كتب الشاعر المرهف محمد محي الدين قصيدة رائعة حول استشهاد طه يوسف عبيد سماها عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر ... وهي لوحات رائعة لم تسجل الاستشهاد البطولي لطه يوسف عبيد وحده بل جسدت سيرة مدينة مدني بمجانينها واساطيرها
وكانت كلمات اقوي من الرصاص(شرد اللون والريشة انتفضت .. رابطت في الشوارع)
اعدكم بنشرها قريبا فهي صفحة من تاريخنا الثقافي
ومحمد محي الدين كان ولازال ركنا ثقافيا كبيرا في مدني وهو صاحب صوت شعري قوي ومتفرد ولغته لغة معطونة في الشجن والثورة وهو صاحب ديوان الرحيل علي صوت فاطمة
في ذلك الزمان كنا نطارد محمد محي الدين في الليالي الشعرية لنستمع للقصيدة وفي كل مرة نشعر بأننا نسمعها لاول مرة
وكنت استعيد تلك اللحظات القاسية كلها
كنت صغيرا وكان طه صغيرا وكنا نظن الدنيا اناشيد وقصائد وزهور وابتسامات
ولم نكن نظن ان فيها من يقتل انسانا لمجرد خروجه في مظاهرة سلاحها كالشعراء: كلمة..
مجرد كلمة وهتاف؟
مازالت تلك القسوة قابعة في اعماقي
مازلت اذكر العنقريب الاحمر الذي احضره بعض الطيبين من دكان ترزي اسمه الحريري
دكانه كان غرب كلية المعلمات
احضروا منه العنقريب ذي القوائم الملونة وووضعوا فوقه جسد طه الغض
وساروا به الي مستشفي مدني وسرت معهم مذهولا ومفجوعا
حتي حين تهامس الناس وسمعت سيرة الموت اول مرة لم اصدق ذلك
وعدنا من هناك الي منزل الاسرة بحي المزاد خلف مدرسة السني مباشرة
ذلك البيت الحبيب كان مكتظا بالبشر والميادين الاربعة امامه كانت كذلك
وفي الغرفة الصغيرة كان هناك خال الشهيد عبد العزيز عبد المنعم حافظ
والاستاذ مجدي سليم المحامي والاستاذ صلاح دفع الله وقائمة طويلة
وكان هناك افراد الشلة الحبيبة جميعهم
وهناك احضرت عربة الجثمان
من ذلك المكان خرجت مظاهرة اضخم لتشيع طه الي مثواه الاخير
عبرت المسيرة حي 114 وحين بلغت امام مدخل المؤسسة الفرعية للحفريات لعلع الرصاص مجددا
وسقط الشهيد الخانجي
وسقط العنقريب الذي يحمل جثمان طه نحو الارض بعد ان أصيب احد حملته وتفرق الاخرون وانبطحوا ارضا لتفادي الرصاص المنهمر
بقي طه وحيدا وبجواره والده الشيخ يوسف عبيد الذي جلس القرفصاء جوار الجسد المسجي وامسك باحدي القوائم وبقي هكذا غير عابئ بالرصاص.. توقف الرصاص أخيرا...جاءت عربة مجروس تابعة للجيش لتخلي جرحي الغارة ورأيت بأم عيني ضابطا بزيه الرسمي ممسكا بالجندي الذي كان قد اطلق الرصاص وهو يهزه بهيستيريا وغضب بعد ان تم تجريده من السلاح... كنت ملقي علي الارض بجانب الاسفلت...نظرت نحو طه وابيه ... كان يبدو نائما وابيه يحرسه اثناء نومه ،كان مغطي بالابيض.. وكنت واثقا انه كان يبتسم كعادته............
كان استشهاد طه يوسف عبيد حدثا لاينسي ولا يتكرر، كنا صغارا قليلي التجربة يدفعنا فضول الصغار الي ارتياد افاق جديدة ولم يكن اكثرنا تشاؤوما يظن ان الخروج في مظاهرة والهتاف بكلمات يمكن ان يكلف المرء حياته، كنا نظن لسذاجتنا ان الخروج في مظاهرة مثله مثل دخول مباراة كرة قدم او السينما او الذهاب الي ليلة شعرية ليس ذنبا ولاجريرة، لذلك كانت صدمتنا كبيرة، طه الضاحك الجميل الطيب الرسام لم يؤذ احدا فلم يقتلونه؟
لذت بصمت كبير وأنكفأت علي حزني واسئلتي وظللت اذهب كل يوم صباحا الي منزل العزاء صباحا وابقي هناك حتي المساء صامتا اذهب وصامتا اعود وقدرة غريبة علي حبس الدموع قد هبطت علي من حيث لا أدري، كانت امي مرتاعة حزينة ترقبني في مجيئ ورواحي وهي قلقة ، حتي كان يوم، عدت من بيت العزاء عند المغيب في اليوم العاشر لاستشهاد طه وتوجهت نحو الحمام وقبل ان اصله وجدتني انفجر بغتة كالقنبلة بالبكاء ... بكاء طويل ... بكاء لم ابكه من قبل ولا من بعد.. اتذكر دموع اخواتي والخوف في عيونهن ويد أمي الحانية ونظرة الراحة في عينيها وصوتها رخيما دافئا في أذني وهي تحرضني علي البكاء مؤكدة ان البكاء خير من صمتي.............................................. ............
المفضلات