تقرير: زهراء مختار
يعتبر إعلان الاستقلال من داخل البرلمان خطوة شجاعة لم يسبق أحد السودانيين فيها فهي أثبتت آنذاك أن الأحزاب السياسية تتوافق عند الشدة فلم يخرج حزب عن الإجماع الوطني حتى الأحزاب التي كانت تنادي بالوحدة مع مصر أعلنت وقفتها إلى جانب المصالح الوطنية وتنازلت عن المصالح الحزبية الضيقة ويبدو أن الأحزاب السياسية لم تكرر تلك اللحظة الوفاقية مرة أخرى فالظروف التي تمر بها البلاد دعتها إلى الأرتقاء والالتفاف حول السودان رغم أن النخبة السياسية الجنوبية لم تكون على توافق مع الأحزاب السياسية الشمالية ولكنها في النهاية وافقت على رأي الأغلبية على أن يمنحوا الحكم الذاتي في البلاد بتطبيق النظام الفدرالي, بالإضافة إلى ذلك فإن اتفاقية 1953م أيضاً هي التي قادت إلى 19/12/1956م لأنها تضم مواداً تدعو إلى تكوين ثلاث لجان، لجنة الحاكم العام ولجنة الانتخابات ولجنة السودنة, وفي جلسة تاريخية ضمت كل القوى السياسية السودانية تم الإعلان عن الاستقلال من داخل البرلمان حيث تقدم في الجلسة التاريخية العضو البرلماني عبد الرحمن محمد إبراهيم عن دائرة نيالا غرب بمقترح الاستقلال من داخل البرلمان يتم الدفع به إلى الحاكم العام وينص الخطاب على الآتي: نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نعلن باسم شعب السودان أن السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي بهذا الإعلان فوراً وأضاف: يسرني أن أتقدم بهذا الاقتراح العظيم في هذه اللحظة التاريخية الخالدة بعد أن اجتمعت كلمة الشعب السوداني المجيد على الاستقلال الكامل والسيادة للسودان ممثلاً في التقاء السيدين الجليلين وتأييدهما الذي تم بعون الله ولمرضاته ومصلحة البلاد العليا وأثنى على هذا الاقتراح التاريخي الخطير السيد مشاور جمعة سهل نائب دار حامد غرب وقال: أقدر مدى الشرف الذي يناله مقترح إعلان الاستقلال من داخل البرلمان لذلك أثنيه لأنه يمثل هذا الشرف التاريخي لهذه البلاد المجيدة وسيكون حداً فاصلاً بين عهد الاستعمار وعهد الحرية الكاملة والسيادة التامة والانعتاق الذي يجعل السودان أمة بكل مقوماتها لا تستوحي في شؤونها الداخلية والخارجية إلا مصلحة الشعب وإرادة الأمة وتقيم علاقاتها مع الدول جميعاً على قدم والمساواة وقال: أهنئ الشعب السوداني بفجر الحرية الذي يطل اليوم من هذه القاعة ويصل إشعاعه إلى كل ركن من أركان السودان ليبدد الظلام ويملأ البلاد نوراً وسلاماً ورخاء وفي كلمته قال زعيم المعارضة محمد أحمد محجوب إن قرار مجلس النواب الذي صدر في السادس من شهر أغسطس من عام 56 قرار تاريخي طالب بجلاء القوات البريطانية والمصرية وكان قراراً بالإجماع وفي العاشر من شهر نوفمبر غادر البلاد آخر جندي أجنبي فأدرك الشعب بجميع أحزابه وهيئاته أن استقلال البلاد التام أصبح حقيقة واقعة وارتفعت أصوات الشعب في كل مكان تنادي به باستقلال السودان التام ومطالبة الدولتين الاعتراف به وها نحن اليوم نتقدم بهذا الاقتراح باسم الشعب السوداني أن السودان قد أصبح دولة مستقلة ذات سيادة كاملة ونطلب من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف الفوري، وقال إن الشعب يعرف متى يختلف وعلى ماذا يختلف كما يعرف متى يلتقي ويقف صفاً واحداً فكلما داهمته الأمور والحوادث وكاد الشك يتسرب إلى نفوس الحادبين عليه وظنوا بنا الظنون وحسبونا قد تفرقت كلمتنا، وبرزت كلمة الشعب وقوته وتقديره لمصائر الأمور واستطعنا أن نجتاز الصعاب وأن نخط سطراً ناصعاً في تاريخ هذه البلاد وتاريخ أبنائها وفي حديثه قال مبارك زروق زعيم المجلس إننا نجلس هنا كنواب للأمة السودانية في هذا البرلمان الذي يمثل جميع وجهات النظر في البلاد والذي اعترفت دولتا الحكم الثنائي بصدق تمثيله في أكثر من مناسبة، من حقنا الإعلان عن الاستقلال يسندنا في ذلك الرأي العام السوداني كله ممثلاً في هيئاته وصحفه أن نعلن الاستقلال اليوم من داخل البرلمان يسندنا الشعب بكل مقوماته وتياراته ومن ثم أجيز الاقتراح بالإجماع, وفي حديثه للقوات المسلحة عبر الهاتف قال د. صلاح الدين الدومة المحلل السياسي إن السودان تعرض قبل إعلان الاستقلال من داخل البرلمان إلى تجاذبات بين دولتي حكم الثنائي حيث تطالب بريطانيا بضم السودان إلى دول الكومنويلث البريطاني وتريد مصر ضم السودان إلى الجامعة العربية وفي داخل مصر انقسمت الآراء فهناك تيار يريد ضم السودان إلى مصر أي اعتباره جزءاً من مصر وتيار آخر يرفض هذا الرأي ويرى أن السودان أكبر من أن يكون جزءاً من مصر, أما أصحاب الحق فقد انقسموا إلى عدة تيارات مخلتفة الآراء فحزب الأمة يريد الاستقلال أي السودان للسودانيين ويريد الحزب الاتحادي الديمقراطي الاستقلال تحت التاج المصري ولكن لجنة الحكم الذاتي برئاسة إسماعيل الأزهري تريد الاستقلال الكامل للسودان وعندما أصروا على ذلك طلب الحاكم العام من الأزهري أن يأتيه بموافقة من كل أعضاء البرلمان السوداني باعتبار أن النواب يمثلون كل أطياف الشعب السوداني فقد استطاع الأزهري بحنكته إقناع جميع الأحزاب بضرورة الموافقة على الاستقلال من داخل البرلمان وقد كان وتم إقناع الجنوبيين بعد جدل ولكن اشترطوا الحكم الذاتي بعد الاستقلال, ولكن بحسب محللين سياسيين فإن الأسباب التي أجلت بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان هو ما حدث في مؤتمر باندونق الذي عقد في ‘ندونيسيا وهو مؤتمر عدم الانحياز وتكونت فيه وفود من دول كثيرة وأهم هذه الدول الهند و‘ندونيسيا ومصر والصين في ذلك المؤتمر ذهب وفد السودان برئاسة الزعيم الأزهري لحضور المؤتمر ومعه المرحوم مبارك زروق والمرحوم حسن عوض الله وخليفة عباس وجاء الوفد المصري برئاسة جمال عبد الناصر واعترض جمال على أن يكون الوفد السوداني مستقلاً وطلب من الوفد السوداني أن يجلس في المؤتمر خلف الوفد المصري باعتباره جزءاً من مصر فرفض إسماعيل الأزهري وقال له نحن على أبواب الاستقلال وسنكون دولة مستقلة ولابد أن نمثل الشعب السوداني لأن هذا المؤتمر يمثل الشعوب فحدث بينهما خلاف واحتد النقاش وكان بالقرب منهم «شوان لاي» ممثل الصين وهو رئيس وزرائها ومن أكبر زعمائها وفي أثناء سخونة النقاش بين الأزهري وعبد الناصر الذي قال للسودانيين: «إنتو ما عندكم علم» وبالتالي فأنتم من المفترض أن تجلسوا خلف العلم المصري فتدخل مبارك زروق على الفور وقال: نحن لدينا علم فأخرج منديله من جيبه وقال هذا هو علمنا بعد أن وضعه على رأس قلمه فقال حينها الزعيم الصيني شوان لاي هذا أفضل علم، وحسم النقاش بينهما بتلك فجلس وفد السودان بزعامة الأزهري ومعه بقية الوفد السوداني وهذا المنديل موجود الآن في معرض في باندنق في اندونيسيا, وما حدث من استقلال وعودة كيان الأمة جعل ينابيع الشعر والأدب تتدافع لتسطر القوافي التي تحكي هذا المجد التليد والمثير وكان بعض شعراء الوطنية حداة للركب الوطني في زحفه نحو الاستقلال، ومن الشعراء الذين لمعوا في تلك الفترة الشاعر يوسف مصطفى التني، وأغنيته (في الفؤاد ترعاه) العناية ويحتوي ديوان التني على مجموعة من القصائد الوطنية التي تدعو إلى وحدة الصف الوطني ونبذ الفرقة والشتات وترك التحزب وكذلك في دواوين الشاعر محمد المهدي المجذوب خاصة ديوان منابر فقد أوقفه على الشعر السياسي خلال فترة الكفاح الوطني وأيضاً من الشعراء الذين جادوا بشعرهم الشاعر إدريس جماع فقد كان الاستقلال عيداً له. ومن أشهر الصحف التي صدرت في اليوم التالي من إعلان الاستقلال داخل البرلمان صحف الرأي العام والأمة والاتحادي والعلم وصوت السودان.