الفصل الأخير ,,,
الفصل الثاني والعشرون
عزلت رحمة نفسها في غرفة نومها وهي تتلهف لقراءة خطاب شقيقتها منذ ان سلمه اياها محمود ظهراً عند عودته من العمل .. وضعته في جيب قميصها وظلت تتحسسه كل دقيقة للتاكد من وجوده في مكانه .. كان صبرها يقل كل ما بدات في مهمة جديدة من مهامها المنزلية ..اخيراً وعندما تفرغت تماماً تربعت في منتصف سريرها وحملت الظرف الازرق ضمته الى صدرها واستنشقت رائحته بشوق ... لقد اعتادت منال ان تضع لها بضع قطرات من عطرها المفضل داخل كل رسالة فترسل لها لمحة منها يبقى عبيرها لفترة طويلة .. بدأت القراءة الاولى التي كانت تتبعها عادة قراءت اخرى حتى تكاد تحفظ مواقع النقاط والفواصل المكتوبة بخط منال المنظم الانيق ...
ستوكهلم 12 سبتمبر ...
اختي الحبيبة رحمة .. قبل أي شئ خليني اقول ليك كل سنة وانتي طيبة .. وعقبال مية سنة من العمر المليان صحة وعافية يا رب ... اتمنى جوابي دة يوصلك في نفس يوم عيد ميلادك .. ما تخافي طبعا حاضرب ليك تلفون لاني مشتاقة لصوتك وصوت العيال .. لكن رسلت ليك الجواب عشان عارفة هوسك في الاحتفاظ بجواباتي ...
ابتسمت رحمة وهي تسترق نظرة خاطفة الى الصندوق الخشبي الصغير المطعم بالصدف وهو يحتل مكانه الاثير بجانب سريرها ... كانت تحتفظ فيه بكل رسائل منال التي بدات ترسلها لها بعد مغادرتها البلاد منذ اربع سنوات لم تعد فيها الا مرة واحدة عند وفاة جدهم حامد ود العمدة الذي رحل بهدؤ اثناء نومه وعلى وجهه شبح ابتسامة غامضة .. لم تستطع اللحاق بمراسم الدفن التي تمت في القرية حيث دفن في قبر ملاصق لقبر زوجته الاخيرة امونة وطفلهما كما اوصى قبل موته بزمن طويل .. عند وصولها متعبة وحزينة بعد رحلتها الطويلة ارتفعت حرارة البكاء مرة اخرى .. وعندما احتضتنها بلقيس بعنف .. لاحظت رحمة الغمزات المتطايرة بين اهل والدتها المحتجين على سفر منال وبقاءها وحيدة في دولة اوربية .. لقد كانت حاضرة اثناء غالبية المشاحنات التي وقعت بين امها واهلها ... كانت بلقيس تدافع بحرارة عن حق ابنتها في التعليم ...
- منال من حقها تتعلم لغاية آخر درجة في التعليم ..انتو ليه عاوزني امنعها ؟؟ عشان هي بت ؟؟ وشنو يعني بت ؟؟ انا بتي مربياها كويس .. بثق فيها وفي اخلاقها وتصرفاتها .. شنو المشكلة انها تكون براها .. حتعمل حاجة غلط يعني ؟؟ طيب هي لو عاوزة تغلط وهي قاعدة هنا ومعاي في بيت واحد تفتكروا انا بقدر امنعها ؟؟ انتو عايشين وين ؟؟ زمن الرقابة حقت الاهل البسالوا البت ماشة وين وجاية من وين ومصاحبة منو دي انتهت زمان ... الزمن الفينا دة الرقابة بقت الا من جوة البني آدم براهو .. والواحدة لو عاوزة تعمل شئ غلط لا ام ولا ابو ولا اخو ولا عم بيقدر يمسكها .. هسة البنات الحايمات هنا ديل ما قاعدات مع اهلن ؟؟ قدروا يمنعوهن ؟؟!! ... حاول البعض من اهلهم تاليب الاب الغارق في ملذات حياته لمنع ابنته من السفر .. لكنه لم يهتم ... خصوصا عندما علم بموافقة ود العمدة ومباركته لخطوة حفيدته التي اثلجت صدره بتفوقها في الحصول على الماجستير والدكتواره في زمن قياسي جعلها حديث النشرات الطبية نسبة لتخصصها الجراحي النادر ... أحست رحمة بغصة في قلبها لابتعاد شقيقتها الوحيدة .. وكانت من اشد المعارضين لقرار سفرها .. لكن اصرار منال الشديد ... وموافقة بلقيس المترددة التي حسمتها موافقة ود العمدة وحماسه الشديد للفكرة جعلها تصبح واقع خيم بظله الحزين على كل اهل البيت .. وخلال اقل من شهر كانت منال قد انهت كل اجراءتها ... لم يثنها شئ لتاجيل مواعيد رحيلها .. حتى توسلات صديقتها الحميمة جاكلين للبقاء بضعة ايام فقط لحضور زواج جمال لم تجعلها تغير رائيها .. اعتذرت وتعللت بمطالبة الجامعة لها بالحضور في موعد محدد للحاق بالفصل الدراسي ... خلال تلك الايام اصبحت رحمة تتبع منال كظلها وهي لا تكاد تصدق بانهما سوف تفترقان .. لكن تصرفات منال كانت تصيبها بالحيرة .. فقد بدأ وكأن شقيقتها تتهرب من البقاء مع افراد اسرتها وتفضل التغيب خارج المنزل لساعات طويلة بحجة تجهيز الاوراق اللازمة للسفر .. وحتى عندما تعود من مشاويرها التي لا تنتهي كانت تتظاهر بالتعب لتبقى وحيدة في غرفتها .. وتبكي ...
كان حزن منال العميق يفزعها .. لقد اعتادتها مرحة حتى في اصعب الاوقات ... لكنها خلال الشهر الاخير تحولت الى مخلوقة اخرى .. اختفت ضحكاتها وغابت ابتسامتها .. نحل جسدها وعافت نفسها رفقة احبابها .. لقد بذلت هي وامهما المستحيل لمعرفة اسباب حالتهاالغريبة .. لم تكلا من سؤالها ... وكان جوابها مماثلاً في كل مرة .. وتذكرت رحمة آخر نقاش دار بينهما واثار مزيداً من القلق في نفسيهما ...
- يا جماعة انا كويسة ما عندي حاجة .. بس الشغل كتير وانا مضغوطة شديد .. ما تقلقوا .. ايام وبتعدي ...
- طيب يا بتي اخدي اجازة وارتاحي لغاية مواعيد سفرك ما تجي .. يعني انتي حتفضلي تساسقي كدة لغاية يوم السفر ولا شنو ؟؟!!...
- اجازة ؟؟ لا يا امي ما عاوزة اجازة .. مش بيقولوا الشغل الكتير هو احسن علاج للزول عشان ينسى همومو ؟؟ ..
- هموم ؟؟ وانتي هموم شنو العندك يا منال ؟؟ يا بتي الله يرضى عليك وريني مالك .. لو عندك مشكلة احكي لي .. مش انا طول عمري باتعامل معاك انتي واختك على اساس اننا صحبات ؟؟ وريني الحاصل عليك شنو ... احكي لي مالك ..
- قلت ليكم مافي حاجة .. ما تكبّروا المواضيع ساكت .. انا كويسة .. العندي دة شوية ارهاق .. لكن انتي عارفاني يا امي انا بحب شغلي وما بلقي نفسي الا فيهو ...
- طيب يا منال ما تفكري في العريس المتقدم ليك دة .. يا بتي الولد ممتاز .. ادي نفسك فرصة تعرفيهو وبعدين قرري ايوة ولا لا .. لكن ما منطق انك ترفضي طوالي كدة من غير حتى ما تعرفي اي حاجة عنو ..
- امي الله يخليك ما تعكننيني بسيرة العرس دي .. انا قلت ليكم من زمان ما بفكر في الموضوع دة هسة .. لمن يجي وقتو ..
- ووقتو دة حيجي متين إن شاء الله ؟؟ حددي لي بعد كم شهر ولا كم سنة ؟؟ يا منال انتي كبرتي والقدرك كلهم عرسوا زمان واولادهم بقوا كبار .. وريني بس منتظرة شنو ؟؟ لو عندك زول معين في راسك كلميني بيهو .. وصدقيني مهما كان ما حنرفضو لاننا بنثق فيك وفي اختيارك ...
ردت منال بمشاغبة اعادت اليهم جزء من صورتها القديمة ...
- متاكدة يا امي ؟؟!! .. مهما كان حتوافقوا ؟؟!! اوعي بعدين تنطي من الكلام دة .. خليك شاهدة يا رحمة ..
بدت في عينيها نظرة جادة برغم صوتها المازح ... وعندما رات علامات التوجس تتقمص ملامح امها انهت النقاش بضحكة حزينة تبعتها اثناء انسحابها مخلفة ورائها عشرات الاسئلة في راس الام المتحسرة ... تذكرت رحمة اختفاء منال الغامض لعدة ساعات قبيل سفرها بيوم .. خرجت بصمت دون ان تخبر احدا عن مقصدها .. وعادت بحالة مزرية .. كانت ملابسها المجعدة الفضفاضة تنبئ عن كمية الوزن الذي فقدته خلال الفترة الماضية .. ارتمى شعرها المشعث وراء ظهرها باهمال .. بينما شعت عيناها المنتفختان بلون احمر وسط بشرة وجهها الشاحبة .. بهت الجميع لمرآها واكثرهم بلقيس التي اصابها الفزع على حال ابنتها .. فقد بدت كجثة تسير على قدمين .. وعندما حاولت ان تتبعها الى غرفتها التي دخلتها بشرود دون ان تلقي بالاً لافراد اسرتها المجتمعين بانتظارها .. ثبتها ود العمدة بحركة حازمة من عصاه ...
- خليها يا بلقيس .. منال بتمر بظرف نفسي صعب ما تضغطي عليها ... وهسة مافي أي زول يحاول يتكلم معاها .. خلوها لغاية ما تروق ..
- لكن يا ابوي ما شايف البت شكلها بقى كيف ؟؟!! هو سفرها دة في زول جابرها عليهو ؟؟!! مش براها المصرة وعاوزة تمشي ؟؟!! لو ما قادرة عليهو خلاص تخليو وتقعد تواصل تحضير هنا واهو عندها شغلها .. وتكون جنب الناس ...
- لا يا بلقيس .. منال لازم تسافر ...
اصيب الجميع بالاستغراب لرده الحاسم .. واندهشوا من حماسه واصراره على سفر حفيدته بعد توقعاتهم بان يكون اكبر رافض ومعارض للفكرة .. واصبح موقفه مبعث حيرة وتساؤل لدى افراد اسرته..
كانت رحمة تنتقل ما بين سطور الخطاب القابع في حجرها وذكرياتها التي تلغي الحاضر وتعود بها الى تلك الايام التعيسة التي اعقبت سفر منال .. لقد احست وكأن جزء من جسدها قد بتر ودخلت في كآبة عميقة جعلتها تهمل حتى زوجها وطفلها .. تحلى محمود بصبر فائق واصبح يعاملها برقة وحنان اكثر مما سبق حتى تغلبت على غياب توأم روحها وبدات تتعامل معه كامر واقع ...لكن اذداد قلقها لانقطاع اخبار منال طيلة الاربعة اشهر الاولى .. لم يصلهم منها غير مكالمة يتيمة اخبرتهم فيها بوصولها بسلام واستقرارها في الجامعة .. ثم تبعها صمت تام جعل بلقيس تكاد تموت لولا مواساة ود العمدة الذي كان يتكلم عن منال بحزن غريب ... عندما وصلتها اول رسالة بعد الانقطاع القاسي صارت ترياقاً لروحها المعذبة ...
المفضلات