان ماعادت المياه الي مجاريها وظلت الابتسامة دوما علي ذلك الوجه الطيب حتى اضطرتنى ظروف عملي للغياب طويلا عن مدنى، جتي كان لقائي الاخير به في مدينة كريمة حين جاء مع محبوبه الاهلي في العام 2011 لمباراة في التأهيلي امام الجبل كريمة، كنت بالاستاد اثناء المباراة حين اقبل نحوى شخص نحيف بدت ملامحه مألوفة لكننى لم اعرفه فهمس مبتسما( انا فهمي ياحارس.....انا فهمى) تقالدنا بحرارة وكان يهمس( انا ما جانى سرطان ياحارس، قربت اروح فيها وربك كتب لي عمر) كان لقاءا مؤثرا جدا وقصيرا جدا ، واخيرا جاء نعيه كالصاعقة.. رحل الرجل الذي زرع الكمبو بالابتسامة وكان من ابرز صناع مجد المجد فيه، كان خريفا كريما في كل شئ، كان ابا واخا وصديقا ونجما في سماء بعيدة
    وكعادته في كل شئ كان فهمى باسلا في صراعه مع مرض السرطان اللعين الذي استوطن بدنه ولكنه لم يتمكن من هزيمة روحه
    ظل الرجل يقاوم ببسالة حتى نهض من المرض في نهوض مدهش وباشر حياته بضعة اشهر وفعل كل مايحبه ورافق فريق الاهلي في رحلات مهمة للعودة للممتاز وعاش معه فرحة العودة لموقعه ثم زوت الشجرة الخضراء وماتت واقفة ورحل الرجل رحيلا فاجعا الي عالم ارحب وارحم
    اللهم ارحم فهمى صالح واجعل الجنة مثواه مع الصديقين والشهداء.

  10.  
  11. #6
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436


    هل كانت تلك الفتاة تحبه؟ هل من الممكن حقاً ان يتحول الحب الخائب الي كراهية؟
    هكذا لمعت الأسئلة في ذهنه حين فرغ من قراءة كتاب شيق في علم النفس، حين لمعت صورتها في ذاكرته بقوة، كانا يسكنا في ذات المدينة ولكن كل منهما ينتمي الي عالم مختلف، هي ابنة القصر المنيف وطبقة التجار المميزة في المدينة ، وهو ابن عامل بسيط ويسكن منزلا حكوميا ضغيرا في حي صغير، لم تكن جميلة، لكنها كانت مرموقة بفضل المظهر الذي صنعه الثراء وبريق اسرتها وصيتها في المدينة،لم يك ثمة مجال لالتقائهما لولا كتب الشعر وقصائد الشعراء وجنون الثورة والتغيير، كان يرتاد كل تجمع ثقافي في المدينة متأبطاً دوواين الشعر والروايات بخلاف ما يحفظه ويلقيه بصورة رائعة من شعر ممنوع، كان الزمان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت المدينة ودمدني، كانت الشوارع تتنفس شعرا وتمرداً، هي كانت مولعة بكل ذلك، كان الشعر بوابة المرور الي عالم السياسة بجنونه واحلام التغيير واحلام اقتفاء أثر الابطال الذين ترسمهم خيالات الرواة كأنهم قادمون من المريخ، ليس فيهم من قبحنا شئ، ليس فيهم من جبننا جبن، وليس فيهم من نواقص الإنسان شئ،لذلك كان يتجمل دون ان يشعر بذلك، كانت تحب زيارتهم وتحب الانفراد به برغم ان السبب المعلن للزيارات هو التواصل مع اخواته واستلاف الكتب وتبادلها، كان في المدينة في ذلك الزمن من يحتفلون بثورة اكتوبر بقراءة الشعر والاستماع اليه والي الغناء والاناشيد في دار صغيرة تدور فيها اقداح الشاي وتدور فيها الموسيقي من جهاز التسجيل وتلقي كلمات ، كان ذلك عالما صغيرا ضمهما، كان يشعر دوما انه تحت نظراتها وتحت اهتمامها أينما ذهب، وكان من عادات ذلك الزمن وشبابه الهروب من الالتزام الي ساحات الصداقة المبهمة عمدا، خاصة اذا كان الخط مشغولا قبلا أو كان الاهتمام موجودا لكنه أقل من اهتمام الآخر، لم يك نافرا منها، بل علي العكس كان يري فيها اشياء كثيرة تعجبه، لكن سقف اعجابه كان لايتخطي حدود الصداقة أبداً، لم يتخيلها يوماً حبيبة تدبج لها الرسائل برغم اعجابه بشعرها الطليق وعيونها الواسعة ونظراتها الباحثة عن شئ ما في عينيه، كان يتحاشي تلك النظرات دائما ولكنه كان لطيفا معها دائما في الوقت نفسه، ثمة اشياء كثيرة فيها تعجبه وثمة اشياء تشده الي عالمها ولكنها حين تقترب أكثر مما ينبغي يبتعد بلطف ولكن بشكل حازم، كان في اعماقه يعرف انها ليست له وانه ليس لها وانها مهما تكن لطيفة ليست هي التي خفق لها قلبه ،ظلا هكذا يلعبان لعبة توم اند جيري بطريقتهما الخاصة وظل يعرف كيف يحافظ علي تلك المساحة من المودة دون ان يتورط ودون ان يجرح شعورها بأي شكل من الأشكال،حتي كان يوم، كانت كعادتها في زيارتهم، قضت وقتا طويلا ، كان الشعر حاضرا والنكتة والضحك ، وحين غابت الشمس ونهضت لتذهب نهض كعادته ليوصلها، كانت المسافة قريبة بين البيوت ولكنهما اعتادا مواصلة حوار لم ينته بحجة التوصيل هذه،خرجا وكانت ثمة ضحكة علي الشفاه، مشيا علي مهل، كان الشارع خاليا، مدت يدها الصغيرة ولمست اصابعها كفه، سرت قشعريرة في كفه، سحبت يدها بسرعة ، عم صمت، بلع ريقه، دون ان يدري وجد يده تبحث عن يدها في الظلام ، تلاقت الاصابع المرتعشة، ضم كفها بقوة ، نظر في وجهها، كانت تنظر اليه عميقا في عينيه، ضمها اليه فجأة، احس بها قطعة من النار ترتعش، افلتها، قال كلاما لايعرفه، تمتم، همهمت هي، ساد صمت، واصلا المسير، كان صدرها يخفق بقوة ، كان محرجا ومتضايقا من نفسه، لم يقل شيئا ولم تقل شيئا حتي وصلت قرب دارها، اسرعت وغابت خلف الباب الذي اغلق خلفها. عاد هو كأنه يمشي علي الشوك، كان حانقا علي نفسه بشدة ...كيف سمح لنفسه بما فعل؟ ولماذا وانت تعرف انك لست حبيبها ولن تكون؟ هل بت وغدا من اوغاد المدينة؟ هل بت تتلاعب ببنات الناس وتستغل ضعفهن؟ ركل الحصي باقدامه وسار صامتا. حين التقيا بعد ذلك اليوم بعدة ايام، كان الهواء يعبث بشعرها، كانت بلوزتها البيضاء تهفهف وتكاد تشف عما تحتها، كان ثمة نظرة شقية في عينيها، لم تك غاضبة، لم تتحاشاه كما تصور، سلمت عليه بمودة اكبر مما كانت تفعل، كان خداها متوردان وعيونها تلتمع بشئ ما. وجد نفسه ينظر الي الأسفل ويتحاشاها، لكنه كلما رفع عينيه وجدها تبتسم. لم تنقطع عن المجئ ، لكنه ظل يتحاشي توصيلها، ظلت تبتسم. وحين حان فراق وقتي حين ولج الجامعة كانت تبتسم . وحين يعود في العطلات كانت تجئ كعادتها وظلا يليتقيان في مناسبات كثيرة، يتحدثان ويتبادلان الكتب ويقرا لها القصائد ويهديها بعض ماكتبه من شعر فطير، امتلك شجاعة توصيلها عدة مرات، كانت تسأله عن الجامعة واجوائها وبناتها .كان يرد بحذر من يمشي في حقل الغام. طفقت تحدثه عن صداقاتها الجديدة وتتحدث بشكل مثير للاهتمام عن صديق بعينه، كان يعرف بطريقة ما انها تبحث عن شئ ما، لكنه كان يلوذ بالصمت ويحرص علي عدم الافصاح عن مكنون نفسه. ثم أخذت تتغير بشكل لافت، تقابله، تسلم بفتور ، ثم تركز اهتمامها علي كل من حولها الا هو، لكنه كان يشعر ان ذلك كله موجه اليه هو دون سواه.ثم بات يسمع من الاصدقاء المشتركين كثيرا من كلامها السلبي عنه، حديثها عن غروره، عن عدم احترامه لمشاعر الغير، عن تنكره لصداقاته القديمة وعن تنصله عن قناعاته، كان كل ما يصله يفيده انها تعمل جهدها علي اغتياله معنويا، لكنه حين يلتقيها ينتابه الشك في صحة مانقل اليه، فقد كانت هي نفسها، ود متحفظ لكنه باق وظاهر، احترام ظاهر لايخلو من جفاء الغاضب من شئ ما..... تري هل كانت تحبه؟

    بنت الفريق
    تذكرت تلك التي كانت تعبر بفريقنا نهارا في كل يوم بزيها المدرسي الأنيق، في ذلك الزمان كانت زي بنات الثانوي العام فستانا بنيا غامقا أو فاتحا أيهما شاءت واكمامه قصيرة ( نصف كم) وتكون الأكمام بيضاء في وهناك كولا بيضاء دائرية تنسدل فوق الرقبة والصدر، الشعر يكون طليقا وفي الغالب يكون بتسريحة ذيل الحصان،اتذكر انها كانت تسرح شعرها آفرو فيعطيها ألقا خاصا مع لونها(الاخدر ) بلغة السودانيين وهو تعبير دقيق لان هناك مسافة لونية تقع في المنتصف بين اللون الأسمر والأسود هي مانسميه في السودان الاخدر والخدرة الدقاقة،كانت تمشي وحدها عائدة الي بيت اسرتها في حي المزاد ويتحتم عليها ان تعبر حي 114 (حينا) في طريق عودتها من المدرسة الواقعة بحي الدرجة، كنت امارس هجرة عكسية من حي المزاد حيث تقع مدرسة فريني العامة حيث ادرس الي حي 114 حيث نسكن، فنلتقي يوميا بلا ميعاد في نقطة التقاء دائمة نصلها في نفس الوقت هي طابونة مكرنجة في نهاية 114 وبداية المزاد، كنت انظر اليها بفضول واعجاب ، اما هي فلا تلقي بالا لذلك الصبي ابو تفة ووجه عريض الذي يرتدي زي الثانوي العام المكون من رداء كاكي وقميص مثله،كانت موضة تلك الايام هي الشعر الكثيف تأثرا بموضة الهيبز التي وفدت من بلاد الغرب ، كانت السبعينات تحتضر، وكان شعري كثيفا وكنت مفتونا بالشعر وبقصص الحب الرومانسية التي تعج بها قصص جرجي زيدان التاريخية وقصة ماجدولين واستيفن للمنفلوطي و اشعار نزار التي كانت متداولة سرا مثل الممنوعات لجرأة الطرح الذي تحتويه،حسبتها ماجدولين وظننتني متيما، تبسمت في وجهها فكشرت في وجهي، همست لها بكلمات اعجاب ساذجة وهربت من وجهها،في الايام التالية تناقصت شجاعتي بفعل ازدياد التكشيرة علي وجهها وتجنبها النظر ناحيتي، ثم حدث ما جعلني اترك لها الشارع طائعا لتهنأ به وحدها، مكره اخاكم لابطل، فقد نادتني اختي الكبري ولامتني علي كوني عاكست صديقة لها، استمعت مطرقا نحو الارض الي محاضرة طويلة عن السلوك الواجب اتباعه ، لم أقل شيئا، تركت لها الشارع تماما وغيرت مساري، وحين التقينا مرة بالصدفة نظرت في وجهي بجرأة وتبسمت، اسرعت لا ألوي علي شئ وغبت عن كل مكان تعبر فيه.... كانت ولاتزال تبتسم كلما رأتني وأطرق اطراقة المقر بذنبه الكبير.

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 16-08-2014 الساعة 08:07 PM
  12.  
  13. #7
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    مسرحية البشارة

    اتذكر الان فجأة وبلا مقدمات أياما رائعة في مدرسة السني الثانوية الاعوام1980/1981/1982
    وبالتحديد اتذكر مسرحية البشارة التي فازت مدرستنا بها بالجائزة الذهبية في الدورة المدرسية علي نطاق محافظة الجزيرة ثم علي نطاق السودان في منافسات الدورة المدرسية القومية بالابيض في نهاية عام 1981 ، المسرحية من تأليف الشاعر الاستاذ محمد محي الدين والاخراج للاستاذ الفاضل / بشير عبد الرحيم الشهير ب زمبة استاذ الفنون بالمدرسة والمسؤول عن الجانب الثقافي ونجاحات عديدة للمدرسة فيه في دورات متتابعات، مسرحية البشارة كانت بطولتها لمجموعة من زملائنا بالمدرسة علي رأسهم الاخ حاتم المشهور بالعربي الذي صار تلميذا بمعهد الموسيقي فيما بعد قسم المسرح وصار مخرجا معروفا بالاذاعة والتلفزيون،وكان طالبا داخليا، وكان من نجوم المسرحية الاخ الصديق قيس حيدر الكاشف وهو قاض الان ،كان دور قيس هو فاكهة المسرحية، وكان هناك الاخ معتصم بيضاب ايضا كان له دور لاينسي وهناك آخرون سقطوا من الذاكرة، المسرحية كانت تصور صراعا يدور بين الخير والشر في قرية سودانية، كانت عملا ممتعا جمع بين قوة الموضوع وطرافة الطرح وروح المرح فيه والتشويق الشديد والديكوروالاكسسوار الذي اشتغل عليه الشهيد طه يوسف عبيد الذي كان رساما متمكنا استطاع ترجمة افكار المؤلف والمخرج الي لوحات لعبت دورا مهما في توصيل الافكار ونجاح المسرحية، وقد لايعرف الكثيرون هذه الصلة بين الشهيد طه يوسف عبيد الذي استشهد بعد عودته مع بعثة الجزيرة ظافرا بميدالية المسرح الذهبية مع مجموعة مسرحية البشارة واستشهد طه بعد اقل من اسبوع من ذلك فصدح محمد محي الدين بقصيدته الرائعة عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر مصورا فيها استشهاد الفتي وحالة الوطن المحكوم بالبندقية والهراوات آنذاك، مسرحية البشارة نفسها لم تخل من مضامين سياسية تحرض علي الثورة وتنادي بالتغيير وقد بقيت في ذاكرة ذلك الجيل بصمة ثقافية لاتنسي تجسد عبقرية الشباب السوداني الذي ارادت سلطة مايو ان تلهيه بالدورات المدرسية عن قضايا الوطن فجعل من تلك الدورات تظاهرات ثقافية ووطنية كبيرة وخالدة.
    ومضة إشراق( ذات العيون الواسعة)

    لازلت أحن الي تلك الايام البرئية، لازلت أذكر كيف تعلق قلبي بها رغم فارق السنين ، لازلت أذكر تألق عينيها الواسعتين وهي تحكي لى عن خيبتها في الحب وأنا عاجز عن الحكي لها عن تعلقي بها،لكننى كنت أعرف بطريقة ما أنها تعرف أن قلبى الصغير متعلق بها، كنت في الثانوى العام وكانت في العالي،بضع أعوام دراسية تفصل بىننا ولكن قلبى اجتاز المسافة وقفز فوق الفارق مثل لص مطارد قفز سورا طوله متران بلا أدني تردد...لازلت أذكر أسم من أوجع قلبها فقد أوجع قلبي الصغير أكثر حين أوجع قلبها....
    لازال قلبى يدق حين تلمع صورتها في الذاكرة.....
    بنت الدباغة التي غسلت قلبى ودبغته وختمت عليه بخاتمها.

    حكاية إزعاجى للسيد الكلب الضال وعذاب المصل

    ذات صباح كنت فجرا عند موقف البصات القديم بالسوق الجديد مبتغيا اللحاق بمحاضرة الصباح الأولي بمدرج حسين فهمي بالجامعة بالخرطوم كما هي العادة
    كان لمواصلات الجزيرة في ذلك الزمن بص يغادر مدني فجرا ليلحق الطلاب والموظفين من ابناء مدني الذين يأتوا لقضاء الخميس والجمعة مع ذويهم بمحاضراتهم واعمالهم، لحقت بالبص وقطعت تذكرتي واخترت موقعا مميزا عند ست الشاى الجالسة في المسافة بين مكاتب مواصلات الجزيرة بشعارها البرتقالي بالابيضومكتب المؤسسة الوطنية بشعارها الرمادي وكانت تعيش ايامها الاخيرة في تلك الايام بعد طول زهوة وسيطرة ومكانة رفيعة قضت بها علي بصات الركبي والثقة
    النيسانات التي تراجع روادها بعد ظهور بصات المؤسسة، المهم شربت الشاي وباللقيمات ونهضت متجها الي البص ، وطأت أقدامي كلبا شبه ضال كان نائما تحت البص دون أن اراه فكان نصيبي عضة قلبت برنامجي رأسا علي عقب، حيث توجهت فور وصولي الخرطوم الي مركز صحي الضو حجوج بدلا عن المدرج وبدأت رحلة موجعة مع واحد وعشرين حقنة تحتم علي أخذها كاملة لانه لم يكن ميسورا لي ان اعرف اذا كان الكلب مات أم لا، فهو مجرد كلب ضال...كنت انوم واصحو خائفا من ان انبح ذات يوم، وخائفا من احتمال اضطراري لاعادة الحقن كلها اذا تخلفت عن واحدة. كانت تجربة قاسية حقا.
    القطر يمشي في الاستاد
    من الشخصيات الجميلة في مدني والتي تشكل حكاية جديرة بالتوقف عندها شخصية القطر المذيع الداخلي لاستاد مدني، ذلك الرجل البسيط الذكي الموهوب الذي استطاع ان يصنع من مساحة صغيرة هي المساحة التي تتيحها الاذاعة الداخلية كونا كبيرا وألقا دائماً، أسمع صوته القوي وهو يجول في مدني للترويج لمباريات الدوري مطلقا القابه الفريدة علي كل فريق من فرق مدني ( الرومان...الاتحاد .... كانون الجزيرة النهضة...سيد الاتيام...ارجنتينا يا اهلينا.. الكوماندوز الدفاع....جزيرة فيل.....الافيال...)
    ثم يصدح بالالقاب الخاصة باللاعبين: الغزال الشارد عثمان الله جابو....صخرة الدفاع قاسم سنطة.......................
    القطر خلق حيوية لاحدود لها في المجتمع الرياضي ومنح مهنة المذيع الداخلي بريقا لم تعرفه قبله......
    والطريف ان القطر من انصار النيل الجميل لكن ذلك لايظهر ابدا في نشاطه المهني
    فهو واجهة لجميع الفرق ويقدمها في تعليقاته ودعايته جميعا بشكل منصف يرضي انصارها....
    هو مبدع من مدني
    حكايةالرجل العنكبوتى
    في مدني لكل شئ طعم مختلف ونكهة خاصة حتى الشر والجريمة،
    اتذكر الان ذلك الرجل صاحب الاسم المخيف (......) الذي ارتبط بالاتجار بالبنقو في مدني
    احتل حيا كاملا ، كان جزءا منه وحاكما متوجا عليه، كان حيا يتكون من فقراء يشكون الي طوب الارض قلة تعليمهم وقلة حيلتهم وهوانهم علي الناس الذين ينفرون منهم ويسمونهم بوصف يعني ضمن ما يعني حكما ابديا بالعزلة الاجتماعية
    لم نر من بينهم لاعبا نابها أو مطربا صاعدا أو تاجرا يشار اليه بالبنان، ولم نر من أولادهم من رافقنا في سنين الدراسة مع ان المدارس كانت علي مرمي حجر منهم، لم نسمع بزواج لهم ولم نسمع بمن تزوج منهم ، كانوا دائرة مغلقة تماما علي نفسها، حتي أصولهم غامضة فلايعرف لهم مثل بقية أهل المدينة أصل جغرافي أو عرقي وفدوا منه، كأن الارض إنشقت عنهم بغتة أو هبطوا من السماء، فلاهم ينتمون الي قبائل الشمال المعروفة ولاهم ينتمون الي الغرب ببطونه وقبائله الكثيرة ولاهم ينتمون الي البطانة أو الجزيرة بأصولها الكثيرة، ولاهم منتسبون الي الجزيرة العربية مثل بعض القبائل، لكنهم موجودون بالمدينة والوطن كله منذ فتحنا عيوننا، لكن الفقر اختارهم ووسمهم بميسمه وحكم عليهم بمهن شاقة تتطلب جهدا عضليا وشقاءا دائما وكلها مرتبطة بالحديد، يرسفون في اعلال من الحديد بسب الفقر والجهل المتفشي والعزلة الاجتماعية ويطوعون الحديد لاجل غيرهم نظير دراهم معدودة وثمن بخس، ربما يكون صاحبنا هو الوحيد الذي لمع من بينهم وسطع هذا السطوع في تجارة غير مشروعة، كنا اطفالا صغارا نتلمس الطريق الي المدارس خائفين حين سمغنا بمصطلحات تنتمي الي ذلك العالم مثل كلمة( الخانة) وكبرنا ونحن نسمع بقصص الرجل العنكبوتي الذي يدير شبكة تشمل كل متسول في المدينة ومتسولة ويغازل بعض رجال الشرطة الفاسدين بامواله فتكون اخباريات المداهمة عنده قبل اكتمال اتخاذ القرار فيعد عدته ويقف ساخرا من التفتيش الذي لن يسفر الا عن الخيبة، كبرت الاسطورة، وكثرت محاولات تحطيمها، وبات للرجل هالة تصنع منه زعيما محليا لمافيا لاتقتل ولاتسرق ولاترعب أحدا لكنها تدير تجارتها السوداء رغم انف الحكومة وتحيل كل مخبر الي مخبر مضاد، وراجت حكايات كثيرة تنسب للرجل نشاطا خيريا واسعا وسط أهله المنعزلين المعزولين ،وكانت تلك السيرة تجد مصداقية لها كلما قدم الرجل لمحاكمة، كانت جيوش من النساء البائسات يتجمهرن حاملات اطفالا ناحلين يبدون كالاشباح في صدورهن النحيلة، لكنهن يظلن يتابعن الجلسات يوما بعد يوم حتي تنتهي ، وكانت معظمها محاكمات طاش فيها سهم الحكومة وشرطتها وخرج الرجل ببراءة عززت أسطورته وأشاعت اليأس من امكانية النيل منه، لكن لكل أول آخر، وقعت الواقعة وضبط العنكبوتي بالثابتة، وذات صباح علق علي اعواد المشنقة في سجن مدني الكبير الذي خرج منه ظافرا مرات عديدة، خرج الرجل جثة هامدة بعد تنفيذ حكم الأعدام وانهارت امبراطورية الفقراء ولايعرف أحد من صار راس خيطهم بعده وماذا جري لاولئك النسوة التاعسات.
    الرواكيب الصغيرة (سوق النسوان)

    كان ذلك المكان مكاناً خاصاًفي طبيعته، كنت مفتونا به برغم أن الوقت الذي كنت أقضيه فيه كان دقائق وثوان عابرة فقط، لكنني كنت اتوقف دوما عند أشياء صغيرة تثير في ذهني وعقلي الطفل أسئلة كثيرة وكبيرة، كان المكان مجموعة من الرواكيب الصغيرة المصنوعة من الحطب والشوالات والبروش، كانت تلك الرواكيب تحتل ركنا قصيا في قلب مدينة ودمدني في حي الموظفين في مساحة تقع كنقطة فاصلة بين موقف الحافلات وحي الموظفين بالقرب من مباني الجوازات وأقرب الي ميز الاطباء الواقع غرب موقف الحافلات الرئيسي في سوق مدني، في تلك الرواكيب الهيمنة لنساء بعضهن شابات نسبيا وبعضهن كبيرات في السن أمتهنٌ تجارة تقليدية وهي تجارة تؤمن احتياجات النساء من الطلح والشاف والبروش والنطع والحنة والمحلبية والبخور بانواعه والمباخر والمناقد والفنادك وعدة القهوة من شرقرات(جمع شرقرق) وقدايات (جمع قداية)وفناجين واواني الجبنة نفسها المصنوعة من الألمونيوم والصفيح والفخار بما في القلايات و والجبنة نفسها والليف وغيره، وهناك روائح وعطور سودانية تصنعها النسوة باقتدار بما في ذلك الدلكة والخمرة وغير ذلك، الي جانب ذلك هناك السمن البلدي والعسل وكثير من الادوية البلدية مثل القرض والحرجل والمحريب ، وهناك القفف والهبابات وعدة الجرتق كلها وحتي هلال العريس وود الطهور المصنوع من النحاس، المهم كان سوقا فريدا عامرا بزائراته من النسوة وتاجراته ، ولم يكن يخل من العنصر الرجالي، فقد كان هناك رجال يعملون في ذلك السوق في مهمة تكسير الحطب الذي كان جزءا من بضائع السوق ويقومون بتكسير الطلح والشاف أيضا، لذلك ربطتهم بالمكان وتاجراته صلات قوية وغريبة، اتذكر احدهم كان رجلا ضخما طويلا اسنانه بارزة مصفرة وفيه شئ من التخلف، اذا ضحك اهتز المكان وارتجف من لم يسمع ضحكته من قبل، كان طفلا اذا تحدث، طيب القلب ساذجا الي حد بعيد،كان صورة مجسمة للزين كما أورده الطيب صالح في عرسه، الاخر كان قصيرا ومتحدثا لبقا وشخصية قوية آمرة، لكنهما في العمل متساويان، وفي اللقمة بعد يوم عمل طويل واثنائه شريكان دائمان، واتذكر انني شاركتهما ذات مرة الطعام الذي كان لقمة بملاح ساحن اظنه كان ملاح شرموط، كنت أجئ الي ذلك السوق مع جدتي التي كانت تزود السوق بانتاجها فقد كانت ماهرة في صناعة القفف والبروش والمصالي الصغيرة والهبابات والبروش الملونة من السعف، وكانت تشتري حاجياتها من السوق نفسه وعلي رأسها السمن البلدي. كنت أرافقها في رحلتها تلك وانتهز فرصة انشغالها بالمساومة حول ما تريد بيعه وما تريد شرائه، فاتجول في كل ركن في السوق العجيب متابعا وراصدا ومنبهرا بكل شئ....كان ذلك السوق علامة من علامات عظمة شعب السودان في ذلك الزمان، كان سوقا عفيفا لاناس عفيفين منتجين مبدعين لا يعرف الرياء اليهم سبيلا، يأكلون حلالا ويقدسون العمل ويحترمون من يعمل، ولايركضون خلف المال الحرام والكسب السريع المشبوه، كان السوق يعكس احترام المجتمع للمرأة ومكانتها فيه، فقد كانت منتجة عاملة لاتلاحقها الكشات والتهم الباطلة وسوء الظن أينما ذهبت....
    نفس ذلك السوق شهدته في الابيض في سوق ابو جهل وهو سوق نسائي بحت
    ونفس ذلك السوق شهدته في مليط في دارفور قبل الحرب
    وشهدته في الفاشر ايضا
    وجه غاب في الزحام
    (اليك في غيابك أعيد كتابة انبهاري)

    مازلت أسيرا للدهشة في حضرة هذي الروح الشفيفة
    التي تخترق روحي بقوة كالنسيم
    كالشهقة
    والزفير
    أراك بخيالي كائنا من نور نبتت له أجنحة
    لكنه لايطير
    بل يصلي في خشوع
    وكلما أطال السجود
    بكي
    فانفجرت الانهار والعيون
    صورتها:
    قبل خمسة عشر عاما
    عرفت في مدينة ما فتاة صغيرةلم تبلغ العشرين
    لكنها هائمة في ملكوت الشعر
    رقيقة كفراشة
    شفيفة كالبلور
    خفيضة الصوت كأنها تخشي ان تجرح النسيم
    تكتب شعرا يجندل من يقرأه ويشعره بالضآلة
    كانت مفتونة بكتابات خجولة كنت اكتبها
    ولم تدرك انني بت مفتونا بكل حرف خطته يدها
    كانت أنثي فريدة في كل شئ
    خفت من رقتها عليها
    ومن دموعها الكثيرة التي لم أرها بعيني ولكنني سمعتها في صوتها في هاتف كان رسولا بيننا
    وخفت من أعجابي بما تكتب
    وبما هي عليه من صدق في الكتابة
    صدق يجعلك تخاف عليها مما هي عليه في زمن فظ
    فرقتنا الدنيا
    لكنها بقيت بداخلي بصوتها الخفيض وعقلها الكبير
    وروحها الشفيفة
    في حضرة أحرفك
    انبعثت صورتها من مرقدها
    تمنيت لو انك التقيتيها.......
    لم أقو علي السؤال عنها أبدا
    فثمة شئ ما
    يخيفني من السؤال!!!

    ذكريات
    كنا صغارا جدا، ولجنا الثانوي العام للتو بمدرسة فريني الثانوية العامة بحي المزاد حين اكتشفنا فجأة اننا مهمشون ومهملون ومفتري علينا من اخوتنا الكبار في حي 114 الشهير بالكمبو وبالأخص لاعبي فريق المشعل الذي كان آنذاك ممثل الحي الوحيد في الرابطة الجنوبية للناشئين التي كانت تضم فرق تنتمي الي احياء الحلة الجديدة والكمبو والمزاد وهي الرابطة التي زودت مدني وفرقها بابرز النجوم، كان فريق المشعل مكتظا بنجوم مميزين منهم احمد حربة ومحمد كورة واليسع حاج بليل وعثمان حاج بليل والمرحوم حسن شوة وعلي مرغني وازهري وحسن علوب وبهاء الدين رومينغا وآخرين، لم يك هناك متسع لنا معهم حتي في تمارين الفريق التي كان يحضرها اهل الحي كلهم فكان نصيبنا جمع الكرات فقط أو البقاء احتياطيا لاتمام النقص في التمرين، كنا نتوق للعب ونشعر ان لدينا ما نقدمه وكان من الصعب ان نقتحم تشكيلة المشعل قريبا، فقررنا تكوين فريق جديد سميناه المجد ووجدنا مساعدة من اداريين سابقين بالمشعل منهم ازهري حبيب نسي وصلاح حسن اضافة لمجهودات اول رئيس للفريق الفاتح عبد الوهاب عبد الحفيظ واول سكرتير الاخ فهمي حسن صالح، ذهبنا الي استوديو الحرية بالسوق الجديد وتصورنا وجمعنا الصور وذهبنا الي مكتب الناشئين بمركز الشباب بود ازرق حيث اكملنا اجراءات تسجيل المجد واجتمعنا ثانية في خور يشق حي 114 قبالة منزل ناس صلاح التوم وعماد التوم ابرز مهاجمي المجد فيما بعد وقررنا ان يكون الشعار اللون الاحمر بالازرق وجمعنا نقودا قليلة واشترينا ست فنايل مصرية بها مثلث في اسفل العنق من الاكشاك الواقعة بالسوق الكبير خلف مكتبة مضوي وبذلك الست كان ظهورنا الاول في الرابطة الجنوبية، كان ظهورا مبهرا حيث توالت انتصارات فريق المجد( الاولاد الصغار الذين تمردوا علي الدكة وفاتوا الكبار) وكان نصيب المشعل هزيمة نكراء برباعية منا في أول مواجهة في دوري الرابطة جعلت لقاءاتنا اللاحقة ديربي نار ينتظره الجميع، كان يقف خلف انجازات المجد مدرب مميز هو الراحل صلاح الشاذلي حارس اهلي مدني السابق واحد ابناء منطقة نوري الذين استقروا بالكمبو مع ناس خالته عليها الرحمة حاجة زكية والدة محمد عبد الغني محمد توم واخوته عبد العظيم وبكري، كان صلاح الشاذلي تلميذا نجيبا للكوتش سعد الطيب فنقل الي المجد اسلوب لعب الاهلي وطريقة الاهلي الجميلة في تناقل الكرة برشاقة الي ما لانهاية ففتن الناس بالمجد ولقبوه ببرازيل الرابطة الجنوبية، وكان من نجوم المجد الحارس ناجي حسن محمد صالح الذي بات حارس الاهلي فيما بعد وشهرته تشتش وشخصي الضعيف ايضا في حراسة المرمي ولعبت فيما بعد بفريق الثوار وهناك لاعب الوسط الرهيب محجوب كرفون الذي لعب فيما بعد للنهضة وهناك احمودي لاعب الوسط المدافع الذي لعب بالثوار ثم النيل، وهناك صلاح التوم وصلاح قيلي نجما التضامن والمرحوم عمر الجون في الحراسة ومحمد زامبيا المهاجم الذي لعب بالرابطة والمهاجم بدر ترة مهاجم الاتحاد مدني الشهير وهناك المدافع ضياءالدين شجر الذي لعب بالاصلاح وعادل الثعلب الذي اصبح صخرة دفاع الاتحاد مدني
    وكذلك المرحوم حسون نجم الاتحاد مدني فيما بعد وشقيقه عبد ربو والمرحوم بشير الطاهر ، كانت فرقة المجد اضافة حقيقية للرابطة الجنوبية حتي انه تصدر البطولة ومثل الرابطة في بطولة الروابط وكانت له صولات وجولات، وعلي نطاق الحي تحول التنافس الحاد مع المشعل الي محبة متبادلة واحتل الفريقان نادي الحي وتقاسماه وبات النادي شعلة من النشاط الذي يرجع الفضل فيه الي شباب الفريقين ،كانت فرق الرابطة الجنوبية كلها مميزة فهناك فريق شباب المزاد والوادي المتجاوران اللذان يضمان ابناء المزاد المتاخم للحلة الجديدة وهناك فريق نجوم المزاد ومقره منطقة نادي الدفاع وهو مصنع نجوم كبيرة منها سقد والنقر وبدر حديدة وعلم والشاعر وهناك الطلائع ومقره المزاد القديم جوار مدرسة الهوارة وهناك فريق قلب الاسد الذي تخرج منه هجو وجمال نجما الاهلي مدني وهو فريق الحلة الجديدة الوحيد حتي بروز فريق السهم الذهبي الذي اسسه النور الفلاتي ذلك الرجل المحب لكرة القدم والذي كان له دور كبير في ترقية الرياضة بمدني فذلك الفريق ابرز نجوما كبيرة منها الفاضل جبريل الشهير بالفاضل ودعة او كرشو نجم الاتحاد مدني وسبب تسميته الفاضل ودعة انه كان يلعب بجزمة بيضاء من البلاستيك اشتهرت بانها ودعة لانها تشبه الودع فعلا والفاضل رجل محترم ومحبوب اينما حل شهد الناس له بطيب المعشر وانه فلتة كروية وكذلك برز الفلتة جهاد الطاهر نجم الدفاع في فريق السهم الذهبي وهناك فريق ابناء كوري ايضا وهو فريق منطقة من مناطق الشايقية بمحلية مروي. كان دوري الروابط منجما حقيقا للنجوم واتذكر من النجوم الذين لعبنا ضدهم كابتن منتصر الزاكي والمرحوم منير استيف وفيصل بوكش الذين كانوا يلعبون في فريقي الامل والجهاد بدردق وبيننا وبينهم مواجهات دائمة وكذلك جمعة نجم النيل مدني الذي كان يلعب للثغر شندي فوق وهناك ناس نجوم جبرونا وفريق اخر كان بود ازرق يسمي البحيرية ونجوم بانت وفريق الجيل السكة حديد
    ....كان زمنا باهيا زاهيا، انتقلنا منه الي دوري الثالثة في مدني وكان دوري مولع نار وله جمهوره الخاص الذي لايغشي دوري الاضواء ابدا مكتفيا بنجوم الشمس الحارة، وهو جمهور طريف جدا وصاحب نكتة، لعبت في الثوار بصحبة طارق تكل وفقيري وحجزي ونورالدين عبد المجيد وكابتن حيدر حامد وحسن الطيب وحسن ضرس وعادل عثمان وابوعبيدة محمد محمود وعمر عباس الشهير بتليس واحمودي زميلي في فريق المجد 114 ويحي المهاجم اللعاب والمرحوم محمد خير الجناج الايسر المزعج للخصوم ولعب معنا عماد عبد العزيز العمدة بعد عودته من المريخ وتولي تدريب الفريق كل من المرحوم ابوليلي والمرحوم مجد الدين سنهوري وفوزي الطيب . ساهمت في صعود الفريق الي الثانية وتوقفت عن اللعب عند ولوج الجامعة عام 1983. ولازالت تربطني علاقات طيبة باهل فريق الثوار وهم اسرة جميلة مترابطة.
    حين غنى وردى ومحمد الأمين في حفلة عرس

    كان زواج العازف عبد الرحمن عبدالله من الاستاذة عائشة حسين شقيقة دفعتنا وصديقنا خالد حسين بحي الدرجة جوار مدرسة الليثي بنات حدثا فريدا لن تنساه ذاكرة المدينة ابدا، فالعريس كان عازفا كبيرا ومهما باوركسترا الاذاعة وهو ضمن عازفي وردي ومحمد الأمين وكان له نشاط سياسي جعله يعاني الاعتقال لفترات طويلة ، كان ذلك في عهد النميري ، وكانت العروس مضطرة للانتظار فيما يبدو، وحين خرج الرجل وقررا الزواج، كان ذلك الزواج حدثا احتشد فيه الناس من كل مكان، واحتشد الفنانين والعازفين احتشادا غير مسبوق احتفاء بالعريس، كانت ليلة العرس مظاهرة ثقافية صاخبة، كان الحدث الأكبر الذي احتل ذاكرتي وذاكرة المدينة حين صعد العملاقان محمد وردي ومحمد الأمين وصدحا لأول مرة سويا برائعة وردي نور العين ، بللت الدموع العيون وصوت محمد الأمين الغليظ القوي يجاور صوت وردي صادحا بنور العين ملبسا اياها زيا جديدا لم يألفه الناس، وردي نفسه غناها كأنه يغنيها أول مرة، أما الناس فكانوا يستمعون في خشوع من يؤدي صلاة، كانت ليلة لاتنسي أبداً.

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 16-08-2014 الساعة 08:04 PM
  14.  
  15. #8
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436


    مدنى مدينة الزهور و الجمال النائم
    (1)

    فيها ولدت في أواخر خريف في حي المزاد ثم تنقلت مع أسرتى بين احياء البيان و114ومايو ، من ثم غادرتهامرغما بسبب ظروف عملي وظللت أتنقل في المدائن وذلك الجمال النائم يستوطن قلبي وحده ويحتله فلا أعرف لنفسى هوية غيرها أو حبيبة . ظلت تسكننى حتي بعد أن كففت عن سكناها . ظلت ذكرياتى وحياتى التي عشتها في أزقتها وحواريها هي المكون الرئيسي لشخصيتى وهي الوقود الدافع عندما تقبل الخطوب وتدلهم الدروب.
    ودمدني مدينة صغيرة تكاد تكون قرية كبيرة لكنها أجمل المدن بذلك الجمال الساحر الذي يستوطنها
    ليس جمال مبان أو حجارة صماء أو جمال طبيعة بكر وهو كله جمال موجود بها ،ولكن الذي يميزها حقا هو جمال قلوب اهلها،ذلك النزوع الخلاق نحو التلاقح والتواصل تلك الروح الملهمة والمبدعة لشعبها المحب الذي خرج من صلبه الشعراءوالمطربين ونجوم الساحرة المستديرة والعلماء والرسامين والكتاب والنقاد والمسرحيين والأعلاميين..
    ..الطفولة في مدني لوحة بهية يحتل الخريف وبروقه ورعوده وامطاره الكثيرة والفراش الملون القسم الاكبرفيها،طفولتى كانت لوحة رائعة
    تعالوا وتجولوا معى فيها.
    حي( 114) الساحروآمنة بنت وهب الجميلة
    عشت وأسرتى سنوات عزيزة من العمر بحي 114 او الكمبو كما يحلو لقاطنيه تسميته وهو حى يقع في القسم الجنوبي من مدني الذي يضم احياء المزاد وشندي فوق والبحوث والحلة الجديدة و114والدرجة الاولي والثانية والسكة حديد ومن معالم هذا الجزء هيئة البحوث الزراعيةوالنادي الاهلي والسوق الجديد والقسم الجنوبي وميدان الاهلي وميدان الدفاع وهوميدان الرابطة الجنوبية اقوي روابط الناشئين بمدني وميدان التضامن وميدان الشهداءوسوق المزاد وسوق الدرجةوالادارة المركزية للكهرباء والمياه ومحطة السكة حديدوالمؤسسة الفرعية للحفريات وورشتها الضخمة ومجموعة ضخمة من المدارس الابتدائيةوالثانوية العامة والعليا ابرزها مدرستي السني ومدني الثانوية العليا بنين ومدني الثانوية بنات وشدو العامةبنين والليثي العامة بنات والجزيرة ابوبكر وغيرها .يقع حي 114 في الوسط بين الحلة الجديدة والدرجة وتفصله محطة السكة حديد عن الجزء الشمالي من المدينة ويقع استاد مدني قريبا منه حيث يسمع السكان هدير الانصار داخل البيوت في المباريات الكبيرة بين الاهلي والاتحاد والاهلي والنيل.وهناك عدة روايات حول سبب التسمية فمن قائل ان البيوت عددها 114 واخر يقول انه يقع في الكيلو 114 من مشروع الجزيرة ومن قائل انه سمي تيمنا بعدد سور القرآن ولكن اقوي الروايات هي الخاصة بالكيلو 114 . جاءت امي الي مدني عروسا صغيرة مخضبةالايدي بالحنة من ابوهشيم حاضرة الرباطاب الصغيرة واستقرت الاسرة في البدء بحي المزاد حيث ولدت ثم انتقلت فيه نفسه الي منزل اخر ومن ثم انتقلت الي حي البيان بالقرب من محطة تلفزيون الجزيرة التي شيدبرجها في مطلع السبعينات وكناشهودا لذلك الانشاء من بيتنا في حي البان ومن ذلك البيت انتقلنا ذات خريف الي حي 114 الذي اقمنا فيه سبعة عشر عاما بالتمام والكمال منذ يوليو 1973 حتي العام 1990 الذي انتقلنا فيه الي اول منزل مملوك للاسرة في حي مايو مع انطلاقة منافسات كأس العالم 1990الذي شاهدناه في ذلك المنزل الفسيح. كانت ايامنا في 114 أحلي ايام حياتنا وكانت امي(آمنة بنت وهب) أمية لكنها ذات لسان عربي فصيح ينظم الكلمات شعرا كما يحتسي المرء كوبا من الماءبلا تفكير مسبق، كانت جميلة الملامح بشلوخ عريضة ووجه مكتسي بصفرة بلون الذهب اللامع وأناقة بسيطة لا ادري من اين جاءت بها وهي التي لم تر قبل ودمدني سوي ابوهشيم الغارقة في الظلام ولكنها أناقة الروح التي تطغي وتختم الوجه والشخصيةبطابعها، كنا اسرة محدودة الموارد كبيرة العدد وكان ابي عاملا صغيرا مكافحا ووحيدافقد عرف اليتم باكرا حين رحل ابوه وهو في العاشرة وترك له أما واخوات يتمسكن به تمسك الغريق بقشة فعرف العمل صغيرا واكتفي من التعليم بأوله وفك الخط والقراءة فقط وصار مراكبيا ينقل الناس بين الضفتين في ابو هشيم بمركب دوم صغيرة من ثم عرف الهجرةحتي اقصي الشرق طلبا للرزق فبلغ تسني في بلاد الحبشة مزارعا وعاملا ثم استقر به المطاف بارض الجزيرة اخيرا عاملا بالمؤسسة الفرعية للحفريات متدرجا من اسفل السلم طلبةحتي بات سائقا لكراكة يعمل علي ظهرها سحابة النهار في اراض بكر شقا للترع والقنواتالخاصة بما عرف آنذاك بمشاريع التنمية في كل بقاع الوطن الكبير: الرهد ، كنانة، ابونعامة، الكناف، مشاريع الشمالية، خشم القربة، امتداد المناقل، الجنيد......الخ.لذلك كان أبى غائبا أغلب وقته في طلب الرزق وكانت أمى كغيرها من نساء ذلك الحي الفريدمطلوبا منها القيام بدور الأب والأم معاًفي زمن لم تكن الحياة فيه سهلة ميسورة. كان الرغيف كسرة تعاس مرتين في اليوم علي الاقل وكانت النار توقد بالحطب والفحم وليس الغاز وكانت القراصة والفطير اشياء ثابتة في مائدة البيوت صباحا ومساء، ومع ذلك كانت أمي سعيدة وكانت السعادة تتقافز من بيتنا الصغير الي الشوارع كاللبلاب وكانت أمي وسط تلك البهجة اشهي وجبة حب ومحبة نتقاسمها ذكورا وإناثا في ذلك البيت الصغيرذي الغرفتين المسقوفتين بالزنك وتميزها شبابيك مغطاة بالنملي ومطلة علي الشارع .عشنا في حي نادر بتركيبته الاجتماعية الفريدة فجميع السكان هم اسر عمال ينتمون لوزارة الري ومؤسساتهاولهم ذات قصة الهجرة والكفاح والرحيل الي البعيد والغياب القسري عن الاسرة. وكان الحي عبارة عن سودان مصغر تجد فيه الشايقية حديثي القدوم من منابعهم الاصلية بلهجتهم المسكونة بالحنين والمحنة والرافضة للانحناء امام سطوةالمدن الثقافية وتجد فيه القادمين من أقصي جبال النوبة بسحنتهم الافريقية وانفتاحهم الجميل علي الاخرين وعشقهم للالوان الجريئة وتجد فيه الدناقلة برطانتهم الغامضةوطيبتهم الظاهرة واشجار النخيل والليمون التي تتبعهم اينما حلوا وتجد الجعليين وبخاصة القادمين من جهات الدامر الذين تتبعهم أينما حلوا أشجار الحنة الخضراء التي انتشرت بفضلهم في كل الحي وصارت علامة مميزة له حيث تجد في كل بيت صفا من أشجار الحنة، وتجدفيه الرباطاب وجوالات البلح الحاضرة في كل عام بعد الحصاد وهي ميزة كل القادمين من الشمال لكن الرباطاب تميزوا بذلك البلح اللذيذ(المشرق) او العجوة عند اهل الصعيدوتميزوا بصنعة السعف الذي يأتي البيوت أبيضاً جافاً يكاد يتكسر فيخرج منها علي أيدي النسوة المبدعات قففا وبروشا وسجاجيد صلاة(مصلايات) جميلة طيعة لينة تغزو سوق المدينة وتعود بالنقود علي الصانعات وكانت تلك هي حرفة الحبوبات القادمة معهن من هنالك حيث الجذور وهي سلاح لمحاربة الاعتماد علي الاخرين ووسيلة لحفظ الكبرياء وكسب الرزق ومناسبة للونسة حول فناجين الجبنة والتسامر سمرا يبدد وحشة النهار ويستعدن به جزءا من معالم قيزان رملية وقري وادعة تركنها وراءهن وجئن لاجل الاولاد والبنات المهاجرين الي الصعيدأي المدن. كنت محظوظا اذ كانت لدي جدتين مجيدتين لهذه الحرفة ولفن الحكي او الحجا( من حجوة: اي قصة) وقرض الشعر طازجا كالحليب فأحالتا طفولتي( في ذلك البيت الصغير الذي لم تدخله لمبة نايلون الا حين صرت كبيرا) الي وهج مضئ من الحكايات ترن بأذني كلما دنت ساعة النوم وتستدرجني بعيدا الي فضاءات ساحرة، واتذكرنسج( بت الحاج) حبوبتى الجميل للسعف وابتسامتها التي يغور معها خدها النحيل الي الداخل وتلتمع عيونها الصغيرة داخل النظارة ذات العدسات الكبيرة والاطار الأسود... كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء عملها كي ارافقها الي رحلة كانت تكريني(أي ترشوني) بالنقود كي ارافقها فيها منتظرا بيع البضاعة بسوق السعافة لأنال حظي من نقود لامعات يذبن سريعاويغبن في جوف الدكاكين كما تذوب تلك الحلوي التي اشتريها بهن في فمي ويجئني صوت بت الحاج ليلا ممثلا
    هدهدة جميلة

    النوم ... النوم.. النوم .. بكريك بالدوم
    النوم النوم : النوم تعال
    النوم تعال سكت الجهال
    واشعر أننى اتأرجح فوق مهد مصنوع من الأزهار وثمة اياد رقيقة تهدهدني حتي انام مثل ذلك الطفل الذى القت به أمه في اليم خوفا عليه من ملك ظالم يقتل الصغار. كانت بت الحاج جدتي لأمي ضئيلة الجسم لونها أقرب الى السواد وكانت بت خادم الله جدتي لأبي وكانت الأخيرة طويلةكنخلة بيضاء اللون فضية الشعرجميلة الوجه رغم انها ضريرة الا انها كانت قادرة علي انبات اجنحة من الخيال جعلتني أحلق بها عاليا خارج حدود الغرفة الصغيرة ومجلسي عند قدميها وأمسى فارساً علي ظهر جواد طائر فوق الغابات والأشجار مردفا فاطمةالجميلة خلف ظهره.كانت أمي مليكة متوجة علي جلسات الأنس البرئيةحول الجبنة بضحكتها الخافتةالوقورة وابتسامتها المضئية ومحبتها الظاهرة للناس اهتماما واحتفاءا بهم وسؤالاوتفقدا لهم عند الغياب وكانت محبة لبيتها ولصاحب البيت الغائب غصبا عنه وكانت ايامه القليلة التي يقضيها بيننا اول كل شهر عيدا لها ولنا ينتهي سريعا بعد ان يحمل ابي ادوات اغترابه الذي يدوم حتي نهاية الشهر وكانت ادواته لحما مجففا(شرموط) وباميةجافة مسحونة(ويكة) ودقيق ذرةلصناعة الكسرة وسكرا وزيتا وشايا وسعوطا يعكف علي اعداده بنفسه فحيث يذهب لايوجد صعوط.كان الخبثاء يسمون اولاد 114( اولاد الرفاهية) والرفاهية المقصود بها تلك الايام القلائل اول كل شهر التي يأتي فيها الغائبون الياسرهم بالنقود ومؤونة الشهر ويذللوا خلالها المشاكل الاخري بما في ذلك حلاقة رؤوسالاولاد وخياطة الملابس الجديدة وشراء الاحتياجات المدرسية.كانت الامهات في ذلك الحي وذلك الزمان يتحملن مسؤولية ادارة شؤون الاسر حتي عودة الاباء ويقمن باعباءيومية كثيرة، وكنت اراقب أمي وهي تعمل بهمة في تكسير حطب العواسة بالفأس واراها وهي تقطع اللحم وتورق (الخدرة) وتبدأ في فرمها بالفرامة علي صينية الالمونيوم حتي تصيرعجينةخضراء صغيرة وهي تنشد في مدح الرسول بصوت خافت وتمازحني بمحبة بالاسم الاثيرلديها( ابو الصلح) وأراها عصرا وهي تكنس الحوش كل يوم وتنظفه بدقة وترش الماء علي( الفرناغة
    اي المكان الذي به تراب قد يثير غبارا.كنت أشفق عليها من اعبائها الكثيرة فأتقدم وآخذالفأس منها لكي اكسر الحطب وتنهال ضرباتي علي الارض فتشوهها ولاتنال من الحطب شئيافتضحك أمي وتأخذ الفأس مني وتباشر العمل بنفسها وتطلب منى التركيز في القراءة بلهجةودودة لاسخرية ولاتضجر فيها. ثم تهئ مجلس القهوة وتأخذ زينتها كعادتها فهي تكن دوماً في احسن صورة وبلا تكلف سواء كانت خارجة ام بالبيت.عاشت عمرها كله متدثرة بالمحبةوداعية لها واتذكر الان رحلة الحج الاخيرة قبل رحيلها باقل من الشهرين وتلك الدهشةالمرتسمة علي وجهها وهي تنظر الي الطائفين بالكعبة من عل وقولها بصوت مخنوق باك: (قادر الله... قادر الله.. دي كلها أمة سيدنا محمد؟قادر الله) ثم سالت دموع صامتةعلي خدها واخذت في الدعاء والتضرع مترحمة بدءا علي امها ومتحسرة علي انها لم تقف مثلها هذا الموقف وذهبت دون ان تبل شوقها لزيارة الكعبة والمدينة المنورة. كان ذلك في نهاية العام 2004 وفي اول 2005 عدنا وفي الرابع عشر من مارس 2005 رحلت آمنة بنت وهب في امدرمان في صمت عن دنيانا بعيدا عن مدني الاثيرة لديها وكنت انا بعيدا عنها اذ شاءت الاقدار ان افارقها مساء الثلاثاء في ليلة اجتمع فيها شملنا بعد غياب طويل كنا حاضرين جميعا بمنزل محمد اخي الاكبر حتي احمد الذي غاب في ابوظبي منذ الثمانينات كان حاضرا هو واسرته وكنت حاضرا وكانت اخواتي حاضرات جميعهن بمعية الاحفاد الذين ملأوا البيت ضجيجا وكان ابي حاضرا كان الغائب الوحيد اخي عماد المقيم بالسعودية.. كانت جالسة في المنتصف ترنو بشرود الينا جميعا وكأن افقا بعيدا ترآئ لها فكانت صامتة علي غير العادة ومتعبة. ودعتها واستأذنتها ان يكون وداعي من هنا لانني لن اتمكن من الحضور اليها قبل سفري بعد الغد ولم اكن ادري انه الوداع الاخير. سافرت بالخميس الي الفاشر لعمل وجاءني نعيها فجر الاحد كالصاعقة. وغابت أمنة الجميلة وبقيت روحها الملهمة تمشي في الارض بين الاحياء
    وجه من ذاكرة المدينة
    (مكى شقى) بانى البيوت والأرواح
    كان طويل القامة افريقي الملامح وكان من عجائب مدني الكثيرة يعمل بناءا ماهرا نهارا ويعمل مساء فنانا مغنيا له لونية خاصة محببة جلها اغنيات الفنان رمضان زايد التي يجيدها ويؤديها بطريقة مميزة ورائعة جعلت حفلاته ناجحة وجاذبة وجمهوره ضخما وكان ككل ئ في مدني عبر ازمنتها المختلفة موضوعا تنسج حوله اطنانا من الحكايات الصحيحة والمضاف اليها من خيال ]الرواة واشتهر بلقب الشقي فصار اسمه لايأتي الا مقرونا باللقب بلا الف ولام التعريف حتي صار معروفا في المدينة ب( مكي شقي) وهو لقب ربما يرجع الي اغنية شهيرة يردد فيها كلمة (شقا... شقا) باستمرار.صار صاحبنا معلما بارزا من معالم مدني صدح في لياليها وبات جزءا من السيرة الذاتية لكثير ممن غني لهم في ليلة العمر النفيسة في زمن كان عنوانه( مازال الليل طفلا يحبو)و(وحفلنا مستمر حتي الصباح) وكانت الحسناوات يثرن بالارض نقعا وهن يتمايلن في الساحة كسرب من الطيور الجميلة وهي تنفض ريشها بسعادة عند مورد ماء، وكان صاحبنا يمسح جبهته العريضة بمنديل ملون ويتثني برشاقة مع الموسيقي بالرغم من ضخامته ويستمر الحفل حتي شروق الشمس وفي الظهيرة يعود الفنان اكبر اسطي تعرفه المدينة فنانا من لون اخر من الفنون، كان يبني البيوت نهارا ويبني النفوس ليلا. أي نهر من الابداع والجمال والبساطة والتصالح مع الذات كان يستوطن تلك الروح الشفيفة؟
    دار الزمان دورة اخري وصمت المغني ولم يعد مرغوبا فيه ولم تعد حفلات مدني تستمر حتي الصباح وباتت الحسناوات مسمرة اقدامهن وهن مسمرات بالكراسي وحين تتحرك الاقدام بعفوية مع الموسيقي يتذكرن القيود الجديدة فتتسمر الاقدام بالارض ويغني المغنون والناس يتثاءبون وهم يلتهمون الساندويتشات المقسطرة وينظرون بخبث نحو الراقصين الذين مازال فيهم شئ من زمن مات مغنوه كمدا؟؟؟؟؟
    تري اين انت الان يا مكي شقي الشقي؟ هل لديك بيت يأويك في تلك المدينة التي بنيت فيها البيوت التي تأوي الناس وبنيت فيها البيوت بالغناء في حفلات اسر جديدة ولدت علي صوتك؟
    هل لديك بيت يأوي كهولتك وقد انفقت شبابك في بناء البيوت والقلوب وصناعة افراح البسطاء في مدني في ذلك الزمن الذهبي الجميل؟

    أميرة الثقافة
    في مدني كنا نبدأ يومنا بالاناشيد المدرسية
    ونهارا نتصفح الصحف
    وعصرا نلعب الكرة بلا كلل
    ومساء نرتاح عند اقدام الجدة ونحلق مع حجاويها
    ويوم الجمعة ننتظر ركن الاطفال الذي يقدمه عمكم مختار
    ثم نذهب لنشتري سوبرمان او المغامرين الخمسة او سمير او ميكي من المكتبة او الباعة الذين يفترشوا الارض عند حديقة سليمان وقيع الله
    وفي باقي الاسبوع نتبادل المجلات والكتب مع الاصدقاء
    باختصار
    كنا في مدينة تحرض علنا علي امتلاك ناصية المعارف والثقافة
    كيف لا وهي اميرة الثقافة
    رماد الذاكرة
    كنت صغيرا .. عند اعتاب الثانوية العامة... مفتونا بالقراءة والاشعار... لازال عودي طريا ولازلت في مرحلة اكتشاف الاشياء...كانت المعارض المدرسية مسألة رائجة في مدينتنا في ذلك الزمن الجميل...كان المعرض نشاطا ثقافيا واجتماعيا يبرز فيه الطلاب مقدراتهم ومواهبهم ويأتي المعلمون والطلاب واولياء الامور لمشاهدة ابداعات الطلاب وتشجيعهم باختصار كانت المعارض بروفات ساخنة للتحديات القادمة التي تقابل الطلاب في الحياة... واتذكر ان معارض مدارس البنات كانت تشتمل علي عرض منتجات الطالبات من عمليات التطريز وغيرها ...في معرض لمدرسة عبد الستار الثانوية العامة التقينا... براءة وفضول وعيون واسعة وثقة بالنفس ... ذلك ما جذبني... كان الرداء المدرسي مفتونا بها ويأبي ان يفارق قوامها الجميل.
    في المعرض التقينا .... كانت لغة العيون طريقنا الي التعارف.... ذلك الفضول شدني بالف خيط الي تلك العيون....اتذكر الان ان شعري كان غزيرا كموضة تلك الايام واسودا صافيا لم تسرح فيه أي شعيرات بيضاء... كنا براءة تمشي علي الارض... تعارفنا وتوقفت طويلا وهي تمارس عملها المرسوم في المعرض وتشرح لي ولغيري بثقة ظاهرة بالنفس...اتذكر انها قدمت لي قطعة حلوي في لحظة خف فيها الزوار ولم يبق سوي بعض زميلاتها وبعض رفاقي الذين كانوا يرقبون في فضول حوارنا المتقطع المثير.... كانت امالا لمعت واحتلت اياما وشهورا عديدة في حياتي ... كانت تبدو دوما اكبر مني وتبدو كمن يدرك ان احلامي مستحيلة لكنها لم تقلها ابدا ... ثم دارت الحياة دورة تباعدت اللقاءات ...ثم غابت في الزحام وسقطت من جدار الذاكرة...ظلت تومض بين الحين والاخر كلما جاءت سيرة اخيها الذي كان لاعب كرة شهير...ثم غابت وتلاشي ذلك البريق الذي يحيط بالذكري وحلت محله ابتسامة رجل كبير يتذكر اوهام طفولة باكرة...

    وغابت في رماد الذاكرة وغابت الامال التي احتلت جدار القلب كشهاب ومض سريعا وانطفأ
    الأصدقاء شهب جميلة في حياتي
    كنا ثلة من الاصدقاء.... جمعتنا اشياء.... كنا اشتاتا .... خليطا متنافرا... احياؤنا مختلفة... اعمارنا متقاربة لكنها مختلفة... مدارسنا مختلفة.... اهتماماتنا مختلفة... خالد كان مفتونابالعلوم فتنة مبكرة جعلت منه فيما بعد طبيبا متميزا واخذته منا الي بلاد تموت من البرد حيتانها.... خالد الاخر كان رساما مهووسا بالرسم..
    مجدي كان مفتونا بالشعر والشعراء وسيرة العظماء....عصام كان مهووسا بالسياسة والسينما واخبار الغرام....الطيب كان محبا للسينما الهندية والغناء الهندي والتمباك والدور الثاني في السينما...انا كنت محبا لكرة القدم والشجار وقراءة الالغاز والصداقة والاصدقاء... عبد الحميد كان سوسة كتب يقرأ الكتاب في اي وقت واي مكان ....وجدتني متوزعا بينهم : مع خالد استمع للاخبار العلمية واحاول مجاراة صديقي وملاحقة عبقريته الفريدة:: مع مجدي كنت احفظ القصيدة واتبادل الدوواين والمعلومات والمقالات واكتب شعرا امزقه وشعرا اقرأه علي استحياء ...ومع عصام كنت اقضي الساعات الطوال امام الفيديو نشاهد الافلام والمسرحيات واغاني مارسيل ....وكنت اتزود منه بالمنشورات والقصائد المخيفة التي نتبادلها كالممنوعات...
    كنا نسهر حتي الصباح نتحدث عن مفهوم من مفاهيم الحب والغرام...كم كانت افكارنا الخطيرة حينها ساذجة ومضحكة بمقاييس اليوم....اما الطيب فقد قادني نحو السينما الهندية وقصصها الرومانسية وببطلها الذي ينتصر دائما علي الاشرار ..علمني الطيب اسماء نجوم الشاشة الهندية وكنت احاول مجاراته وهو يغني مع دهرمندرا وشاشي كابور... كان يحفظ احداث الفيلم كما يحفظ الشاعر قصيدته الاثيرة...حتي اننا كنا نشترط عليه الايبوح باي حدث حتي لايفسد متعة المشاهدة البكر علينا...كنت اذهب وحيدا نحو عالم الكرة عالم اولاد الفريق الذين لايعرفون من تلك العوالم الاخري الا السينما الهندية.... الغريب انني كنت استحي من ذكر سيرة نشاطي الكروي في حضرة اصحابي المثقفين....دارت الايام ... وجدت كل صديق زرع في داخلي من روحه شئيا ما....

    بشير الطاهرالغياب الموجع
    بشير الطاهر خيرالله وجه من وجوه ودمدني .. طويلا كنخلة رقيقا وباسما طفولي الملامح.. ينتمي الي اسرة الطاهر خيرالله بحي المزاد بمدني وهي اسرة خرجت افذاذا من الرياضيين لمدينة مدني ابرزهم اخواه طارق الشهير بطارق مسلاتي الذي لعب بفريق الدفاع مدني وانضم للفريق القومي ونادي المريخ في الثمانينات والاخر جهادكان لاعبا مميزا بفريق الدفاع، برز بشير منذ الطفولة كلاعب مميز وكان من ابرز نجوم فريق المجد 114 بالرابطة الجنوبية اقوي راوبط الناشئين بمدني وصال وجال وبذ اقرانه وسطع وكان ينتظره مستقبل واعد لكنه كان مسكونا بعشق من نوع اخر فقد كان الفتي الابنوسي الطويل القامة عاشقا للبزة العسكرية مسكونا بحب الوطن وكان ابرز من بفرقة الكديت بمدرسة السني الثانوية من الطلاب وتخرج منها في العام 1983 ليذهب مباشرة الي الكلية الحربية مصنع الرجال ليتخرج منها ضابطا متميزا تنبأ له الجميع بمستقبل باهر وترك الفتي كل احلامه قبل الكلية وراء ظهره.، كانت حرب الجنوب مشتعلة وتشهد اقسي واسوأ فصولها حين غادر الفتي الي ارض العمليات الملتهبة.. كانت ودمدني تزف عريسها الجميل الي احراش الجنوب وهي تستحلف الغابة والشجر والعصافير ان تكون رحيمة بفلذة كبدها واجمل السهام في كنانتها... كن حي 114 وحي المزاد وميدان الرابطة الجنوبية جميعها شاحبة حزينة تبكي فراق بطلها وابن سرحتها الذي ياطالما صفق له المشاهدين وهو يشق الصفوف كفارس من فرسان العصور القديمة والكل يتراجع امامه كما تتراجع الاسماك الصغيرة امام موجة عاتية..... صرخت الغابة وشهقت من جمال البدر الذي حط رحاله في قلبها فردت كفيها ودثرته ورفضت اطلاق سراحه من اسرها ....... ظلت الاخبار غامضة ... لم يعرف مصير الفتي الابنوسي فارع الطول... ظلت الكلمات عديمة المعاني للقلوب التي تعاني لوعة الغياب المر هي رد غير كاف : تارة مفقود وتارة اسير........ بكت المدينة وتدثرت بالاسود وصمتت الافراح في حي 114 ردحا من الزمن ... تعلقنا بالامل الشاحب وسألنا عنه القمر والنجوم واميرات الاحلام وذكريات الطفولة والصبا ما بيننا وبينه...... لكنه استعصم بالبعد عنا ونأي... عاد العائدون وجاء السلام مبتورا وناقصا حين لم يأت عن بشير الطاهر بخبر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟كنا رفاقا في فريق المجد تقاسمنا الافراح والاحزان وزدنا عن شعارنا الصغير كانه كان يتهيأ للزود عن شعار اكبر في ميدان اخطر لا تحسم المعركة فيه صافرة حكم ونعود سالمين الي الاهل....
    الرحمة لبشيرالطاهر بقدر ما اعطي في عمره القصير للاخرين من فرح ومن عطاء بلا من ولا اذي ونسأل الله ان يتقبله شهيدا وينزله مقام الصديقين والشهداء
    وجه
    ثغر باسم وعينان تتلامع البروق فيهما... وجه طفولي ممتلئ براءة ووداعة
    انثي تتوقف عندها كل القطارات حتي التي انهكها سفر طويل وباتت قاب قوسين او ادني من التقاعد،
    كانت لاتزال طفلة ترتدي زي الثانوي العام وتمارس الاكتشاف للاشياء حين زوجوها
    وكانت لاتزال دون العشرين حين باتت أما لطفلين واأمرأة وحيدة مهجورة تنتظر عودة زوج استعصم بالاغتراب البعيد وعاش حياته بالطول والعرض مدمنا وسكيرا ولا مباليا بما خلفه ورائه...ظلت الوردة مستعصمة ببيت ابيها واخوتها تطاردها النظرات المشفقة والجائعة اينما حلت... ثم اكتملت الفصول بالحصول علي طلاق كان واقعا يحتاج شهادة مكتوبة من محمكة تؤكده...ظلت العصفورة بسمتها الانيق والبرئ موضع الاحترام... تركتها في مدني تمشي بين الناس ملاكا جميلا يجسد ظلم الحياة لبعض الناس.... هو وجه غاب في الزحام لكنه بقي في الاعماق يستنطق الخير والجمال

    ( رجل نادر المثال)
    ابي رجل نادر المثال
    ابي عامل اتي صغيرا من اقصي الشمال الي قلب الجزيرة
    كان يتيما رحل ابوه وهو في العاشرة وتركه رجلا صغيرا وحيدا وسط اخوات يتشبسن به كغريق يتشبث بقشة هي كل مايملك من احتمالات النجاة،عمل الصغير علي مركب دوم ينقل الناس بين الضفتين وعمل مزارعا وجاهد حتي اصبح عاملا في بلاد بعيدة
    تحمل مسؤولياته ببسالة وكون حياة رائعة واسرة صغيرة كانت تقتات من عمل ينام صاحبه في الخلاء فوق كراكة شقت ترعا وقنوات واحالت اليباس خضرة في كنانة والرهد وابي نعامة والكناف والجنيد وعسلاية وامتداد المناقل والشمالية... بدأ طلبة وزياتا وبات سائقا ماهرا ومن ثم رئيس سواقين واخيرا مهندسا جربنديا(اي بالخبرة العملية)
    عشنا في بيوت صغيرة لكنها ممتلئة بالدفء والمحبة واللقمة الطيبة ونعمنا بدفء جدة لاب وجدة لام وكان قدرنا ان لانري اجدادنا فقد كان جدنا لامنا هو الاخر قد رحل باكرا قبل ان نري النور... عشنا رحلة الشتاء والصيف في التنقل في كل عطلة من مدني الي ابوهشيم وبالعكس.. فقد كان ابي حريصا علي ان نعرف من اين جئنا ومن اين جاء ...كنا خمسة اولاد ذكور محمد واحمد وصلاح وعماد وعبد العظيم وثلاث بنات رائعات...كانت امي عليها رحمة الله زينة البيت وحاكمته العادلة التي تصطلي بنار الدوكة( الصاج) صباح مساء لتطعمنا الكسرة والفطيروالقراصة .. كان البيت الصغير قصرا نظيفا انيقا مرتبا برغم الضجيج وبعض فوضي الذكور.. كنا ننتظر الثلاث ايام في اخر الشهر التي يأتي فيها ابي من الخلا كما ينتظر الناس العيد نتعلق برقبته ويلاعبنا يجلجل صوته القوي في الدار فنشعر بالفخر والامان نشكو اليه جور اخوتنا الكبار ونتقدم بقائمة طلبات كثيرة صغيرة تجد حظها من الاجابةاو التنظيم في جدول الاولويات ونجد ابتسامة محبة وتشجيعا علي التعلم... ننتظر الرحلة الي الحلاق وغشوة الحلواني والنقود المعدنيات اللامعات والركض الي الدكاكين ،ومشوار الرغيف والطاحونة ... كان اول الشهر مميزا حتي بفاكهته ولحم الضأن الذي كان اثيرا لدي الناس في ذلك الزمن... كان ابي ساحرا بلا طاقية... كنت انظر اليه وهو ياتي ويذهب ويرتق ثيابه بنفسه في اوقات فراغه القليلة وهو يقص اشجار الحنة حين تطول بصبر وهو يكسر حطب العواسة قطعا صغيرة حتي يهون مهمة امي في الغياب كنت اشعر بانني انتمي الي هذا الرجل العظيم وتلك المراة الباسلة اكثر من انتمايئ الي اي شئ اخر في الوجود ... من ذلك البيت المعروش بالمحبة والعطاء خرج طبيب بارع تخرج بكلية الطب جامعة الخرطوم وعمل بالسلاح الطبي حتي رتبة اللواء غرس في كل شبر شجرة محبة استلمها من ابيه سرالختم علي كرم الله الرجل العصامي برتبة فارس الكريم برتبة المشير المحب برتبة لم تعلق كتف رجل الباسل بدرجة نكران الذات.

    حملة انتقامية مضحكة
    كان يوما لا ينسي ابدا، كانوا اصدقائي واندادي واولاد فريقي بمعناه الضيق فريق كرة القدم ومعناه الواسع الحي وكانت بيننا وشائج صداقة وذكريات لكنهم في ذلك اليوم كانوا متأمرين جميعا[علي... كان ثمة خلاف صغير لكنهم اضمروا شرا فاتفقوا علي استدراجي الي السينما الدور التاني ومن ثم تصفية الحساب بعد السينما في طريق العودة احدهم سمع بالمؤامرة ولم تعجبه فأسر في أذني بنواياهم الشريرة وكان لدي الخيار في عدم الذهاب لكنني اصررت علي الذهاب قلت لنفسي (علقة تفوت ولا عار هروب يبقي) ، قبلت الدعوة وذهبت وحيدا وسط اصدقائي المتأمرين الصغار، دخلنا السينما وشاهدنا الفيلم وعدنا سويا والصمت والخطوات المثاقلة والنظرات ذات المغزي رفيقنا... حين قطعنا السكة حديد واصبحنا في مكان خال من المارة تقدمتهم وواجهتهم بتحد وصلف وقلت: انا اعرف ما تدبرون ولكنني لست جبانا وانتم لستم رجالا الرجل لايستدرج ولايغدر ... قد تقدرون علي لكنني سأخذ تاري...عم الصمت .. استفزتهم العبارات قال احدهم انا متفرج فقط ومن له حساب فليأخذه.
    قال ثالث انا معه من يمسه مسني وقال ثالث انا وحدي بكفيك وما داير مساعدة وقال اخر...وقال اخر... وكان شجار جماعي تحول فيه بعض المتآمرين حجازين محايدين...
    نلت من خصومي ونالوا مني اكثر مما نلت... وعدت الي البيت ممزق الملابس ولكن مرفوع الرأس وبعد ذلك جهزت سيخة مجلدة بسيور البلاستيك وصرت اصطادهم واحدا واحدا صباحا وهم في الطريق الي سوق الخضار وهي رحلة اجبارية لنا جميعا كل صباح...........
    ولم تتوقف حربي الانتقامية الا بصلح عريض عدنا بعده اخوانا وصارت حملتي الانتقامية ذكري مضحكة

    ( زهرة عند معبد ابي سنبل)
    كان اسمها ازدهاروكانت أسما علي مسمي بملامحها الطفولية الرائعة، كانت براءة تمشي علي قدمين وخفة روح نادرة ابتسامة دائمة حيوية تفوق سني عمرها القليلة...طالبة بالمدرسة الثانوية لما تزال...
    كان القدر يختبئ في طيات رحلة مدرسية الي خارج الحدود عن طريق النهر.. رحلة تبدأ من مدني بالبص الي الخرطوم ومن ثم بالقطار الي حلفا ومن ثم بالباخرة الي اسوان... كانت سعيدة برحلة لم نكن ندري انها الاخيرة... كانت حريصة علي ان تودع الجميع وكأن ستارة القدر قد انزاحت امام ناظريها ...ثم جاءت اخبار الباخرة عشرة رمضان كالصاعقة... تناقلت الصحف النبأ الاليم ونعت الزهرات الجميلات التي اخذها النهر الغادر وكانه كان ينتظر هذا الحشد الجميل ليختطف منهن عروساته بأثر رجعي.. تركت ازدهار صورتها الجميلة في قلوب الكل ولم تعد ابدا ... بقيت بيدي سطور قليلة كتبت فيها وداعا لصديق لم تقابله قبل السفرسطور لم تحتو علي وعد باللقاء... بقيت الورقة الصغيرة حاضرة معي بضع سنين ثم ضاعت في زحام الحياة وبقي وجه صاحبتها حيا لايموت

    (انتصار) الملاك الذي عاد من حيث جاء|)

    كنت احدثكم عن امي... عن رحلتها من الريف الي المدينة وعن كفاحها لتربيتنا في ظل الغياب الجبري لابي عن الدار بسبب طبيعة عمله... كنا خمسة اولاد ذكور وثلاث بنات وكنت اوسط السلسلة حيث جئت بعد ولدين وبنت ثم جاءت بعدي بنت وبعدها ولدين وكانت هناك حبة صغيرة قد انفرطت من العقد قبلان تفارق مهجع الطفولة كان اسمها انتصار وهي اختي التي جاءت قبل اخر العنقود ولكن عيونها الصغيرة الجميلة وجسدها الغض لم يقويا علي الانتصار علي حمي الملاريا التي داهمتها قبل ان يقوي عودها فظلت تبكي وترتعش وتلفظ لبن امي من جوفها علي الشراشف البيضاء التي كانت تزينها حتي رحلت كالشهقة... كشمس داهمها غيم فاطفأ نورها قبل حلول اجل المغيب.. رحلت انتصار وهي بالكاد تقف عند اعتاب عامهاالثاني....رحلت ملاكا صغيرا جاء من السماء كبرق لمع بسرعة وذهب قبل ان نتبينه ولم يعد.... ذهبت وكنت طفلا غريرا ينظر في دهشة لطقوس الرحيل دون ان يفهم شيئاسوي الخوف مما يؤلمها ... كانت اول جرح ادمي القلب ... اسماها ابي انتصارالكنها لم تنتصر فمشيئة المولي لا ترد..حملها اخي احمد بين ذراعيه وانهمرت الدموع كسيل مندفع وظل يذكرها ويبحث لها عن حياة لم تكتمل وبعد سنين عديدة حين تزوج اسمي بنته البكر انتصارا وبكي وبقيت انتصاره تمشي دون ان تدري قصة تسميتها لربما ذات يوماحكي لها او يحكي لها ابيها قصة الملاك الذي طار بعيدا وارتحل... قلت لامي بعد عدةايام ( اين انتصار ؟ هل صحيح انها لن تعود؟)

    بكت امي ومسحت دمعها بثوبها وضمتني الي صدرها كأنهاتخاف ان افلت منها ثم مسحت علي شعري بيدهاوقالت لي: (انتصار عادت ملاكا كما جاءت يا ابو الصلح واذا كنت طيبا مثلها ستراهاهناك؟)

    فتحت فمي لاسألهاعن(هناك) لكنها نهضت مسرعةمغلقة باب الحوار وغابت في جوف المطبخ الوسيع ذي الارضيةالترابية والشبابيك الخشبية التي بهت لونها من توالي الامطار عليها... حين لحقت بهاهناك ارسلتني لشراء شئ ما من الدكان القريب بعبارة قاطعة اعتادت استخدامها حين تريداغلاق باب الاسئلة ، نظرت اليها فاشاحت بوجهها عني فبدت لي حزينة وباكية فندمت علي سؤالي الذي سألت والذي لم اسأله ونظرت الي قطعة النقود المعدنية في يدي كأنني اراهاللمرة الاولي وركضت خارجا كالقذيفة لكنني لم اذهب الي الدكان بل تسلقت الجدار الي مخبأ طفولتي باعلي رأس البيت اي السقف وبقيت هناك طويلا.بعد ذلك بعام او عامين جاءت سهام بهية كالقمرهبة من السماء وغابت ملامح انتصار في زحام الحياة لكنها بقيت بمكان ما ومازلت ابحث عن الطريق اليها والي امي .


    .

  16.  
  17. #9
    مشرف القسم الثقافي

    Array الصورة الرمزية ياسر عمر الامين
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    2,635

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح سر الختم علي مشاهدة المشاركة


    صغيرا جدا كنت حين أنبتت لى جدتاى عليهما رحمة الله أجنحة من الخيال بحكاياتهما المسائية عن فاطمة السمحة والغول القبيح نتن الرائحة الذى خطفها ثم نام متوسداً ضفيرتها،وعن كهفه البعيد المظلم ، وعن حسن وحسين (أولاد عيسي الاتنين) الذين ظلت فاطمة السمحة تستغيث بهما وتناديهما بصوت رخيم عذب تقلده الجدتان وتتفنا في ذلك
    من لم يعش فى كنف "حبوبة" من الزمن القديم لم يعش طفولة سودانية كاملة الملامح...عندما كنا صغارا كانت احاجى الحبوبات تستهوينا كثيرا وكنا ننتظر المساء بلهفة بالغة حتى نتحلق حولها لنسمع احجية من احاجيها وكنا نستمع بصمت غريب وباحساس فريد يراقب كل كلمة تخرج من فمها كأن الاحداث تتصور امامنا...ورغم ان اغلب الاحاجى تناهت الى مسامعنا مرارا لكننا كنا لا نمل سماعها ابدا...
    ذلك الزمان لا يعود استاذنا الجليل صلاح بتلك التفاصيل الجميلة لكننا نحفل به ونحاول ان ننقل للاجيال القادمة بعضا من قبسه علهم يستمتعون كما كنا نستمتع ونطرب...وخالص الود لشخصك الكريم...

    التعديل الأخير تم بواسطة ياسر عمر الامين ; 22-08-2014 الساعة 11:50 PM
    يا وحى الهامنا وموضع احترامنا يا مدنى الجميله ليك مليون سلامنا.
  18.  
  19. #10
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    ( الرحيل الي الكمبو)
    في احدي ايام الخريف والحشائش الخضراء قد كست الارض بساطا اخضرا جميلا والمياه تجري في الارض الطينية منطلقة كأنها حامل بشري سارة يسابق الزمن ليزفها قبل ان يدركهاالاخرون عساه ينال من الرضا نصيبا وقسطا، كانت اسراب الجراد تتراقص فوق العشب كاطفال ازدحموا في حديقة.. في هذا الجو الصحو الجميل بدأت اسرتنا رحيلها من حي البيان الذي استقبلنا فيه انتصار الصغيرة وودعناها قبل ان تمشي باقدامها الصغيرةعلي الارض الي حي جديد في اطراف مدني الجنوبية يتوسط مابين حي الدرجة الذي كان حياارستقراطيا وقتها وما بين المزاد والحلة الجديدة الذان ولدا وهما يندرجا تحت الاحياء الشعبية ومازالا يحافظان علي ذات الموقع، كان لحينا الجديد مسميان فهو عنداهله ( الكمبو) لانه سكن عمالي صرف مخصص لسكني عمال وزارة الري ومؤسساتهاوله اسم اخر تعددت الروايات في شأن سبب تسميته به وهو (حي114) فمن قائل ان الحي يمثل الكيلو (114) في مشروع الجزيرة ولهذا اطلق الاسم عليه ومن قائل ان عدد المنازل المشيدة فيه يساوي هذا العدد وهذا سبب التسمية ولربما تيمنا بسور القرآن الكريم، المهم ذهبناانا واخي احمد كوفد مقدمة مع ابي الذي كان سعيدا بانه سينعتق اخيرا من قبضة الايجارواصحاب البيوت ويدخل منزلا حكوميا استحق دخوله بعرقه تحت الشمس وتجواله في السودان مع المؤسسة الفرعية للحفريات سائقا لكراكة تعمل في شق الترع والقنوات فيما عرف بمشاريع التنميةولم تكن الرحلة هينة بل كانت رحلة طويلة بدأها ابي الذي كان ولداوحيدا وسط اخوات لدي ابيه الذي رحل باكرا عن الدنيا وتركه طفلا صغيرا يلم بالكتابةوالقراءة بقدر ماجادت عليه خلوة صغيرة بديارنا الاصلية بابي هشيم وجد الصغير نفسه يكافح منذ العاشرة ليجد موقعا تحت الشمس فعمل مراكبيا ينقل الناس من الضفة الي الضفة الاخري مابين ابوهشيم والجزيرة مرو ومارس الزراعة وحصاد التمر حتي قيض الله له هجرة مبكرة الي ارض الجزيرة حيث التحق بالمؤسسة الفرعية مثل غيره ممن وفدوا منالشمال طلبة ثم زياتا ثم ترقي حتي اصبح سائقا لكراكة كانت تحتل الصدارة في تساؤلات طفولتنا واحلامها... كيف شكلها؟ كيف يقودها ابي؟ ماذا يفعل بها؟ لماذا لا يعمل بهاتحت انظارنا؟ لماذا تأخذه بعيدا؟ لماذا يغيب كثيرا؟ كانت محط فضولنا وبعض غضبنا ...في ذلك النهار الخريفي والارض مزدانة بالاخضر والمياه تغوص عميقا في احشائها كنت اتعثر خلف ابي واخي احمد الفارع الطول ونحن نشق مدني من اقصاها الي اقصاها سيرا علي الاقدام والفضول يسابق الخطو في الطريق الي البيت الذي عشت فيه سبعة عشرة عاما من عمري فيما بعد.. جئته وانا بالفصل الثالث الابتدايئ وخرجت منه بعد ان تخرجت من الجامعة وعملت محاميا عامين وانا لاازال قاطنا فيه... كان بيتا صغيرا يتكون من غرفتين اثنتين ومطبخ صغير كان اللون الاسود يغطي جداره من فرط ما أوقد الساكنين السابقين فيه النار لاجل عواسة الكسرة والقراصة، وهناك حمام صغيروادبخانة اصغروبرندة صغيرة مفتوحة من ثلاث جهات وهي ملتصقة بالغرفة الامامية، كانت تتوسط البيت شجرة قرض كبيرة تعلق قلبي بها من الوهلة الاولي اذ وعدتني اغصانها بالعاب كثيرةاقلها الطوطحانية واهمها التسلق الي الاعلي ، بالخارج كان الشارع ممتلئا بالصغارالذين يطاردون الفراش الملون والجراد ويطلقون الصرخات في جذل وسعادة وكان بعضهم يلعب الكرة علي نجيل اخضروالبعض الاخر يلعب الكرة الطائرة وقد ربطت شبكتها مابين عمود النور والسلك المشدود من قمته الي الارض... كان حيا واعدا بجمال لم المسه في حينا السابق حيث كان ابعد مكان اذهب اليه العتبة امام الباب لمراقبة الكبار وهم يلعبون كرة الشراب. وكان الوعد حق وهكذاوقعت في حب الكمبو من النظرة الاولي واليوم الاول.
    ( في وصف الكمبو وقاطنيه)
    بعدتلك الرحلة الاولي قمنا برحلات متكررة الي بيتنا الصغير وبعد ان قمنا بقص الحشائش الخضراء الطويلةمن الحوش وعبأناها في جوالات الخيش الفارغة وحملناها خارجا بمساعدة فاقت فعلنا من ابناء الحي الودودين ، ثم قمنا باعمال الطلاء للغرفتين والبرندة التي كانت في الواجهةومارس اخي احمد هوايته المفضلة في مراجعة توصيلات الكهرباء والمصابيح واحدا تلو الاخروبينما احمد منشغل بمصابيحه وانا منشغل بالطلاء والاصدقاء الجدد غاب ابي وعاد ومعه كارو صغيرة يجرها حصان باكي العيون وكانت الكارو محملة باعواد غليظة من الخشب وشرقانيات، وقفت انظر الي العربجي العجوز وهو يحادث ابي في إلفة وهو ينقل حمولته واحدة تلو الاخري دون كلل ولا ملل وحين انتهي من تفريغ حمولته ادخل يده في جيب العراقي المتسخ واخرج علبة صغيرة منه ثم نقر عليها بطريقة مميزة وفي لمح البصر كانت السفة قد استقرت في مكان من فمه وهو يلاحقها بلسانه حتي استقرت حيث اراد ثم نفض يديه والعلبة تحت ابطه ثم تناولها واعادها حيث كانت واستدار متجها الي الخارج وابي يتبعه وهو يتحسس نقوده استعدادا للدفع.غابت الكارو وصاحبها في اخر الشارع حيث تبدو علي غير بعيد مجموعة البيوت المسماة بالدرادر والواقعة بين المزاد والكمبووهذه الدرادر شكلت مسرحا من مسارح طفولتنا البهية فقد كان سكانها معظمهم من اهالي منطقة جبال النوبة وكان بمقدورهم في ذلك الزمان ان يشكلوا في قلب الجزيرة نموذجا مصغرا للبئية التي جاؤوا منهاواتذكر بيوتهم الصغيرة المبنية في شكل دائري اقرب الي القطية منه الي البيت بلا اسوار تحدها بل كانت متناثرة كنجوم في ليل طويل كانت مطابخهم في الهواء الطلق وكان بمقدورهم ان يضعوا علي قدورهم ما يشاؤون وان يحتسوا ما يرغبون وكانت ساحة منطقتهم عصرا مهرجانا مفتوحا علي الشارع به رقصة الكمبلا وغيرها وفنون المصارعة والريش الملون والخلاخل التي ترن مع الرقص وايقاعه كانت الدرادر حياة حرة تتنفس حرية وكنا نعبرها مطمئنين الي المزاد وبالعكس في طريقنا الي طاحونة المزاد العتيقة لاجل طحن الحبوب والعودة بها دقيقا الي الامهات ، كنا نتوقف عند النقارة والرقص والمصارعة مشدودين الي تلك الطبيعة البكر الراقدة في قلب المدينة... كان سكان الدرادر عمالا للصحة يتبعون البلدية ويعملون في اعمال النظافة واعمال اخري اقلها حمل قاذورات المدينة علي الاكتاف ولكنهم كانوا يعيشون حياتهم كمن ملك الدنيا وما فيها ... فرح دائم ورقص وصراع لابراز القوة وتمسك بالجذور رغم البعد.. ساعود لهذا العالم لاحقا... المهم ان الاعواد والشرقانيات التي احضرها ابي استحالت بعد ايام قليلة راكوبة وسيعة اختلت قسما كبيرا من الحوش الخالي وصارت بمثابة المطبخ في البيت....اكتمل الرحيل في يوم من ايام شهر يوليو وكتبت نحتا علي جدار المطبخ ذلك التاريخ . واكتمل الرحيل الي الكمبو وكانت الترعة لاتزال جارية بالمياه فاصلة بين عالمين عالم الكمبو بعماله البسطاء وعالم حي الدرجة الارستقراطي الذي كان يقطنه الاثرياءوكنا صغارا جدا حين ادركنا تلك الفوارق فكان نصيب اولاد الدرجة منا كرات من الطين نكورها ونلهب بها ظهورهم من علي البعد ونولي هاربين .

  20.  
  21. #11
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    الدرادر ذلك المهرجان الذي أختفي؟!
    طفلا صغير ا كنت حين رأيتهم علي الرؤوس قرون بقر والصدر والظهر عاريان يلتمعان كبرق في ليلة ممطرة والريش فوق الرأس والعقود الملونة من الخرز ومن السيور البلاستيكية حول العنق وحول الأيدي وذلك الشئ المثبت حول الوسط بحزام لاتعرفه رداء ام ازارا ام انه محض زينة تكتمل بها لوحة الالوان الباهرة المحيطة بذلك القوام الأبنوسي اللامع... في الأرجل مجموعة من الفيش تجلجل كخلخال في اقدام حسناء جميلة تتثني في مرقص امام الناظرين....كان ذلك هو المشهد الأول في حلقة المصارعة الشهيرة التي تنعقد يوميا عصرا في منطقة الدرادر ويتجمع الناس من كل صوب ليشهدوها يشدهم فضول تعززه تلك الصافرة الراقصة الي تنادي الناس للمشاهدة وتكون حكما بين المتصارعين فيما عرف في ذلك الجزء من مدينة مدني بصراع النوبة.. كان مشهدا احتل الصدارة في ايام طفولتنا وذكرياتها مقترنا بمشهد اخر كان عاديا وقتها لكننا نذكره بصورة موجعة ونحاول محوه من الذاكرة .. كان ذلك مشهد هؤلاء المصارعون الموفوري الكرامة في حلبة النزال وهم يجولون المدينة حاملين علي الرؤوس قاذورات المدينة وهم يغنون ونحن نركض من امامهم خوفا بعد ان نعايرهم بالعمل الوحيد الذي كان متاحا لهم في المدينة... كلما ذكرت ذلك المشهدوقرنته بصيحات الأب فيليب عباس غبوش في ساحة الجامعةحول معاملة المجتمع لاهله شعرت بشئ من العار وودت لو اني استطعت محو المشهد من ذاكرتي كما مسحه التطور من امام اعين الاجيال الجديدة...اتذكر الحلقة المتسعة واستمتاع الحاضرين بذلك الصراع الجميل الذي يستعيد به اهله بعض ما تركوا خلفهم من مباهج وكرامة في مراتع الصبا البعيدة ويبددون به قسوة المدينة واهلها عليهم... بعد ذلك بسنوات حين انمحي ذلك الحي الصغير من خارطة المدينة قسرا واختفي اهله كأنهم لم يكونوا واختفت عربات البلديةالتي كانوا يتعلقون بها ويركضون خلفها بخطواتهم القوية.. اختفوا غابوا في الزحام ولم يعرف احد اين ذهبوا ولم يشغل احد نفسه بالسؤال وحدي كنت اتذكرهم وافتقد ذلك المهرجان الجميل الذي كانوا يقيمونه في الهواء الطلق في كل يوم وافتقد صوت صافراتهم الجميلة... يا مدينتي الجميلة لم فرطت في ذلك المهرجان ؟
    لم قسوت علي اجمل القادمين اليك وتركت المكان هامدا بعد ان كان يضج بالحياة؟

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 16-08-2014 الساعة 07:43 PM
  22.  
  23. #12
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    وجه من ودمدني الاخري(الموجعة)
    لم تكن جذوره من مدني، لكنه برز في حواريها وازقتها وشوارعها وصار نجما لامعا في مجال هو عصب الحياة في المدينة التي تتنفس رياضةوتعشق المهرجانات والبطولات وساحات كرة القدم البكر التي يمارسها ناشئة واعدين... كان(ع. ق) بسمته الوسيم وشعره الكثيف كما كانت الموضة في ذلك الزمان اقرب الي الزنوج الذين نراهم في السينما في افلام شافت وسيدني بواتيه ، كان من القيادات الشبابية التي قدمتها حكومة مايوووضعت بين ايديها ادارة النشاط الشبابي وعلي وجه الخصوص نشاط روابط الناشئين فكان هو والاستاذ محمد الامين قادة محنكين لذلك النشاط المزدهر الفريدالذي كان ركيزة اساسية لنهضة مدني الكروية الباهرة في الثمانينات التي استمرت حتي مطلع التسعينات ثم بدأت الرياضة في مدني الموت البطئ المستمر حتي الان..كان الرجل رياضيا فذا واداريا فريدا شهدت له ملاعب الروابط في مدني وذلك المكتب الصغير في مركز الشباب الواقع بعد محطة السكة حديد مباشرة بحضور دائم ونشاط وافر لم يمنعه منه عمله الحكومي كمفتش تموين نشط.
    كان كل اطفال مدني وشبابها يعرفونه ويعرفون الموتر الذي كان يستقله في تنقله وكان محبوبا من الجميع.
    كانت نهايته فاجعة شكلت وعينا المبكر فذات صباح خريفي جاء بعد ليلة ماطرة كثيرة العواصف والرعودذهبنا خائضين الي مدرستنا الواقعة بحي الدرجة لهونا واقبلت الظهيرة حاملة النبأ: في ذلك المنزل القريب من مدرستنا جاءت عربة الشرطة وسري همس بان(ع.ق) وجد مقتولا في غرفته الخاصة في ذلك البيت الصغير في اطراف المدينة في ذلك الحي الارستقراطي العتيق، كانت تلك اول مرة نسمع فيها بكلمة قتل واول مرة تطوف في رؤوسنا الصغيرة صورة انسان قتيل، سمعنا روايات عديدة واقتربنا بخوف من المكان الذي شهد المأساة.. شاهدنا كلاب الشرطة تتشمم المكان وهي في ايدي مدربيها...راجت في المدينة قصص كثيرة ولم يمط اللثام عما حدث في ذلك البيت الذي كان المرحوم يقطنه وحيدا في تلك الليلة الماطرة ولكن المؤكد ان الرعد كان شاهدا وان السماء بكت بدموع غزيرة رجلا طيبا اعطي مجتمعه بلا حدود وجعلنا موته الفاجع نتساءل: ( كان طيبا .... لم يقتلونه؟؟؟)
    وحين كبرنا ادركنا ان الطيبون وحدهم هم الذين يقتلون
    ويعانون......... ايتها المدينةلم نامت عينك في تلك الليلة؟لم تمنعي الجريمة؟ام تراك اكتفيت بدمع السماء الذي سال الليل كله وقسما من الصباح؟

  24.  
  25. #13
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    ود عم فاروق
    في مدني شخصيات عجيبة وفريدة لايعرف عنها الناس الكثير ولكنهم وجدوا اصحابها بينهم فتقبلوهم كما هم بلا اسئلة. من هذه الشخصيات(ود عم فاروق) ذلك الفضولي الذي يفوق أشعب وسيرته.
    في طفولتنا البهية وجدناه حيثما ذهبنا ذلك الرجل القصير الممتلئ الذي يرتدي شماعة كاملة من الملابس المتسخة ، كان عجيبة من عجايب مدني العديدة.. لاتفوته وليمةاو مناسبة في اي حي من احياء مدني وان كان يركز علي احياء بانت والبيان والعشير وام سويقو وودازرق و وجبرونا وهي جميعا متجاورة بصورة او اخري فمدني نفسها مثل مائدة في بيت فقير محدودة الحدود صغيرة لمن الفها في ذلك الزمان ولربما حتي الان، كان صاحبنا فضوليا له قدرة عجيبة علي ادراك اخبار المناسبات السعيدة والحزينة وكان يأتي دائما في الميعاد دقيقا كالساعة جريئا كصاحب حق سليب،لم يكن الناس يتضايقون منه بل يجلسونه مثل باقي الضيوف ويتغاضون عن أخذه لبعض الطعام في جرابه الذي لايفارقه ابداويلتفون حوله يمازحونه وهو لاه عنهم بوليمته ومخلاته .. تقبله اهل مدني كقدر لافكاك منه ولم يبحث احد عن اصله او فصله او خيوط حكايته، هكذا كان الناس في ذلك الزمن متسامحين ومطمئنين وروؤفين وبعيدين عن الخوض في سيرة الناس... مثلما ظهر فجأة اختفي ود عم فاروق من شوارع مدينتنا فجأة ولم يعرف احد اين ذهب كما لم يعرفوا من اين جاء؟
    *****************************

    ( أبكرقروش )
    راجت في مدينتنا لبعض الوقت بعض الظواهر ومنها ظاهرة بعض من تنسب اليهم اعمال خارقة للمألوف ومنهم صاحبنا أبكرقروش الذي كان مشهورا بانه ساحر يستدعي القروش من كل شيء وفي أي وقت وأتذكر انه ذات مرة أخرج ريالا من شعر أحدهم وراج في المدينة أن نقوده تلك تعود ورقا أبيضا لا قيمة له بعد فترة ، المهم شغل الرجل الناس طويلا ونسجوا حوله الاساطير الي ان شاهدناه مكبلا بالحديد وسط جوقة من العساكر قابعا داخل كومر الشرطة الرمادي العتيق وهو يبتسم ويؤمي بكلتا يديه المقيدتين للناس المتجمهرين الذين لم يكفوا عن الركض خلف العربة ومطالبة أبكر بالقروش.... غاب أبكر في جوف السجن وغابت حكاياته وبقيت بذاكرتي تلك الرهبة حين أتذكر كيف انحني وجاس في التراب بيده ثم ناولني تلك القطعة المعدنية فنظرت اليها في بلاهة وخوف ثم أسقطتها أرضا وركضت دون ان التفت الي الوراء ثانية.

  26.  
  27. #14
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    الرجل المائدة ( فريد محمود خليفة)
    كان الرجل علما من أعلام المدينة، طبيبا ناجحا ومشهورا ينحدر من أسرة تعتبر من أعلام المدينة ورموزها وبيوتها العريقة والثرية،كان شخصية مرحة خفيفة الظل واجتماعية من الدرجة الأولى، تدرج فى سلم الوظائف الإدارية حتى بلغ قمتها، مديرا عاما للصحة فى زمن لم يعرف فيه السودان الوزارات الولائية وكان مدير الأدارة هو قمة الهرم فى الأقليم، لمع نجمه وازداد تواضعا على تواضعه وزاد ت محبة الناس له، ماطرق بابه صاحب حاجة أو رجاء وعاد خائباً،ماتنمر على أحد ولاتذمر أو شك من كثرة الأضياف فى بيته،ولاغابت ابتسامته الجميلة عن المحيا ولا غاب صاحبها عن فرح أو كره فى دروب المدينة الكثيرة، حتى أدركه معاش كان مبكرا بالنسبة للمستظلين به من الهجير، لكنه كان عاديا وطبيعيا بالنسبة اليه والى سنوات خدمته الطويلة، تقبل الأمر برحابة صدره المعهودة وانتقل من بيت حكومى كبير الى بيت صغير جميل بناه فى حى شعبى عمدا، فقد كان يحب الفقراء والبسطاء وكان يعلم بطريقة ما أنهم هم أسرته وأهله، كان بعيد النظر، فقد هجر اولاده الوطن وغابوا فى بلاد تموت من البرد حيتانها، ولم يبق معه أحد سوى طباخ عجوز ظل يتنقل معه أينما ذهب،كان بيته الصغير واسعافى الحقيقة، مبنيا بطريقة مختلفة من البيوت الأخرى، غرفه متعددة، وكان البيت مزدحما بالبرادات( الثلاجات ديب فريزر) وكانت عامرة بالخيرات، كان البيت الكبير خاويا ، الا منه هو وطباخه، لكنه كان مفتوحا دائما للضيوف من الأهل والجيران، لم يكن البيت يخلو، كانت تلك رغبة صاحب البيت، أن يكون بيته مفتوحا ومكتظا والأ يخلو عند الوجبات من ضيوف،كان مائدة مفتوحة، وضجيجا فرحا، كان يحب الكوتشينة، ويحب الأنس، فلم يخل البيت من الكوتشينة التى جمعت أهل الفريق من مختلف الأعمار، ولم تخل الدار منهم وكان صاحب الدار بشوشا فرحا بهم كطفل عثر على لعبته الأثيرة، كان مستشارا وطبيبا مجانيا للجميع ويدا تعين سرا وعلنا من يحتاج العون ومن يطرق بابه،كانت السيارة الفخمة فى الخدمة وعلى أهبة الاستعداد، وكان صاحبها صديقا للجميع، كنت أحرص على التواصل معه دوما،صباحى يبدأ به وأنا فى طريقي للعمل تقع عينى على سيارته المرسيدس السماوية الجميلة، وفى الأمسيات اكون ضمن كوكبة الاصدقاء معه، كان عونا وسندا لى في بداية حياتى المهنية بشكل سيظل دوما موضع امتنانى، كان الرجل حديقة مليئة بالقناديل والزهور
    حتى كان يوم
    انطفأ فيه مصباح

    وغابت مائدة الرجل
    وبقيت سيرته
    تمشي فى شوارع المدينة
    مبتسمة كصاحبها
    بيد أنها
    حزينة. فقد رحل الرجل المائدة، البشوش، الطيب، الضاحك، الكريم، الشهم، المتواضع
    الدكتور فريد محمود خليفة. اللهم أرحم فريد محمود خليفة وأكرم نزله وتجاوز عن سئياته ان كان مسئيا وتقبل منه والحقه بالصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

  28.  
  29. #15
    عضو ماسي

    Array الصورة الرمزية الملكة اسماء ( ام محمد )
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    الدولة
    مُدن الحروف
    المشاركات
    9,731

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح سر الختم علي مشاهدة المشاركة
    وكانت تلك جرعة أولى من جرثومة الكتابة والسرد أخذتها صغيرا وأمتلأت بالأسئلة حول اسباب ذلك الحب وتلك الرغبة فى مشاركة ذلك المكان وتلك الصور البصرية والسمعية الجميلة، كانت جرعة أولى مهمة عن طرق السرد والقص وأساليب التشويق والإيقاع المحكم، كانت محاضرات مجانية فى الهواء الطلق وتدريبا عمليا على كتابة القصة والسيرة والرواية، وأهم من ذلك كانت بيانا بالعمل حول أسباب الرغبة فى السرد والولع به، ومن ثم سكنتنى شهوة السرد بشكل دائم كعدوى جميلة لم أملك لها ردا، فوجدتنى منذ بواكير الصبا شغوفا بتقمص دور الجدة صاحبة النهر الذى لاينضب من الحكايات، لكن جمهورى كان أوسع من جمهورهن.
    .
    استاذي صلاح سر الختم

    هل قلت أنك مبدع ...

    سعادتي هنا سعادتين ...
    الاولى اني اراك تزهر لنا البستان بحرفك الجميل و سردك الرااااااااااااااااااااااائع حد المبالغة

    الثانية اني عرفت الان ما سر هذا الابداع

    فرجل تربى على خيال خصب امتلكته جدتاه ونهل هو من ذلك الخيال مستمعا ليغوص في بحر الحكايات ويعطيها ابعادا اخرى لابد وان يكون كاتبا تنحني له الاقلام

    لقد كنت محظوظا سيدي . فمن عاش عهد جمال السرد وسمع قصص فاطمة السمحة من افواه تجيد نسج الخيال لابد وان يكون قد تأسس خياله كما يجب ...

    ونحن محظوظون اذا انك بيننا حضورا وحرفا


    فشكرا لانك هنا وشكرا لانك تضعنا على الخط الصحيح للصعود لاعالي مراتب الابداع


  30.  
  31. #16
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    وأنا محظوظ سيدتى لأنك من بين قرائي
    شكرا اختى الملكة أسماء على هذا المرور الباهى وهذا الكرم النبيل

  32.  
  33. #17
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر عمر الامين مشاهدة المشاركة
    من لم يعش فى كنف "حبوبة" من الزمن القديم لم يعش طفولة سودانية كاملة الملامح...عندما كنا صغارا كانت احاجى الحبوبات تستهوينا كثيرا وكنا ننتظر المساء بلهفة بالغة حتى نتحولق حولها لنسمع احجية من احاجيها وكنا نستمع بصمت غريب وباحساس فريد يراغب كل كلمة تخرج من فمها كأن الاحداث تتصور امامنا...ورغم ان اغلب الاحاجى تناهت الى مسامعنا مرارا لكننا كنا لا نمل سماعها ابدا...
    ذلك الزمان لا يعود استاذنا الجليل صلاح بتلك التفاصيل الجميلة لكننا نحفل به ونحاول ان ننقل للاجيال القادمة بعضا من قبسه علهم يستمتعون كما كنا نستمتع ونطرب...وخالص الود لشخصك الكريم...
    الحبيب ياسر
    نعم هو زمن لن يتكرر أبدا ولكن آثاره باقية فينا
    شكرا على مرورك الأنيق المحفز

  34.  
  35. #18
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436


    صور من ألبومات الذاكرة المثقوبة
    صورة رقم (1)432343_10150568411501801_1768493874_a.jpg
    الراحل /خالد جبرالله سيد احمد
    (خالد جبر الله بالحب عشت وبالحب تحيا في القلوب مبتسما)

    خالد جبرالله سيدأحمد شاب سوداني جميل بسيط يجيد أشياء عديدة أبرزها دخول القلوب والسكني فيها مرة واحدة والي الأبد، رجل من الصعب ان تلتقيه مرة ولاتبحث عنه بعدها في كل مكان لتستزيد من ذلك النهر المتدفق محبة وطيبة ولطفا لاحدود لهم،هذه الصورة المرفقة هي طقسه الوحيد المتجدد فخالد في كل مناخاته مبتسم ضاحك ناثر للفرح والأمل والبهجة حيثما حل، أسرة عمنا الراحل جبرالله سيد أحمد من الأسر الفريدة في مدينة مدني ، الأب جبرالله سيدأحمد موظف البوستة الأنيق والسياسي المحنك الذي اختار مع شقيقه الراحل محمد سيد أحمد الحزب الشيوعي والعمل السياسي طريقا رسم ملامح حياة الاسرة بأكملها وأثر في اختياراتها ومصائرها فلم ينج أحد في تلك الأسرة من سوسة السياسة ومن دروبها الموحشة لمن يختار النضال السياسي طريقا لحياته، الأم أم الحسن أو أم الجميع بوجهها السوداني المشلخ الجميل الباسم دوما وشعرها الثوري وحفظها لكل اشعار محجوب شريف هي بحد ذاتها لوحة مقاومة وصمود أخذ منها خالد تلك الابتسامة الدائمة فام الحسن لاتعرف العبوس أبدا ولاتعرف الاحباط او التبشير به دوما مبتسمة هاشة باشة أطال الله في عمرها، العم جبرالله وجد نفسه خارج دائرة العمل السياسي في السبعينات تحديدا اواخرها واختار مثل اخرين مكرها خيار الاغتراب لكي يستطيع القيام باعباء اسرته المكونة من ولدين هما عصام وخالد وبنتان هما أمال وناهد، توجه المناضل القديم الي السعودية تاركا الاسرة في بيت ايجار في الدرجة مدني والجميع لايزالوا في مقاعد الدراسة، عدا امال التي ولجت كلية الطب في1976 تقريبا،في هذا الوقت بدأت علاقتي بالاسرة تتوطد بروابط عديدة مشتركة منها زمالة مدرسة جمعت اختي بناهد وزمالة اخري جمعت خالد جبرالله باحمد اخي الاكبر في المدرسة ثم اضطر الاثنان لقطع الدراسة مؤقتا للعمل في شركة مواصلات الجزيرة وجمعتني بعصام صداقة مبكرة بدأت وتوطدت بسبب اهتمامات مشتركة رياضية وادبية وباتت صحوبية جميلة أثرت علي مجمل حياتي، عرفت خالد جبرالله الأنيق الباسم في تلك الدار الصغيرة في حي الدرجة بمدني وكان أكثر مايلفت اليه تلك الشبكة الواسعة من الصداقات التي يملكها، كان مدهشا فشبكته الاجتماعية في ذلك الزمان البكر كانت أوسع من شبكة الفيس بوك وتضم كل طوائف البشر من سيد الدكان الي ود الجيران الي صاحب المكتبة الي الكورنجية الي رواد السينما وعشاقها الي محيط الاسرة واصدقاء اخيه واخواته وابناء عمه.
    وعندما التحق بالعمل بشركة مواصلات الجزيرة توسعت الشبكة فطبيعة العمل وهي الضيافة البرية في بصات الشركة الأنيقة جعلت منه وهو النجم من نجوم مجتمع مدني نجما اوسع صلاتا وعلاقات ، شاب أنيق مهذب ودود لطيف باسم يلبس نظارة طبية ولايكف عن الابتسام وتقديم الخدمات للجميع في كل ظرف ومكان،وعندما يكون هناك بارتي او لمة اجتماعية من اي نوع حزينةأو سعيدة يكون هو النجم الذي يتسابق الجميع الي القرب منه فحيث كان خالد جبرالله كانت الشمس نهارا وكان القمر ليلا والنجوم، كان محبوبا بشكل مذهل تعرفه وتحسه في كل مكان وصدفة تجمعك به، كان الأثير عند كبار السن في كل البيوت فهو البسيط المتواضع الودود حسن الاصغاء القادر علي المواساة والقادر علي التفهم وموضع الثقة، انقضت سنين خدمته في مواصلات الجزيرة سريعا وتوجه خالد الي اوربا الشرقية للدراسة حيث عاش حياة مشرقة جميلة وعاد منها نفس الشخص كأنه لم يغادر السودان يوما، عاد حاملا شهادة رفيعة في الهندسة وعمل بشركة اجنبية بمدني وعرفته المدينة بعربة ذات ملامح باسمة تجول المدينة من اقصاها الي اقصاها حاملة المحبةولاشئ غيرها، كانت ام الحسن قد اوشكت ان تكون وحيدة او باتت كذلك حين عاد اليها خالد، فعصام بات بالخرطوم بعد التخرج ثم غادر الوطن وناهد كانت قد استقرت بالخرطوم منذ سنين وكذلك امال التي غادرت السودان في مطلع التسعينات وبقيت ام الحسن وحيدة فجاء خالد بردا وسلاما عليها، بات البيت قبلة للجيران الذين اجتمعوا علي حبه كما لم يجتمعوا من قبل، جال خالد في المدينة مواصلا كل الاصدقاءوالاهل، زارعا الابتسامةوالمودة،حتي غادر الوطن الي الخليج حيث داهمه المرض اللعين وأخذ يزوي كشمعة في صمت حتي تسرب شعاعه ورحل مثل الشمس علي عجل،كانت رحلة قاسية مع المرض ، لم يتسن لنا ان نكون الي جانبه فيها، لكنني كنت واثقا انه غادرالدنيا وهو يبتسم هازئا بالموت كعادته، خالد جبرالله:
    تشهد مدينتك الجميلة مدني
    انك زرعت حبا وجمالا حيث حللت
    ولم تزرع كراهية ولم تعتد علي أحد
    نم هانئاً،نم مبتسما فكل من يتذكرك يبتسم.

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 17-08-2014 الساعة 10:25 AM
  36.  
  37. #19
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    صور من ألبومات الذاكرة
    صورة رقم 2429667_10150609586906801_2026750373_ابراهيم بوب.jpg
    ابراهيم عبد الرحيم ابراهيم شاويش الشهير باللقب (بوب)
    شاب سوداني بسيط وعميق من ابناءمنطقة جنوب كردفان محافظة الرشاد منطقة ابو كرشولا وتيري حيث مسقط رأس ابيه واجداده ولكن الفتي الاسمر الجميل ولد في بيت صغير من بيوت اللاماب بالعاصمة الخرطوم وفتح عينيه علي الحياة هنالك في ذلك البيت الصغير الكبير بالمحبة بين افراده والقيم المستوطنة بأهله، الفتي شب هنا وقلبه مثل كل اهل السودان متعلق بالجذور التي ظل يقطع الطرق اليها بلا كلل في سنواته الثلاثين ولكن محبته للجذور لم تمنعه من الانفتاح علي حياته في عاصمة وطنه حيث شب وترعرع محبا للناس ودودا خدوما مكافحا من اجل لقمة العيش منذ الطفولةومحبا للموسيقي بشكل مميز حبا لم يقف عند الاستماع والتذوق بل شمل العزف علي الات موسيقية مثل الجيتار والبيانو،اكمل دراسته الثانوية بمدرسة علي السيد بالصحافة واكتفي بتلك الشهادة السودانية، لكن طموحه فيما يتعلق بالموسيقي بقي يعانق حدود السماء فانخرط بمركز شباب السجانة ليتعلم العزف علي البيانو ويجود عزفه علي الجيتار، كان يقضي سحابة نهاره متنقلا في اعمال شاقة لكسب العيش فهو خراط ماهر وسباك ماهر وخبير في توصيلات الكهرباء وهو يباشر اعمال صيانة واعمال يدوية مختلفة فالرجل مصنع مواهب لايستعصي عليه شئ وله خيال علمي واسع يجعله قادرا علي ابتكار الحلول والمعالجات ببراعة تثير دهشة كل من يكلفه بعمل، وهو يهتم دوما بتحقيق النتيجة المرجوة منه اكثر من اهتمامه بالنقود والعائد، رجلا بشوشا كثير الابتسام قليل الكلام حاضر ا دوما ولايرفض لجيرانه ومعارفه طلبا حتي ولو كانت تلك هي المرة الاولي التي يباشر فيها ما كلف به
    وكان طموحه كبيرا فهو ينتظم في دراسة منتظمة لتحسين لغته الانجليزية باستمرار مستعينا باخيه الاكبر هشام المتخصص في تلك اللغة
    جمعتني بابراهيم واسرته الجيرة حين سكنت حي اللاماب وكان من حسن حظي انهم جيراني بالحيطة
    جيران لاتسمع منهم الا ضحكات صافية تعانق السماء حين يجتمعون في حوش المنزل الملاصق لحائطي وكأنهم يتسامرون علي ضوء القمر في قلب الخرطوم الغارقة في الاضواء
    كانت اصواتهم وضحكاتهم تجذبني الي ايام جميلة عشتها في حي 114 حيث نشأت حيث الكل يعرف الكل بالاسم والكنية
    وحيث الدخول بلا استئذان
    والضحكات تعانق السماء
    والجيران جيران
    والوجوه صافية
    والمودةهي الخيط الرابط
    كنت اتوق
    دوما الي الانضمام الي ذلك السمر البرئ
    وهكذا عرفت بوب ووالده الشيخ الذي تراه دوما في طريقه الي ومن المسجد عند الآذان وعند الفروغ من الصلاة
    رجل ضئيل البنية
    طويلا
    حين يبتسم يغدو وجهه وجه طفل هو وحه ابراهيم نفسه فابراهيم دون اولاده يشبهه شبها جما حتي في محبته للصلاة
    ففي يوم رحيله الفاجع افتقدته النسوة
    وتساءلن عنه فوجدنه منهمكا في صلاة خاشعة
    وكان ذلك قبل الرحيل المر ربما بدقائق
    هل تري كان القلب يدري انها الصلاة الاخيرة؟
    كان صديقي
    وجاري
    كنت اهرع اليه في الكبيرة والصغيرة طالبا عونه
    فيجئ هاشا باشا كجندي تلقي امرا من قائده
    ولايغادرني الا والصعب بات سهلا
    والمتعطل
    هدر بالحياة
    كنت استمتع بمجاذبته اطراف الحديث
    فقد كانت له طريقته الفريدة في عرض الاشياء وسردها
    كانت حكاياته خليطا من حياته اليومية
    وما يصادف فيها من انواع البشر
    القساة الذين يجعلونه يعمل كثور في ساقية ثم يجحدونه ويلقون اليه دراهم قليلة لاتتناسب وجهده لالشئ الا كونه لم يفرض شروطه ولم يساوم مسبقا عندما كانت حاجتهم رعناء
    لكنه كان يضيف دوما للحكاية
    حكايات جميلة عن اناس طيبين
    يعطونك ما تستحق واكثر منه ويفيضون عليك كلاما طيبا
    واعتذارا
    كان يري هولاء ملائكة تستحق الحياة لاجلهم غفران كل شئ لنقيضهم
    وكانت احلامه تتسلل بين سطور الحكاية بطريقة أو اخري
    كان مثقفا ثقافة عالية تجعلك تشعر بالخجل كونك طلبت منه اداء عمل صغير لايتناسب وتلك الثقافة وتلك الاحلام
    لكنه كان متصالحا مع ذاته بشكل مدهش
    وحين يتحدث عن جذوره يتوهج وهو يصف الطبيعة والحياة والناس
    كنت اتمني دوما ان اراه وهو يعزف او يغني
    كنت اتمني لو اننا كنا في ذات السن حتي نرتاد الاماكن نفسها ونتحدث سويا عن احلامنا بلا حواجز كالتي نسجتها الحياة بيني وبينه
    انا القاضي وهو العامل
    انا الكبير وهو الصغير
    وثمة تفاهات اخري تنتصب
    كنت قادرا علي تجاوز ذلك كله حتي اعرف هذا الانسان الجميل نادر المثال واتطفل علي احلامه واحصل علي سر تلك الابتسامة الصافية الدائمة وتلك القدرة علي رؤية الجميل والتغاضي عن القبح طوعا
    هو كان قادرا لكن ادبه كان يمنعه من تجاوز خطوط مرسومة
    بوب عاش حياته ببساطة ومضي في هدوء ، كانت احلامه بسيطة وعظيمة: ان يعرف اللغة الانجليزية باجادة تمكنه من الالمام بفن الموسيقي ومعاني اغاني احبها كثيرا، وكان يحب العزف والموسيقي لانه يحبها وليس لاي سبب آخر، لم يكن يريد ان يصبح مشهورا او ثريا، كان معجبا بحياته كما هي وراغبا في تزيينها بما يحب، كان يحب الزراعة وبالذات الزهور والموسيقي والناس،لم يهتم كثيرا بالفقر والغني
    انا متأكد من ان نباتاته التي غرسها في ذلك البيت الصغير تفتقده وتشتاقه مثل الناس
    .................................................. ...
    في يوم الرحيل خرج ابراهيم بشعره المضفر
    ووجهه الباسم
    وقبل الوداع طلبت منه الوالدة
    أن يأكل شيئا لكنه رفض
    قال انه ليس جائعا
    صب عطرا في يدها بلا مناسبة
    وودعها
    وخرج
    ماكانت تدرك ان تلك الرائحة هي ما سيبقي او لايبقي منه
    كان علي موعد مع صديق يعمل في نقل المياه بعربة مخصصة لذلك الغرض
    كان الصديق متجها الي حي الانقاذ
    طلب منه مرافقته ففعل
    فهو لايرفض طلبا
    انجزا العمل
    تناولا القهوة والشاي
    وانسحب ابراهيم فصلي صلاته الاخيرة
    وصعد في العربة
    ثم دفعته شهامة للنزول ليساعد صديقه في الرجوع خلفا
    عند النزول تعثر
    الرجل الشهاب
    وسقط
    وداسته العربة
    نهض واقفا
    نهوضا اخيرا ثم هوي كنخلة وقبل الارض للمرة الاخيرة
    صعدته روحه الطيبة الي السماء
    واتجهت احلامه
    الي الارض
    لتبذر بذورا لاتموت
    ولاتكف عن التجدد
    والتكاثر
    كما اراد لحياته
    القصيرة
    ان تمتد
    بهذ اللوحة الاخيرة
    التي جسدت حياة كلها بذل وعطاء
    بسخاء
    حتي
    آخر رمق
    وتلقت أمه النبأ برباطة جأش غريبة
    ظلت تطرق البيوت لتخبر الناس بنفسها بعبارة ملتبسة
    ...قالوا ابراهيم مات
    وتحكي عن عطره في يدها الذي مافات

    وتغالب الدمعات
    .................
    مضيت وحدك ياصديقي
    مضيت وحدك
    ولن يكون وجهك الطيب حاضرا في مقبل الاعياد
    لن تطرق الباب بعد الصلاة مباشرة
    لتهنئ بالعيد
    ولن
    اسافر مطمئنا ككل مرة استودعك فيها بيتي
    لن اسمع صوتك تنادي صلاح الصغير
    وربما لن اسمع ضحكات اهل بيتك الصافية الي حين
    لكن
    ياصديقي
    احلامك ستبقي
    تحلق كحمامة
    وابتسامتك
    تبقي
    علما وشارة
    لرجل
    نادر المثال ، نبيل الخصال
    لك الرحمة
    وأسال الله ان يغفر لك ويرحمك
    ويغسلك من الذنوب
    ويتقبلك مع الصديقين والشهداء
    وداعا صديقي ابراهيم بوب

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 17-08-2014 الساعة 10:24 AM
  38.  
  39. #20
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    السهل الممتنع
    سرد يقودك بسلاسة حتى آخر حرف
    ما بين اماكن وشخوص واحداث
    هكذا عهدناك

  40.  
  41. #21
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    من البومات الذاكرة
    صورة رقم 3424871_10150584475186801_1124963096_n.jpg
    ابو الحسن مدني وداعا أيها الرسام الجميل
    (سقوط نخلة في النهر وجبل في البحر)

    25 فبراير، 2012، الساعة 06:25 مساءً
    اليوم الخامس والعشرين من فبراير العام 2012 يوم أسود في تاريخ الوطن السوداني، اليوم ترجل فارس نبيل آخر من صهوة جواد الحياة بعد أعوام من المعارك من أجل الانسان السوداني، رحل رجل عظيم، رحل شعاع ضوء عند الأصيل، رحل رجل صنعته تجميل المدن ونثر الجمال حيثما حل، رحل طفل كبير جميل أسمه ابو الحسن مدني، فنان رسم بدمه وبريشته وبفكره الوقاد السودان كما لم يرسمه أحد، رجل يرسم في الهواء الطلق، يرسم في واجهات المطاعم والمقاهي والشوارع والمدارس والمسارح ودورانات الحركة، حيث تلفت في بورتسودان تجد له أثر ولوحة ناطقة بملامح الانسان السوداني مغموسة في قهوة الشرق المرة الجميلة، ابو الحسن مدني كل الجمال والجمال هو، لم يتخرج من كلية فنون ، لكنه برع في الرسم بشكل لايجاري ولايضاهي، لو وجدت لوحته في الصين تعرف انها رسم ابو الحسن مدني فبصمته واضحة وقدرته علي رسم الاشخاص والمشاهد تفوق براعة عدسة المصور، هو رجل التفاصيل الجميلة،
    هو ذاكرة السودان البصرية الرهيبة، والله لو كان نزار امير الشعر العربي الحديث فابو الحسن مدني أمير امراء الرسم العربي الحديث و عرفت رسوماته قبل ان اعرفه، أسرتني لوحاته وتلك الطبيعة الخلابة فيها وذلك الشجن وتلك السحنة السودانية في الوجوه الناطقة وتلك التفاصيل السودانية مابين الضفائر وووجوه الأطفال الشقية ولمة الاهل في حنة العرس والمشاط وعواسة الكسرة ومشهد بيع البطيخ عند اوشيري قرب العقبة في بورسودان مرورا بالخيل والابل والبحر وسواكن المعطونة في التاريخ وتلك الوجوه لنساء البجة المتخيلات خيالا فريدا، لوحات ابو الحسن مدني لوحات فريدة نادرة في كل شئ، لست رساما ولاناقدا متخصصا لكنني اعرف ان هذه لوحات ساحرة خالدة لها قيمة فنية عالية جدا وكنت اقول في حياته لو كان السودان يعرف قيمة مايملك لصار ابو الحسن مدني ومتحفه في بورتسودان التي احبها ولون شوارعها بريشته متحفا عالميا لايقل عن متحف اللوفر واي متحف عالمي، ابو الحسن مدني ذاكرة أمة ترفض ان تمسح او تهمش، ابو الحسن مدني ضمير شعب لاتدفنه اكوام الرمال والمجاعات ، ابو الحسن مدني صرخة الطبيعة البكر في وجه الزيف، ابو الحسن مدني ذلك الانسان البسيط العظيم الذي قضي عمره راجلا عاملا بيده وعرقه حتي آخر لحظة في حياته ظل يجمل الامكنة برسوماته ويمضي بلا أجر ولاضجيج ولاوزراة ولاوسام ولابحث عن شهرة او مقابل، ضاحكا كطفل ، صافيا كنهر، رائعا كلوحاته، يستقبلك بالبشر كله، يقبل كل تكليف كطفل صغير وينتظر رأيك في عمله كتلميذ وهو المعلم، هو بوابة من بوابات السودان ، ركن من اركانه، نخلة من نخلاته هوت في النيل، جبل من جبال بحره الاحمر ذاب في البحر حاملا خصب النيل الي بلاد ليس فيها نيل وطمي، هو رجل جعل من الحربة بالونا ومن الدرقة دفا ومن عثمان دقنة وجها ناطقا بثورته وعذاباته ، هو رجل أخرج المرأة البجاوية من خدرها وجعلها ترتاد العالم وتصنع الدهشة اينما وقعت عليها عين، هل مثلي بقادر ان يكتب عنك يا استاذي، هل مثلي بقادر علي ان يبلغ قمة جبلك التي بلغتها واسترحت فوقهاكما يستريح طفل علي صدر أمه،ابو الحسن مدني هو من صمم ورسم لوحة غلاف روايتي الرمال يافاطمة، تلك اللوحة التي اتخذتها خلفية لصفحتي الخاصة، وكنت أزمع الاستعانة به لتصميم لوحة روايتي الجديدة نيران كامنة، لكن الموت كان أسرع ونعاه الناعي اليوم، كنت في مروي في احضان التاريخ حين رن الهاتف وجاءني صوت الاخ طارق بركة دامعا وحزينا يعزيني في فقدي فهل تري كان ذلك صدفة ان تتلقي خبر وفاة رجل صنع تاريخا لشعب في حضن حضارة تليدة هي حضارة نبتة؟، رحل ابو الحسن مدني أحد اهم رسامي السودان ان لم يكن أبرزهم، رحل رائد الواقعية في التشكيل السوداني مخلفا فراغا يحدثه رحيل شمس وقمر عن كون، رحل المبدع الكبير ابو الحسن مدني اليوم في عروس البحر حيث عاش حياته الحافلة بالبذل والعطاء والابداع، جمعنا منتدي اصداف للاداب والفنون معه ومع جمع من اخوته التشكيلين ببورتسودان ولفيف من مثقفي البحر الاحمر، سعدنا بصحبته وطالعنا اعماله وشهدنا ولادة بعضها،قمت بنشركثير من اعماله والتعريف بها في الشبكة العنكبوتية لايماني بانه رجل لم يلق ما يستحقه من اهتمام ورواج وظللت أسميه بيكاسو السودان ولكنني اليوم اقول رحل ابو الحسن مدني اعظم رسامي السودان الذي يتشرف بيكاسو بمقارنته به ومقارنة اعماله به رحل ناثر العطر والمسك والجمال نم هانئا ايها الفنان نم هانئا ايها الرسام نم هانئا ايها المقاتل بالريشةوالألوان نم هانئا ايها الجميل اللهم ارحم ابو الحسن مدني واحسن اليه بقدر ما اعطي لشعبه .

    Picture 024.jpg
    لوحات سودانية 007.jpg نماذج من اعمال الراحل ابو الحسن مدنى

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 17-08-2014 الساعة 10:22 AM
  42.  
  43. #22
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mahagoub مشاهدة المشاركة
    السهل الممتنع
    سرد يقودك بسلاسة حتى آخر حرف
    ما بين اماكن وشخوص واحداث
    هكذا عهدناك
    صديقي محجوب
    أجمل هدية يقدمها المرء لمن يحبه
    هى مخزون الذاكرة الوقادة
    فهى معرفة
    وهى تجربة
    وهى حياة تستحق أن ينقب فيها الناس عما يحبون وعما ينفعهم وعما يريدون اجتنابه وعما يريدون اتباعه

  44.  
  45. #23
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    من البومات الذاكرة
    صورة 4

    (سعاد نور الهدي كنة قصة البنت النبيلة) في الزمن القبيح

    مازلت اعتقل اللحظة عند ذاك الزمان واحن الي تلك الوجوه النبيلة وتلك الايام..حكايات كثيرة عن شباب بسيط جميل حالم بوطن فسيح جمعته محبة كبيرة وبحث جميل عما هو جميل في الاخر...كانت الثانيةوسط احلامهم واحزانهم تساوي عمرا...فكيف تبهت تلك التفاصيل وتلك الاضواء الجميلة الصادرة من قلوب رجال ونساء صغار كبار عامرين بكل ماهو فريد...هل تعرفون سعاد نور الهدي مثلا؟ هي غزالة سودانية عاشت بصمت وكافحت ببسالة وماتت في ريعان الصبا بشرف يساوي الاستشهاد كانت رفيقتنا في جامعة القاهرة وتخرجت من كلية الحقوق وناضلت حد انها باعت الخضار لتعيش بشرف... هي أمراة اخري من نور ومصابيح وهي زوجة الصديق الحاج وراق ورفيقة حياة صعبةوصاحبة تضحيات جسام.....
    سعاد عليها رحمة الله تستحق ان تدرس سيرتها للتلامذة...ذلك الصمود..تلك البساطة...ذلك الوجه الملائكي الذي تعلوه نظارة طبية...تلك الابتسامة الصافية ...اتذكرها كانها امامي...اتذكر فرحة طفلها الصغير بالبيض وهو يركض في سعادة معلنا للجميع: عملوا لينا بيض!!! فرحة ابن مناضل ومناضلة عاش ودفع ثمن خيارات ابويه...
    كان الحاج وراق مختفيا يمارس حياة قاسية وكانت سعاد
    الام والاب في البيت الذي فتح مع معاناة الاختفاء وتنقل ربه في دروب موحشة
    معرفتنا بسعاد انا واجلال زوجتي لم تكن مجرد معرفة كانت
    جامعة القاهرة شاهدةعلي علاقتنا انا واجلال ،وشاهدةعلي علاقة سعاد والحاج،
    عشنا تفاصيل انسانية كثيرة في الجامعة
    عشنا ضجيج الجامعةوزخمها واحداثها المتلاحقة
    وتوتراتها واحداثها المتلاحقة،ولحظات الاسترخاء والانشطة الثقافية والكورالات
    وكانت سعاد واجلال واخريات كثر شريكات في كورال جامعي تغني باناشيد وطنيةواغنيات حالمات بما في ذلك نشيد الجهادية الحلبونا شدو جمالهم وجونا جهدية الاورطية
    جهديةوسيف وراية
    الي اخر النشيد
    اتذكرهن بثياب بيضاء وهن يغنين بحماس من ملك الدنيا وحقق الاحلام ،واتذكر كيف كنا نتفاعل مع كورال رابطة ارهاص للاداب والفنون التي اضاءت سماء الجامعة في ذلك الزمان المضئ ، كانت سعاد في وسطهن متألقة أنيقة بطولها الفارع وعيون واسعة ووجه لاينسي فهو بوابة مسكونة بالحنين وانين السواقي مجمل بأضواء الروح التي تعطيه هالة نورانية وألقا فريدا،كانت سعاد قصيدة جميلة من
    أروع قصائد والدها الشاعر الشايقي نور الهدي كنة،اكثر مايميزها البساطة والمرح
    وتلك السمات السودانية فيها:
    البساطة
    الثقة في الاخرين
    حسن الظن الدائم
    حتي عندما اضطربت الاجواء في الجامعة بين الفرق السياسية المختلفة وأطل العنف برأسه كانت سعاد لاتأخذ الامر علي محمل جد بل تنظر اليه كمزحة مضحكةوتتعامل مع الاخرين بمثاليةوحسن ظن ولطف لاحدود لهما،فقد كانت بطبيعة خاصة فيها قادرة علي تجاوز الخارج الفظ وملامسة الانساني المشترك في الناس،سرعان ما أنقضت سنوات الجامعة وخرجنا للحياة مستبشرين والأحلام تتقافز عن يميننا وشمالنا،
    وكنا حضورا في زفاف بهيج زفت فيه سعاد الي الحاج وراق بدار المعلم جوار الجامعة حيث نبت الحب في قلبيهما وكنا شهودا عليه،
    واتذكر الان ورقة صغيرة ارسلها معها الحاج الينا
    ليلة زفافنا انا واجلال معتذرا عن الحضور،فلم يكن متاحا له ذلك
    لكنه لم ينس ان يرسل الينا التهانى ووصفة سحرية قائلا ان الزواج قوته في القدرة علي الاحتمال والتفهم، ولعل منسخرية الاقدار كانت ان لقاء الحاج بزوجته بات جريمة تستوجب استدعائها وخضوعها لاسئلة كثيرة عن مكانه
    عاشت حياة قاسية
    تعرضت الي الابتزاز والى شظف العيش
    ولكن لم تلن لها قناة
    وظل تمارس حياتها سرا
    وتلهث خلف ما يسد الرمق جهرا ببسالة مصارع ثيران اعزل في قفص ممتلئ بالثيران الهائجةوالثعابين،لم تلن لها قناة.وتحملت اقدارها بجلد وثبات ،
    شحب وجهها المضئ وعلاه رهق،واختفي قسم كبير من الاناقة خلف رائحة الشقا
    لكن نورها الذي بداخلها لم يموت حتي لاقت ربها
    كانت صاحبة اكبر ابتسامة رضا،ولم تشك حالها ابدا
    كانت تحكي وتضحك كأنها تشاهد فيلما كوميديا
    كانت أمرأة تجسد عظمة أمة وشعب
    كانت أمرأة
    من نور
    وصمود
    وزهور
    وأروع قصيدة كتبها ابوها
    سلام عليك سعاد نور الهدي
    سلام عليك وشوق اليك
    وقبعات ترتفع احتراما لك
    فلترقد روحك بسلام
    لترقد روحك بسلام
    أيتها النبيلة الجميلة

  46.  
  47. #24
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    من البومات الذاكرة
    صورة رقم 4539685_10150909232171801_1500355195_n.jpg

    (عبد الحفيظ علي عثمان)
    سقوط شجرة في النهر
    تبكيك القماري في ابوهشيم، تنوح بأعلي صوتها يا عبد الحفيظ،تبكي الفنجري، اخو البنات، الحر،تبكي الفهم والرأي والكلام الدر.
    كان صباح البارحة الرابع والعشرين من يونيو صباحا أسودا وحزينا، كان فنجان القهوة مرا وأسودا أكثر من المعتاد، كان التلفون نذير شؤم حين حمل الي نعي ( عبد الحفيظ علي عثمان) رحل عبد الحفيظ ياصلاح، قالها أخي عبد العظيم ودموعه تجري عبر الاسلاك والفضاء في الصحاري الواقعة بين مروي والخرطوم، كان يبكي كطفل وتحنقه العبرات، قلت دون وعي ودون تفكير: عبد الحفيظ!!قال بصوت خافت وحاسم عبد الحفيظ ياصلاح، كانت المفاجأة أنه كان يصارع السرطان الخبيث منذ زمن وكنت آخر من يعلم، كنت القاه متوردا بالحياة متوقد الذهن يناقشني بذات الحيوية وذات الجمال والسلام الداخلي كأنه يحيا الي الأبد، كأنه لايشكو علة ولا ألم،كان يحاورني حول الرمال يافاطمة وحكايات أبوهشيم الحبيسة في الصدور، يحكي فيضحك مع كلمة ويضئ وجهه الشبيه برمال ابو هشيم حيث حبا ونما وخرج الي العالم شجرة باسقة وعلم غزير وروح متوثبة للخير عامرة بالمحبة، ماغيرته سنوات الدراسة بأعتي جامعات البلاد، جامعة الخرطوم، ما غيره منصب كبير أحتله بوزارة المالية، ولاهزته الخطوب، رحل محجوب شقيقه باكرا بعد معاناة مع المرض، لم تهتز الشجرة ولم تتيبس العروق، رحل محمد البدوي جمال الدين ابن عمته ذلك المعلم الفريد الذي خلدت سيرته في رواية الرمال يافاطمةممثلا في الطيب ود محمود، ولم يهتز عبد الحفيظ وظل صامدا مثل جبال ام سرح وشجر الطندب فيها واشجار النخيل والدوم في وجه الرياح والتصحر والرمال،قبل ذلك رحل والده علي عثمان تلك الشخصية الأسطورية التي استعرتها من الحياة وكتبتها محبة في الرمال يافاطمة، علي عثمان هو راوي ابو هشيم وزينتها وترزيها وصانع الجمال فيها بالنكتة الحاضرة والكلمة اللطيفة والروح المتوهجة والحب للناس،بتلك الشجرة المباركة كان البشاري وهو من أشهر مناطق ابوهشيم مضئيا ككوكب دري يوقد من شجرة مباركة، كانت وابور علي عثمان حاملة الخصب للارض وكانت زراعته مخضرة دوما مثل صاحبها،وكان محجوب وعبد الحفيظ وجمال واخواتهم بدورا وامهات حسن وأمونة تتوسطهن أمهن فاطمة بت بابكر ذات الملامح الطيبة والقلب الكبير عليها رحمة الله، كانو جميعا ثريات في بهو أنيق وكانوا مثل الماء الذي تجلبه بابور علي عثمان حاملين الخصب حيثما حلوا،رحلت حاجة فاطمة في مطلع يونيو قبل اسابيع ولحق بها عبد الحفيظ قبيل نهايته، كأنما اراد اللحاق بها محبة وتدلها في أم مكافحة صبورة أو قل كأنه انتظر رحيلها حتي لايعذبها رحيله، كانت تدعو الله علنا أن يكون رحيلها قبل رحيله وكان عبد الحفيظ يدعو الله ان يكون رحيله بعدها ليس زهدا في حياتها بل خوفا عليها من حزنها عليه ، وأرادت ارادة المولي ان تستجيب لكليهما فرحلت هي أولا ولحق بها هو ،اللهم تقبلهم جميعا قبولا حسن وأجعل الجنة مثواهم،، ثمة حكايات معلقة ياعبد الحفيظ لم نكملها، ثمة أشعار موروثة لم أنقلها عنك كما وعدتني، ولم أر علي عثمان الصغير الحفيد، لم يتشبع بحكاياتك عن جده ولم يقبض منك شيئا بعد، من يقلها لي يا عبد الحفيظ مثلما كنت تقولها: ياخال. مذكرا أياي كعادة أهلنا الرباطاب بموقعي في شجرةالنسب، بينما كنت أنت في شجرة الحياة أبا للجميع وصديقا للجميع وأكبر نخلات أبو هشيم وأطولها وأجودها تمرا وأكرمها جودا وعطاء،رحيلك هو حقا سقوط شجرة في النهر شجرة تحمل بذورا تكفي لغرس الخير والخصب في كل الكرة الأرضيةشجرة
    في كل سنبلة منهامائة حبة،**(وهل يموت الذي كان يحيا وكأن الحياة أبد وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد)نم هانئا عبد الحفيظ، نم هانئا قرير العين، فما هزمك السرطان يوم تسلل الي الجسد النحيل ولكنه هو الذي انهزم، وما مات من كان في قلوب الناس يحيا للأبد،نم هانئا أيها النسر الطليق نم هانئا ففي ***البشاري تتناقل سيرتك القماري وتحملك الجداول خصبا لايموت


    • الأبيات للشاعر أمل دنقل في رثاء يحي الطاهر عبدالله.
    • البشاري حى من أحياء أبوهشيم.

    التعديل الأخير تم بواسطة صلاح سر الختم علي ; 17-08-2014 الساعة 10:18 AM
  48.  
  49. #25
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    صورة رقم 5
    لويجى الحصان الأسود النبيل

    30 يوليو، 2012، الساعة 10:48 مساءً

    رحل في هذه الظهيرة بالقاهرة رجل نبيل رجل قل أن يجود الزمان بمثله ،
    رحل عن الفانية صديقيوزميلي القاضي السوداني من أصل جنوبي / لويجي جون نيجاك الامين العام السابق لرابطة اهل الهلال ببورتسودان الهلالي الغيور والمخلص والعاشق للهلال ، القاضي العالم والشجاع والنزيه والحازم الذي لايخاف في الحق لومة لائم ، عرفته مدينة بورتسودان فتي تربي في سمومها وحرها وكابد معاناة أهلها في سنوات الدراسة ، وعرفته قاضيا متميزا عطر ساحات محاكمها بعلمه الغزير واحكامه التي لاتنسي وتواضعه الجم مع الصغير والكبير، عرفوه ودودا في حزم وحازما في طيبة ورصانة وسمو خلق، وعرفه زملائه باحثا عن المعرفة بشغف ومتفانيا في عمله باخلاص ووحدويا لايشق له غبار، بقي حيث نبت ونما يحمل محبة لاحدود لها لجذوره واعتزازا كبيرا باصله الشلكاوي ، لكن سودانيته كانت الأعلي بين انتماءاته،كان يتمزق وهو يري الوطن يمضي نحو التمزق والانفصال ، ولكن أمله في انتصار الوحدة لم يخبو أبدا، حتي كان ذلك اليوم المشؤوم الذي انتصرت فيه ارادة الانفصال، حزن الرجل حزن الحراز، وبقي متمسكا بأمل آخذ في التلاشي حتي أفاق ذات يوم ليجد نفسه أجنبيا حيث حبا ونما وصار قاضيا ملء السمع والبصر، أصبح صبح كئيب فوجد لويجي جون نيجاك الشلكاوي السوداني أبا عن جد والراكض حافيا في بورتسودان في صباه ولم يشفع له عرق بذله لكي يتعلم واشواك مشي فوقه لكي يتميز، وجد نفسه أجنبيا لايشفع له جواز سوداني وجنسية وبطاقة شخصية وبطاقة قضاء مكتسبات بالعرق والتاريخ والجغرافيا والقانون، بات أجنبيا وسقطت عنه ولاية القضاء ، فقد كل أوراق الهوية المكتسبة وبات جنوبيا أجنبيا مقيما بصفة مؤقتة،جون واخيه واخته اولاده المولودين ببورسودان باتوا اجانبا وكذلك وميري زوجته السودانية أبا عن جد باتت أجنبية، رحل لويجي مرغما الي الجنوب ملاذه الباقي أو ما تبقي له من وطن كبير، ترك اسرته الصغيرة بامدرمان وسافر مرغما بأمر سرطان الساسة السودانيين، وهناك كان سرطان آخر يتربص بالفتي الأبنوسي، تسلل السرطان الي كبده والي ظهره رافضا الرحيل كما تسلل سرطان الساسة الي جسد الوطن النحيل ونهشه، نهش السرطان لويجي، اربعة اشهر كان عمر رحلته مع المرض اللعين وحلقت روحه في سماء القاهرة في الظهيرة بعد غيبوبة أمتدت ولم يعرف خلالها أخبار الوطن واخبار معشوقه الهلال، بكت الاسود في الغابات وبكت صقور شاهين في البحر الأحمر وبكت القماري في الشمال.....سكت المغني....نعاه الناعي للرفاق المتوزعين علي مدن الوطن بالتساوي ، كان صوت ميري وهي تبكي وتطلب الدعاء له هو الأعلي، كانت حبيسة بامدرمان كونها اجنبية لاتملك وثيقة سفر تصلح للسماح لها بالخروج من الوطن لملازمة رفيق عمرها وووالد صغارها في رحلته الاخيرة، بخل الوطن عليها بوثيقة سفر وهوية، هي جنوبية مع وقف التنفيذ وسودانية فيما سلف قبل المذبحة مذبحة الانفصال السياسي الذي لم ير عذاب البشر ولم يراع مشاعرهم ولم يحفظ حقوقهم الانسانية المكتسبة، رحل لويجي وحيدا، وبقيت ميري تبكي في امدرمان وطنا ورجلا وطن....وبقينا عاجزين حتي عن الصراخ.............
    اللعنة علي من فعل هذا ببني وطني
    كان تلميذي وكان صديقي
    وكان اخي كان بيته بيتي وبيتي بيته
    وتوسد قلبي وتوسدت قلبه الكبير
    جمعنا العمل ببورتسودان
    وجمعنا عشق الهلال والعمل برابطة اهل الهلال
    وجمعنا حب كرة القدم وحب مهنة القانون
    كان قلبا كبيراوانسانا جميلا
    واكبر خرخار جميل في فريق الصنداي الذي جمع ثلة من عشاق كرة القدم المتقاعدين ببورتسودان
    كان يلبس الازرق دوما ولايرضي الا بالانتصار،
    كانت ميري زوجته وجون ابنه الاكبرورزق بولد آخر وبنت لم أراها فقد فرقتنا السبل
    حتي جاءني الخبر كالصاعقة نهار اليوم
    في شكل استغاثة مفزوعة من ميري عبر الاسلاك تقول ان لويجي يحتاج دعاءكم
    وانني لا استطيع ان اكون جواره في محنته لانني بت أجنبية
    وبعد أقل من الساعتين من الاستغاثة جاء نعيه كالصاعقة
    وتناقلت الهواتف الباكية خبر رحيل الرجل النبيل
    نم هانئا ياصديقي
    نم هانئا أيها النسر المحلق
    نم هانئاأيها السوداني النبيل الذي لن تنزع سودانيته سرطانات سياسية بليدة
    ولاسرطانات جلبها الساسة لأجساد معافاة قصدا
    نم هانئا أيها الشهيد
    نم في تراب الجنوب
    فهو جزء أصيل من وطنك الكبير
    ودع ميري وجون واخيه واخته في أمدرمان سادةسودانيون لايعترفون بالحدود المصنوعة المصطنعة
    نامي هانئة ميري في ضفة النيل الابيض وأرسلي سلامك الي لويجي عبر مائه الرقراق
    لويجي أخي قل لاعاش من يفصلنا
    قل لاعاش من يمنع جون من أرض حبا فوقها هو وأبيه ونميا.....
    فلترقد روحك بسلام أيها الصقر المجنح.

    الولاية الشمالية
    مروي30/يوليو/ 2012
    560979_10150981242256801_1397389701_n.jpg

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid