للكتابة شهوة لاتقاوم حين تجئ، وهى تجئ عادة على غير انتظار وبلا مواعيد مسبقة ودون أن تسمح لك بارتداء ملابسك أحيانا ودون أن تصافحك أو تلقى السلام عليك، تحط فجأة كنسر أسطورى وتأخذك بعيداً دون أن تمنحك حق الرفض أو الموافقة أو المعرفة المسبقة بمسار الرحلة،قد تكون الرحلة ريبورتاجا معاصرا يجول بك في الحاضر بكل حرارته وقسوته وجراحه، وقد تكون إبحارا صوب الماضى وكهوفه البعيدة وأشباحه وظلاله الغامضة، وقد تكون امتطاء لآلة الزمن الأسطورية وتوجها نحو المستقبل الغامض الذي لايطوقه خيال المؤلفين ولاتهويم الشعراء، والكاتب حين تغشاه شهوة الكتابة يكون مجذوبا في حلقة ذكر ، لايكف عن الدوران والذوبان، يظل الكاتب يعصر لربه خمرا دون توقف، الطير تأكل من رأسه ولايتوقف عن الكتابة، ولايخطر بباله أن يستفتى أحدا حول تفسير رؤياه أبداً، وجرثومة الكتابة تكاد تكون هى الجرثومة الوحيدة التى يقف الطب أمامها عاجزا وغير راغب في فك شفرتها السرية أو اختراع مصل مضاد لها، فكل مصل قذفت به جرثومة الكتابة أصابته العدوى ولم يكف عن الكتابة منذ التحامه بها، حتى صانع المصل هجر مختبره وأمسك بالقلم وبات مسكوناً بجرثومة الكتابة. الكتابة هى رياضة العقل اللطيفة وقهوته جيدة الصنع التى تورثه صحواً وألقاً وشباباً متجدداً، عروسها الكلمات وعطرها النقاط فوق الحروف وروحها الحكمة المخبوءة بين السطور، ووهجها الفكرة التى لاتموت ولاتنطفئ أبداً،وعصيرها التجارب المعتقة بنبيذ الحكمة وتفاح السنين الذى لايصيبه عطب ولاتفسد مذاقه الأيام. وحدها غواية اللغة والركض خلف المحسنات هى القادرة على جعل الحروف زهورا صناعية عديمة الرائحة لاحياة فيها ولافكرة، وحدها غواية اللغة هى القادرة على جعل الحروف جوفاء والنص مقبرة والفكرة اداة للقتل. وحدها غواية اللغة قادرة على جعل الشاعر والكاتب من عبدة الذات وهدام الملذات.لذلك ينبغى للكاتب حين تحضره شهوة الكتابة أن يحرص على أن يكون عقله صحوا، وأن يسيطر على اللغة ولايسمح لها بالسيطرة عليه ، وأن يتذكر ان الكاتب فارس على صهوة جواد ،إن لم يمسك باللجام ، فلربما انكفأ على وجهه ونفق حصانه. ولعل من فوائد النشر الإلكترونى الكثيرة التى لايدركها الكثيرون ، ان الكاتب يتلقى ردود أفعال فورية ومباشرة على نصوصه تضع يده في أحيان كثيرة على أوجه الخلل في تلك النصوص ، وعلى المواقع التى خضع فيها لغواية اللغة وأفلت حصانه فيها من سيطرته، وباخضاع النصوص للأضواء الكاشفة للقراء الجيدين ( وهم في الغالب كتاب ) يخضع الكاتب تجاربه الإبداعية لمزيد من التمحيص والتدقيق والتجويد الذى يرتقي بالنصوص وكاتبها.
صلاح الدين سر الختم على
21 اغسطس 2014
المفضلات