في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، بدا رجل الصفقات الحازمة والحاسمة دونالد ترمب، متمردا على ما دأب عليه الرؤساء السابقون حين تنتهي فترات ولاياتهم في سدة الحكم، حيث يخضعون لحالة من الكمون ذات طابع وداعي وتقييمي في مثل هذا الموقف، إلا أن الرجل العملي بدأ في تنفيذ جملة من القرارات المترجمة للسياسية الخارجية الاميركية والتي مهد لها طوال وجوده في البيت الأبيض، وذلك ليس بمعزل عن عهد واشنطن وطريقتها في إدارة ملفات الصراع مع وجهة هذه القرارات.
اقتران هذه القرارات باللحظات الأخيرة لترمب في كرسي حكمه، يشير بتمسكه بوجهات نظره ومقترحاته للحلول؛ لقد أوحت طريقته في العمل طوال أربع سنوات بنوع من الوضوح تبدو درجاته ومستوياته جديدة على مشهد السياسة الأميركية، بل إن طريقته في الإعلان عن الحلول والحكم في قضايا خلافية، بدت نوعا من التجاوز والاختلاف الذي تمتد آثاره طويلا فيما بعده.
مجمل هذه القرارات هي سياسية وسياسة بحتة، تنطلق من أولويات أميركية ومعايير تنبع منها؛ فمثلا في الملف السوداني نجد أن العقوبات على السودان اقترنت بانقلاب عسكري قام به البشير عام 1989م أضر ببلده أولا، وكعادة واشنطن في التعامل مع هذا النوع من أحوال الدول وتقييمها لطبيعة المُنْقَلِب وخلفيته، فرضت منذ ذلك الوقت عقوبات أميركية على الخرطوم، ثم أتبعتها بأخرى عام 1993م في سياق اتهام البشير برعاية الإرهاب حسب تقارير استخبارية، ثم انجلت هذه العقوبات دفعة واحدة مع رحيل البشير التي بدأت معه قبل ثلاثين عاما، رافق ذلك شرطان أو ثلاثة ثم تنفيذ فعلي وقطعي وعاجل للحل وتغيير السياسة، بدلا من البيروقراطية التقليدية في سياقات كهذه والبذخ والإسراف في الوقت والكلاشيهات.
يمكن استخلاص النتائج التحليلية نفسها حول نزعة الرجل العملية لتنفيذ قراراته، والسير بها من فجوة النظرية لواقع التطبيق، من معالجة الملف المغربي تحديدا، حيث كسبت الرباط اعتراف الولايات المتحدة بسيادتها على الإقليم المتنازع عليه منذ خروج الاحتلال الإسباني منه في 1975م، ليتكشف بذلك مستوى الهدوء والصرامة في التدخل لحل مشكلات طويلة العمر، فمن المعروف أن المغرب وضعت الاعتراف بملكية الصحراء كمطلب على الطاولة الأميركية منذ ثلاثة عقود؛ وجاء ترمب ليفعلها دفعة واحدة.
ولدى المعالجة الأميركية الترمبية لملف إيران، طفت على السطح رغبة أميركية ضد خطر إيران ورعونتها وصفاقتها في التعامل مع كل دولة غير نفسها، لقد بدا أن واشنطن هرعت في اللحظات الاخيرة للنيل من دولة الشر ونظام التقية السياسية الأبرز في الشرق الأوسط؛ تأمينا للمحيط وحتى للعالم من شرور طهران وأمنياتها وطموحاتها المشبوهة، وهو ما يرشح كفعل سياسي أميركي أسمى من غيره وأكثر عدالة، وتطوير عملي حازم لسياسة واشنطن في التعامل مع هذا الملف منذ نشوء دولة الوالي الفقيه قبل ما يزيد عن أربعين عاما، الفعل الأميركي هذه المرة بدا أكثر حدة ووضوحا وتقريرا، وكان بإمكان ترمب أن يمضي ويغادر كما فعل الذين من قبله، تاركا الباب مفتوحا على احتمالات مختلفة في التعاطي مع ايران التي تكذب على العالم وتعتدي عليه حسب الريح ودون رادع.
ولدى تأمل طبيعة الوداع الترمبي لتركيا، سنجد أن واشنطن حرصت على معالجة أدق لهذا الملف؛ اقترانا بحيثيات وقضايا مطروحة ومعلنة منذ شراء تركيا لمنظومة الدفاع الروسية؛ وتشكيلها بذلك خطرا على الطائرات الاميركية إف 35 غير مأمون العواقب تبعا لسجل تركيا وشبهة دعمها لعصابات وقوى مشبوهة؛ القصة تخضع لاعتبارات سياسية أيضا، فالشخصية المعلنة لتركيا تتضمن الكثير من التناقضات والتضاربات بما يعني أن أنقرة تمثل وتناور وتمارس مكرا إزاء قضايا خلافية متعددة بالشرق الأوسط، وهو ما لا يروق لواشنطن التي يرى مراقبون أنها مارست صبرا واضحا على أردوغان الذي بات معلوما للكل أنه مخادع ويراهن على مكره مفترضا أن العالم مفتوح أمامه؛ فيما تتخذ أوروبا الموقف الأميركي نفسه منه وتراه طبيعيا كرد سياسي مدروس عليه.
بالمجمل يمكن القول أن الضجيج الذي يثار حول الخطوات الأميركية المتسارعة نهاية حقبة ترمب؛ يكاد يكون نفسيا لدى بعض مراقبين وشغلا إعلاميا لدى قنوات صحفية مؤدلجة؛ حيث برد مجمل ما سمعنا عنه ونسمع لمكوناته وممارسة قليل من التحليل، يرشح أنه تكريس لفعل أميركي أكثر وضوحا وحدة وتكريسا وفيه الجديد الجوهري؛ الذي على الأغلب سيدفع بجو بايدن في نفس الاتجاه؛ اتجاه اميركا منذ البداية.إن كثيرا من التعليقات السياسية والإعلامية السلبية على خطوات ترمب، وسباقه مع الوقت لم تتضمن اتهاما موضوعيا له أو لها؛ بل ربما تندرج في سياق حسد واشنطن على المضي في ريادة العالم والتربع على عرش قضاياه، لا أحد من الأطراف الفاعلة في العالم قال شيئا واضحا إزاء الملفات التي تمت معالجتها ولم يفعل شيئا حيال ما فيها من الجدل؛ وحسب المعالجة الاميركية للملفات المطروحة أنها خلت من تجاوزات قانونية، وجاءت على شكل صفقات لتلزم الأطراف بجدية مطلقة فيما بعد؛ ليبدو ترمب رغم ما يقال عنه كنموذج أميركي جدلي أحيانا؛ رجل الصفقات الحازمة الحاسمة والعملي الأكثر سرعة ووضوحا، بل والذي سيمتد تأثيره فيما بعد.

---
جريدة الرياض
http://www.alriyadh.com/1864031]لقراءة الخبر كاملاً فضلاً اضغط هنا[/url]