مقدمة:
أبو سليم هو عالم التاريخ السوداني
البروفسير محمد ابراهيم أبو سليم مؤسس دار الوثائق المركزية
ومديرها لعدة عقود وقد وضع بصمات بارزة في
كل ركن فيه وله العديد من الأبحاث والمؤلفات التاريخية والأدبية
وقد كان الراحل أيضاً عميد كلية المكتبات بجامعة أم درمان الأسلامية
في ذاتِ ليلة ليلاء من ليالي المنامة الحالمة حاضرة البحرين، ذكرتُ مكاناً عزيزاً علي ألا وهو تلك العاصمة المثلثة التي يطلقون عليها الخرطوم وأحسب أن معالمها الآن قد تغيرت كثيراً وربما لبست ثوباً قشيباً من الجمال وإكتست ألقاً وبهاءاً مما دعاني أزداد شوقاً إليها وأهرول صوب التلفاز فأمسك بالريموت كنترول وأفتح الفضائية السودانية لأجد الطيب عبد الله وهو يردد هذه الكلمات:
" الغريب عن وطنه مهما طال غيابه، مصيره يرجع تاني لي أهله وصحابه إلخ الأغنية"
فتمددت في تكاسل بالغ فوق الأريكة الموضوعة في كبد الصالون وأطلقت العنان لخيالي ليسرح كيفما يشاء وقد أطاعني وحملني بين جناحيه وحلق بي إلى الخرطوم فوجدت نفسي في مكان ظلوا يطلقون عليه في العهود البائدة إبان جاهليتنا الأولي ميدان أبو جنزير بيد أنهم الآن أخذوا يطلقون عليه سنتر الخرطوم فأخذوا يرددون إسمه في أغنياتهم:" سنتر الخرطوم والسهر بالكوم إلخ هذه السخافات" بنايات شامخة قد تناثرت هنا وهناك وأنا أتجول كالمعتوه في شوارع الخرطوم بلا وجهة محددة أقصدها وأنا في حيرة وغرابة لم ترتقى إلى درجة الإنبهار والإعجاب البالغ الذي يرددون معه عبارة Wow ولسان حالي يردد تارةأغنية البلابل:
" بي فرح عودتنا رفت وزغردت دمعات حنينة"
وتارة أخرى رائعة ود الأمين:
" حلاوة العودة غنيناها في موال إلخ"
وفجأة توقفت أمام حديقة الحيوانات سابقاً فلم أجدها
ولم أجد الفيل الذي كان يتغنى باكياً: "جابوني ليه ليه أنا ليه هنا
وحبسوني ليه" فساءلت نفسي تُرى أين ذهبوا بهذا الفيل المغدور به؟
هل أعتقوا سراحه أم أنهم قد إستبدلوا سجنه بآخر أشد وطأة وقمعاً
وأخذت أمشي وأمشي كالمعتوه كمن يبحث عن ضالة منشودة وأنظر ملياً ذات اليمين وذات اليسار أتأمل كل شيء أمامي وحولي ولكنني وجدت أن الخرطوم ورغم هذه الطفرة السلحفائية التي طرأت عليها إلا أنها لا زالت تفتقر شيئاً ما.
شئ جوهري! معلم شامخ من معالم الخرطوم قد تلاشى وتوارى خلف الأنظار. نعم قد شهدت الخرطوم تطوراً لا بأس به ولا زالت التطورات تجري على قدم وساق ولكنها قد إفتقدت النكهة والطعم والمذاق الفريد،،،،، فأخذت أدور وأدور وأنا أصدح في سري قائلاً:
" أدور حولك با حساسى
ربيع بغازل النوار
واشيلك جوة انفاسى
عشان تطفى اشتياقى الحار
وبين طارينى لاناسى
لقيت الحيرة فيك تحتار
كانى حداك ظل مشتول
على دروب الزمن بطول
اشوف معناك فى كل زول
شرب من طعمك المعسول
ودا الخلانى فيك اقول
قدر ما يرجى عمرى الحول
كلاماً بالغزل مغزول
ولحنا فى البعاد موصول
وكيف ما اشيل هواك فصول
وقلبى برؤيتك مأهول"
وهأنذا لازلت أدور وأدور وأتوه من مرفأ لي مرفأ
" وأنا ألملم قدرتي الباقية
وأشد ساعد على المجداف وأغيّر سكة التيار
وأنظر ملياً إلى أحزان عيون الناس
لأسأل عن بلد رايح
وافتش عن بلد سايح
واسأل عن امانينا
اللي ما بتدينا
صوت صايح
وأسأل وين مخابينا
إذا جانا الزمن لا فح
واسأل عن بلد مجروح
وعارف الجارحو ليه جارح
وابكى على بلد ممدوح
وعارف المادحو ما مادح
واحلم بي حلم مسروق
لا هو الليلة لا امبارح"
وبينما كنت مستغرقاً في غياهب الذكريات،
ناداني مناد بغتة وهو يقول لي:
"لو حاولت تتذكر ..
تعيد الماضي من أول ..
تلقي الزمن غيّر ملامحنا
ونحن بقينا ما نحن .."
فأجبت عليه في تحد سافر:
" لو كان الزمن قساك
انا ما قسيت..
ولو في يوم زمن نساك
انا ما نسيت.."
وتركت المنادي وشأنه ومضيت قدماً في سبيلي للبحث
عن ذلك الشيء المفقود في الخرطوم
عن ذلك النور الذي إنطفأ
وذلك النجم الذي أفل
أيها الأحبة
أتدرون من هو الذي إفتقدته الخرطوم؟؟؟!!
إنه عمي الحبيب الراحل المقيم
بروفسير محمد ابراهيم أبو سليم
وأستميحكم عذراً لأسكت عن الكلام المباح
فقد خانتني الدموع وسالت فيضاً مدراراً
فمنعتني من المواصلة
فأبقوا هنا قليلاً ريثما أهزم الدموع
وأجففها وأعود إليكم مجدداً
المفضلات