تمثل نظرية (الفوضى الخلاقة) أهم الأدوات التي أنتجتها الولايات المتحدة للتدخل في القضايا الدولية، حيث جرت صياغة النظرية بعناية فائقة من قبل صناع السياسة والنخب الأكاديمية الأميركيين، فمفهوم (الفوضى) المُثقّل بدلالات سلبية أُضيف إليه مفهوم آخر يتمتع بالإيجابية وهو (الخلاقة)، ولا يُخفى خبث المقاصد الكامنة في صلب المفهوم لأغراض التضليل والتمويه.
فالفوضى الخلاقة هي خلاقة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة والغرب، وغير خلاقة، بل مدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب.
لذلك حاولت هذه الدراسة الإضاءة على جذور النظرية ومرتكزاتها، وانعكاس أفكارها على الدول، وصولاً إلى تطبيقها في عهد بوش الابن والإدارات الأميركية المتعاقبة.

تناقض فاضح بين ما ترفعه واشنطن من شعارات ديمقراطية وحقوقية وسياساتها المخالفة
أولاً: مفهوم النظرية
هناك من يظن أن نظرية الفوضى الخلاّقة مصطلحاً جديداً ظهر بعد تفرّد الولايات المتحدة بزعامة العالم، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والواقع أنَّ المصطلح ظهر للمرة الأولى عام 1902م على يد المؤرخ الأميركي ألفريد تاير ماهان، لتتوسع النظرية فيما بعد عن طريق مايكل ليدين ويسميها الفوضى البناءة، وذلك في 2003م، وهذا يعني إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة البناء حسب المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة، وربما يكون أكثر المفكرين تحدثاً عن هذه النظرية هو صاحب نظرية صراع الحضارات الأميركي اليميني صامويل هنتنجتون.
وقد تلقفتها مراكز البحوث والدراسات، وأشبعتها بحثاً ودراسةً، والنظرية تعني باختصار أنه عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح الجميع.
«نظرية الفوضى» نسخة محدثة عن الاستراتيجية البريطانية (فرق تسد)
وتؤكد النظرية أنه مهما بلغ تطور النظام الدولي القائم، إلاّ أنه نظام مركب ومعقّد، ومعرّض لتأثيرات طارئة، مما يسهل الولوج إلى مكوناته الأساسية، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار كلّي له، وإعادة تشكّله بطريقة تتوافق مع مصالح الأطراف التي أحدثته.
الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وتمكين المرأة عناوين زائفة لتمرير مخطط إسقاط السيادة
ويُفهم من هذه النظرية أن الأفكار المنظمة والرصينة والأيديولوجيات الكبرى القائمة عليها الدول قد فات أوانها، تمهيداً لتعرّض المجتمعات للفوضى الخلاقة للوصول إلى جزيرة الاستقرار!.
وينطلق رواد هذه النظرية من أن العلاقات الدولية الخاضعة لمعاهدات ومؤسسات كالأمم المتحدة وغيرها من المنظمات، تواجه مشكلات حادة لخلل في لعبة المنافسة بين الدول، وأنه مهما بلغ النظام القائم على المستوى الدولي من التطور، فهو نظام مركّب ومعقّد، ما يجعله عرضة لأحداث طارئة في داخله تؤثر على انتظام العمل داخل النظام ككل، لذلك لا بدّ من اعتماد نظرية الفوضى الخلاقة لتحقيق عملية التغيير في النظام الدولي والإقليمي، وهي غالباً ما يتم تمويلها من الخارج، حتى وإنْ كانت عوامل التغيير داخلية فإنَّه يتم استثمارها وتطويعها بما يخدم مصالح الآخر الغربي الذي يسعى إلى الحفاظ على مصالحه. وعلى هذا النحو فإنَّها، أي الفوضى الخلاقة التي هي على حد تعبير صموئيل هنتنجتون: «الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر».
اختراق الحياة الثقافية عن طريق الدعم المالي لبعض المؤثرين لتمرير مشروع زعزعة الاستقرار
ولا شك أن نظرية الفوضى الخلاّقة هي خلاّقة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة والغرب، وغير خلاّقة، بل مدمّرة بالنسبة للدول والشعوب، وهذه النظرية تنشط في إطار العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة.
ثانياً: مرتكزات النظرية
تستند نظرية الفوضى الخلاقة على عدة مرتكزات، ومن أهمها:
أ. مرتكز تاريخي إنجيلي
تعدّ نظرية الفوضى الخلاّقة نسخة أميركية مطوّرة من الاستراتيجية البريطانية المعروفة بـ (فرق تسد)، كما أنها ترتكز على فكرة إنجيلية تمتد جذورها إلى "الكتاب المقدس" وأساطيره.
وتكتسب هذه النظرية صفة القدسية إذا ما تعلقت بمصير إسرائيل، والالتزام الأميركي المقدس نحوها، كذلك تتعلق بظهور المسيح المخلص، الذي لن يعود إلا بعد أن تعم الفوضى والخراب المنطقة العربية، وهذه الأفكار يؤمن بها السياسيون المحافظون الجدد إيماناً راسخاً، ويعتقدون أن الإيفاء بها واجباً عليهم يندرج تحت تنفيذ إرادة الرب، وتحقيق عودته مشروط بالقضاء على حكم الشعوب العربية الخارجة عن دين شعبه المختار، حيث جاء في هذا الإصحاح: «وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه، مدينة مدينة، ومملكة مملكة، وتهراق روح مصر داخلها وأفني مشورتها...»، وكذلك جاء فيه: «وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس»، وأيضاً «مزج الرب في وسطها روح غي فأضلوا مصر في كل عملها كترنح السكران في قيئه).
ويتضح من خلال هذه المنقولات، مدى الفوضى التي ستشهدها مصر في آخر الزمان وفقا لأساطيرهم، إلا أنها فوضى خلاقة كما يرونها، لأن الرب يضرب مصر لتزدهر وتعود إلى حال أفضل كما جاء في الإصحاح: «ويضرب الرب مصر ضارباً فشافياً فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم»، وكما جاء أيضاً: «في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس».
كذلك جاء في الإصحاح أن الرب سوف يقيم نهضة لشعبه المختار على أنقاض خراب وفوضى الدول المجاورة له (العرب)، لأن سكانها حاولوا الاستيلاء على أرض أصفياءه (أورشليم المقدسة) التي لم يجعلها الرب ميراثاً للأدوميين العرب.
لذلك نجد أن المعني باستثمار الفوضى الخلاقة ليس العرب، وإنما الولايات المتحدة وإسرائيل الخاضعين لطاعة رب إسرائيل، وهذا أمر منطقي لأي دولة تعتقد أن خصمها الحضاري هو الإسلام.
لهذا نجد أن العلاقة بين "الكتاب المقدس" وأساطيره وبين نظرية الفوضى الخلاّقة لا يعدّ أمراً غريباً إذا ما اعتبرنا أنهما مرتبطان بحقبة الرئيس بوش الابن المؤمن بخطة إلهية مرتبطة بنصوص "الكتاب المقدس" ونبوءاته يتوجب عليه السعي لتنفيذها، وذلك قد ذكره في كتابه (مهمة للأداء): «إنني لم أكن لأستطيع أن أصبح حاكماً لو لم أكن أؤمن بخطة إلهية تنسخ جميع الخطط البشرية».
وأكدت ذلك الباحثة الأميركية جريس هالسل محررة خطابات الرئيس الأميركي ليندون جونسون: «إن محبي الكتاب المقدس من المسيحيين بدؤوا ينظرون إلى العهد القديم على أنه التاريخ الوحيد في الشرق الأوسط».
كما أكد ذلك جون كولي في كتابه (التحالف ضد بابل): «يُعدّ من قبيل الخطأ الفادح تجاهل التاريخ القديم لكل من يحاول سبر أغوار الشرق الأوسط، لأن الأسباب الداعية إلى وجود أشد أنصار إسرائيل تعصباً في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسهم بوش الابن ومن حوله من الوزراء والمستشارون، موجودة في هذه القصص الغابرة، فهم ينطلقون من أعماق قصص التوراة في تعاملهم مع أزمات الشرق الأوسط».
لهذا يمكن القول إن نظرية الفوضى الخلاقة تعود في الأصل إلى "الكتاب المقدس" وأساطيره المؤكدة على قيام دولة إسرائيل على أنقاض الدول العربية، وليست مجرد استراتيجية خرجت من البيت الأبيض.
ب. مرتكز فكري معاصر
يستند الأساس الأيديولوجي لنظرية الفوضى الخلاقة تاريخياً إلى الثورة الفرنسية بشعاراتها المعروفة الحرية والعدالة والمساواة، وعلى الرغم من نبل هذه الشعارات إلاّ أنها تركت آثاراً ضارة تمثلت بسيطرة العامة على الحكم، والتي حوّلت البلاد إلى فوضى عارمة تفتقر إلى المرجعيات الفكرية والسياسية، كما ساهمت في نمو النزعة العنصرية من خلال تصدير الفوضى الثورية إلى دول أوروبا دون الالتفات إلى خصوصيات هذه الدول.
وفي عصرنا الحديث لا شك أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أميركية نابعة من مدرستين:
الأولى: أتى بها فرانسيس فوكوياما بعنوان (نهاية التاريخ)، ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الحروب والاضطرابات، وهذا عالم لم يلتحق بالديمقراطية الأميركية، وعالم آخر ما بعد التاريخي وهذا عالم ديمقراطي ليبرالي وفق الديمقراطية الأميركية.
الثانية: أتى صموئيل هنتنغتون بعنوان (صراع الحضارات) معتبراً أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً ذاهبًا إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل، وعلى الرغم من تناقض المدرستين إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، معادياً للحضارة الإسلامية بصفتها نقيضاً ثقافياً للحضارة الغربية.
كما تمثل كتابات إليوت كوهن، أستاذ جامعي ومؤرخ وسياسي وكاتب أميركي، أحد مصادر نظرية الفوضى الخلاقة، لا سيما كتابه (القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب)، حيث يؤكد على أهمية انتصار الولايات المتحدة في الحرب على "الإسلام الأصولي".
ويعدّ مايكل ليدين من معهد (أميركا انتربرايز) أول من صاغ نظرية (الفوضى الخلاقة) في معناها السياسي الراهن، من خلال مشروع (التغيير الكامل في الشرق الأوسط) الذي أعدّه في عام 2003م، والمقرر تنفيذه خلال العشر سنوات اللاحقة من تاريخ صدور المشروع، والذي ارتكز على استراتيجية هدم الدول في الشرق الأوسط، ثم إعادة البناء، حتى ولو أدى الأمر بالولايات المتحدة الى أن تقوم كل عشر سنوات باختيار بلد وتدمره، ثم يؤكد أن «الاستقرار مهمة لا تستحق الجهد الأميركي... وأن التدمير الخلاّق هو اسمنا الثاني في الداخل، كما في الخارج... لقد كره أعداؤنا دائماً هذه الطاقة المتدفقة والخلاقة والتي طالما هددت تقاليدهم، علينا تدميرهم كي نسير قدماً بمهمتنا التاريخية».
وأدلى وزير الخارجية والمفكر الاستراتيجي الأميركي هنري كيسنجر بحديث لصحيفة (الديلي سكيب) عن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط: «إن إشاعة الفوضى الخلاقة على نطاق واسع وعالمي يمثل المرحلة الثانية من الاستراتيجية العالمية التي تحولت إلى خطة يتم الشروع في تنفيذها الآن على أرض الواقع في الشرق الأوسط».
وخلاصة القول إن نظرية الفوضى الخلاّقة قد انطلقت من مجتمع سياسي يُعرف بالمحافظين الجدد، وشاركه هذه الرؤية الجديدة فريق من الأكاديميين، وقد استطاع هؤلاء التغلغل في كل مرافق صنع القرار في إدارة الرئيس بوش الابن، ودائماً ما يدّعون أن لديهم الدواء الشافي من الأسقام التي تعاني منها سياسة الولايات المتحدة.
ج. مرتكز المؤسسات البحثية
قدّمت المراكز البحثية الأميركية مساهمات رئيسة في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة، لا سيما مؤسسة (أميركان إنتربرايز للدراسات)، والتي يعدّ راوول مارك كيريشت المنتسب إليها أهم منظري المحافظين الجدد والمختص في الشأن العراقي والشيعة، حيث قال: «إن إدارة الرئيس بوش بلورت مشروع الشرق الأوسط الكبير بالاعتماد جزئياً على أبحاث مؤرخين نافذين أمثال برنارد لويس من جامعة (برنستون) وفؤاد عجمي من جامعة (جونز هوبكنز)، ومن المعروف أن برنارد لويس كان قد أعلن عقب حرب الخليج الثانية عام 1991م عن موت العالم العربي ككيان سياسي، واقترح استخدام مصطلح الشرق الأوسط بدلاً من العالم العربي.
كما يقوم (معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى) بدور لا يقل أهمية عن سابقه في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة، ويعدّ الباحث روبرت ساتلوف المدير التنفيذي للمؤسسة أحد أقطاب هذه النظرية، وأشد المعجبين بأفكار برنارد لويس، وقد اقترح إلغاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من الدبلوماسية الأميركية.
أما فؤاد عجمي فيعدّ الناطق الرئيس للرؤية الطائفية في العالم العربي، وتحظى رؤيته بقبول واسع في الإدارات الأميركية المتعاقبة، ويمارس تحريضاً متواصلاً في كل القضايا المتعلقة بالعالم العربي والإسلامي، ويؤكد على أهمية نظرية الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في هذه المنطقة يشكل عائقاً أساسياً أمام تقدم مصالح الولايات المتحدة.
كما ينادي منظرو نظرية الفوضى الخلاقة المنتشرون في المراكز البحثية بضرورة استخدام القوة العسكرية في الشرق الأوسط لتدمير الدول، وتفجير الأمن الداخلي، وتأجيج المشاعر الطائفية وتوظيفها في خلق الفوضى، كما هو الحال في أفغانستان والعراق ولبنان وسورية واليمن وغيرها من دول المنطقة.
د. إسقاط اتفاقية وستفاليا
تلقى الحركات الانقلابية والانفصالية في العالم في أكثر الأحايين دعماً معنوياً وربما عسكرياً من النظام الدولي، لا سيما من الولايات المتحدة، مما يؤشر على تهديد مفهوم سيادة الدول التي كرستها معاهدة 1648م المعروفة بمعاهدة وستفاليا، والتي تعدّ أول اتفاقية دبلوماسية أرست نظاماً مبنياً على مبدأ سيادة الدول، لكن نظرية الفوضى الخلاقة أسقطت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والتي قضت به معاهدة وستفاليا، ومن هنا فإن عملية السقوط التدريجي لمبدأ سيادة الدول هي عملية مستمرة تحت ستار حل النزاعات الداخلية أو الاستقرار أو الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وتمكين المرأة، وغيرها... وإذا تعذّر ذلك فلا ضير لديها من اللجوء لاتخاذ قرارات أحادية بمعزل عن منظمة الأمم المتحدة تجيز لها التدخل في شؤون الدول الأخرى، بما في ذلك شن حرب شاملة كما حدث في أفغانستان والعراق، والتحالف مع النظام الإيراني وميليشياته وتدمير الحواضر السنية في العراق وسورية، وذلك تطبيقاً لما جاء في نظرية الفوضى الخلاقة.
كما تحاول الولايات المتحدة فرض مفاهيم جديدة على الشرق الأوسط، من خلال رفع شعار تعميم الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان متخذة إياها مسرحاً لتجاربها في تطبيق نظرية الفوضى، ومسقطة بذلك كل ما تبقى من مفهوم السيادة التي نصت عليها معاهدة وستفاليا.
ثالثاً: عناصر الفوضى الخلاقة
تشبه الفوضى الخلاقة كرة الثلج التي يصنعها طفل صغير وعندما تتدحرج تكون نتائجها كارثية، وربما لا يمكن إيقافها، لكن الولايات المتحدة التي باركت هذا التدحرج لن توقف هذه الكرة، حتى وإن كانت قادرة على ذلك، طالما أن نتائجها المدمرة ستكون في النهاية لصالحها، فما أشبه ملامح وعناصر نظرية الفوضى الخلاقة بما أحدثته كرة الثلج، لذلك الفوضى الخلاقة تعتمد جوهرياً على عناصر متعددة يصلح بعضها للهيمنة على دولة ما، ويصلح بعضها الآخر لدولة أخرى نذكر منها:
أ. تعرض الفوضى الخلاقة الأميركية الدول لضغوط إثنية وطائفية، وتضعها على حافة الانهيار وفقدان السلطة، مما قد تؤدي إلى تفتيتها وتحويل الدولة الواحدة إلى مجموعة من الدويلات المتحاربة، كما تقدم الدعم للحركات الانفصالية في أكثر الأحايين، مما يؤشر إلى تهديد سيادة الدول التي كرستها معاهدة وستفاليا 1648م.
ب. نتيجة لنظرية الفوضى الخلاقة الأميركية ستقف بعض الدول أمام التدخل الأميركي في شؤون الدول الداخلية، وقد تعجل هذه السياسة من خلق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
ج. إن ارتكاز الولايات المتحدة على سياسة الفوضى الخلاقة، أنهى آمال العالم في تقليل الصراعات والحروب، خصوصاً أن المجتمع الدولي واجه سلسلة من الأزمات المتلاحقة، لا سيما احتلال أفغانستان والعراق وسورية.
رابعاً: الديمقراطية في الشرق الأوسط جزء من سياسة الفوضى الخلاقة، أصبح ضرورة لا بدّ من السير بها وفق الرؤية الاستراتيجية الأميركية.
د. إن سياسة الفوضى الخلاقة التي تقودها الولايات المتحدة بحجة حربها على الإرهاب، وبصورة أحادية، كان من نتيجتها تعقيد الأوضاع في عدد من الدول، وأحدث فراغاً استراتيجياً أربك التوازنات الطبيعية القديمة، وهو ما دفع إيران وتركيا للتدخل الإقليمي.
هـ. استخدام سبل معينة في منطقة (الشرق الأوسط) كأدوات ووسائل لسياسة الفوضى الخلاقة كتغييرات جذرية في مناهج التعليم والثقافة، واستخدام الإعلام لإفساد العقول، واختراق الحياة الثقافية عن طريق الدعم المالي لبعض المثقفين الإعلاميين والفنانيين، وتجنيد بعض المتخصصين أثناء دراستهم بالغرب من خلال إقناعهم بقيم الغرب والانفتاح.
و. دراسة النسيج المجتمعي لدولة ما، ومحاولة استغلال أي مشكلة قائمة، وتضخيمها سياسياً وإعلامياً حتى يتحقق الصراع.
ز. العمل على إفساد الاقتصاد الوطني، لتفقد الدولة قدرتها على الإنتاج، وتخضع لنظرية الفوضى الهدامة.
ح. محاربة كل تجمع إقليمي يخدم دول المنطقة، والسعي لتفتيت الموحد عن طريق خلق مشكلات وحروب داخلية.
ط. إثارة النزاعات الحدودية بين دول المنطقة، ومنها الانفصالية المطالبة بالاستقلال الداخلي.
ي. إغراق الدول بالمديونية مما قد يؤدي إلى إفلاسها، وذلك من خلال فرض سياسات إقراض مجحفة.
ك. ضرب مؤسسات الدول واستبدالها بولاءات حزبية، لخلخلة الاستقرار الأمني.
ل. العمل على انقلابات ظاهرة وباطنة، وربما اغتيالات، من خلال تجنيد بعض رجالات الأجهزة الحساسة، والتركيز على شخصية مختارة بعينها، وإزاحة كل العوائق أمامها، لتخضع تماماً لهيمنة النظرية، ثم سرقة موارد الدولة ونهب أسواقها.
رابعاً: تطبيق النظرية
مع نهاية القرن العشرين الميلادي ومطلع القرن الحادي والعشرين، انطلقت فكرة تطبيق نظرية الفوضى الخلاّقة من فريق المحافظين الجدد، والمكون من أكاديميين وسياسيين أميركيين (صقور البنتاغون) متغلغلين في المرافق الأساسية لصنع القرار في إدارة الرئيسين بوش الأب والابن، وقد أجمعوا على إنهاء مفاهيم وسياسات العصر الماضي، والسير في نظرية الفوضى الخلاقة بدلاً منها في السياسة الأميركية الخارجية.
وعلى الرغم من أن نظرية الفوضى الخلاقة موجودة مسبقاً، إلاّ أنها لم تطبق فعلياً إلاّ بعد غزو العراق 2003م، في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، بدعم من رموز الديمقراطية أو المحافظين الجدد، حيث
نرى أن أول من تعاطى رسمياً مع هذه النظرية وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، في عام 2003م، من خلال تعليقه على أحداث الشغب والفوضى في العراق بقوله: «إن العراقيين ليسوا معتادين على الحرية، وإن هذه هي أول فرصة لهم للتعبير عمّا يختلج في نفوسهم، وإن هذه العمليات الفوضوية إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد».
وكذلك يمكننا استقراء تصريح وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس حول سياسة التغيير نحو الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط في المؤتمر الصحفي المنعقد في 11 فبراير 2005م، بأنه يعكس ما جاءت به نظرية الفوضى الخلاقة، حيث انتقدت البساطة السياسية السائدة في القرن العشرين، وأكدت على ضرورة اصطفاف الجميع تحت قيادة الولايات المتحدة في التغيير القادم.
وأدلت رايس أيضاً في حديث لصحيفة واشنطن بوست الأميركية في مطلع أبريل 2005م، «أن التحوّل الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط قد أصبح ضرورة لا بدّ من السير بها، حتى ولو أدى ذلك إلى التخلّي عن دول حليفة للولايات المتحدة، وأدى ذلك إلى عدم استقرارها».
وعلى وفق رؤيتها أن نظرية الفوضى الخلاّقة تعني التخلّي عن أمن واستقرار الدول وخلخلتها حتى لو كانت حليفة! تحت دعوى الإصلاح والديمقراطية! وأن ما يمكن أن تثيره عملية التحوّل نحو الديمقراطية من فوضى ما هو إلاّ نوع من الفوضى الخلاقة التي لا بد منها.
و«أن الولايات المتحدة ستتبنى نهجاً مختلفاً، حيث إن هناك من يقول إن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة هي العكس بمعنى أن الفوضي تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية الأميركية المنشودة».
وطوّر المحاضر في وزارة الدفاع الامريكية، في عهد بوش الابن، توماس بارينت نظرية (الفوضى الخلاقة) مقسماً العالم إلى قسمين: الأول (المركز) ويشمل الولايات المتحدة وحلفاءها، والثاني (الثقب) وشبهه بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهراً قبل أحداث سبتمبر، وهو بمثابة مزارع لتفريخ الإرهابيين، وبالتالي على دول المركز السعي لانكماش الثقب في داخله واحتوائه، منتهياً إلى قوله: «نحن الدولة الوحيدة التي يمكنها القيام بذلك».
لذلك تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الاكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة.
وفي هذا يقول روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن منذ عام 1993،: «تاريخياً كان السعي للحفاظ على الاستقرار عنصراً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولكن جورج بوش كان أول رئيس يرى أن الاستقرار بحد ذاته عثرة في طريق المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ولذا سعت الإدارة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر نحو سياسة من عدم الاستقرار الخلاق».
وأعتقد أن نظرية الفوضى الخلاقة كتطبيق لم تكن فكرة جديدة على منطقة الشرق الأوسط، بل جرى تطبيقها قبل قرن من الزمن من خلال معاهدة (سايكس - بيكو)، وما يجري تطبيقه في القرن الحادي والعشرين هو نسخة أميركية محدثة عن الاستراتيجية البريطانية المعروفة بـ (فرق تسد)، والتي انتهجتها دول الغرب كاستراتيجية بعد الحرب العالمية الأولى لتقطيع أوصال العالمين العربي والإسلامي، والتي لم يعد الغرب مقتنعاً بها في الوقت الراهن، واستُبدلت بـ (الفوضى الخلاقة) الأميركية، والتي نرى نتائجها اليوم في العالمين العربي والإسلامي.
خامساً: النظرية والشرق الأوسط
ظهر مصطلح الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين، وأول من أطلق هذا المصطلح هو الضابط في البحرية الأميركية والمؤرخ الأميرال ألفريد ثاير ماهان، واعتمدت الولايات المتحدة على الفوضى الخلاقة لإدارة مصالحها في هذه المنطقة منذ الحرب الباردة.
لكن في بعض الحالات أساءت إحكام زمام الأمور كتنظيم القاعدة ذي الصناعة الأميركية الذي استخدمته لطرد الروس من أفغانستان، ثم نشب خلاف بينهما أدى إلى انقلاب التنظيم على الولايات المتحدة، وتغيير استراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية، ومحاولة البحث الكاذب عن أسباب لاستخدام آليات القوة الناعمة والصلبة كآلية لتبرير دخولها أفغانستان والعراق واحتلالهما، وابتزاز المجمتع الدولي لدعم تدخلها في شؤون الدول الأخري، واحتلالها، تحت شعارات ومبادئ حماية الأمن القومي الأميركي في إطار استغلال حادثة الحادي عشر من سبتمبر، ثم استحضرت نظرية الفوضى الخلاقة كوسيلة لتحقيق أهدافها، من خلال تصريح الرئيس بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا»، الذي أجبر العالم دولاً ومنظمات إن لم تؤيد فلا تعترض، فاكتسبت تعاطفاً دولياً مزيفاً لخرق سيادة الدول، وانتهاك المبادئ والقيم، وأطلقت يدها في الشرق الأوسط و العالم العربي والإسلامي بحجة أنهم البيئة المزعزعة للأمن القومي الأميركي، وذلك من خلال إطلاق الصراع العرقي والطائفي من خلال سياسة الفوضى الخلاقة، وهذا ما حصل في العراق عبر تأجيج للصراع الطائفي والعرقي فيه بعد احتلاله عسكرياً، وضرب الدولة بجميع مؤسساتها واستبدالها بولاءات حزبية طائفية، وهذا أيضاً شهدته الصومال عام 1991م على يد الأميركيين.
وكذلك تغذية نوازع الانفصال العرقية والدينية في جنوب السودان، حتى توج ذلك بتقسيم السودان لدولتين: شمال عربي مسلم في أغلبيته، وجنوب مسيحي في أغلبيته.
كما تعتمد سياسة الفوضى الخلاقة الأميركية على الانسحاب التدريجي من اللعبة، لكن بعد تأكدها من حصول اختلال ثابت ينهك الحكومات، ويجعلها تطلب الدعم الأميركي دائماً كما هو حاصل في العراق.
هذا التناقض الواضح بين ما ترفعه الولايات من شعارات ديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من شعارات في ظاهرها محقة، وما تطبقه على أرض الواقع من سياسات مدمرة، يبرز هذا في قيامها بتقديم مساعدات عسكرية ولوجستية لدول تنتهك حقوق الإنسان وتعتبرها مارقة، أو ضمن محور الشر كإيران، كما حدث إبان حربي أفغانستان عام 2001م، والعراق 2003م، وما كان لسيطرة الميليشيات الطائفية بقيادة المجرم سليماني على العراق وسورية أن تكون لولا تدمير الحواضر السنية في هذين البلدين، بحجة محاربة داعش ذي الصنعة الإيرانية وأجهزة مخابراتية عالمية خططت لما قد حصل في المنطقة اليوم، ضاربة حقوق شعبي البلدين عرض الحائط.
إن حديث الولايات المتحدة لإصلاح الشرق الأوسط عن طريق الفوضى، اختلط فيه البعد الاستراتيجي بالبعد الأسطوري، كما اختلطت لغة الحقائق مع الأكاذيب، كما استخدام مصطلح الفوضى الخلاقة ليس مجرد لعب بالألفاظ الأخاذة، ولكنه استجابة للخطأ الاستراتيجي الذي انزلقت إليه الإدارة الأميركية بإعلانها الحرب على العراق بعد أحداث سبتمبر، والذي منعها من التراجع عنه صلفها الإمبراطوري وتعنتها الأيديولوجي الذي يُسأل عنه المحافظون الجدد.
لذلك نقول إن تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، وفقدان ملايين الناس أرواحهم، إضافة إلى فشل الولايات المتحدة في إحكام زمام أمورها، حتى أضرت بمصالحها.
وقد واجهت معظم الدول العربية هذا المشروع التدميري بمعارضة قوية، وعلى أساس أن التغيير لا بدّ من أن يأتي من داخل المجتمعات نفسها، لا عن طريق نظريات تصدرها جهات لها أهداف معروفة بحجة تحقيق الديمقراطية والحريات وحماية حقوق المرأة والإنسان وتطوير النظم التعليمية والاجتماعية، وتحمل في طياتها الكثير من الغموض حول الأجندة والأهداف والتناقضات في التوصيف والأولويات.
ولا تقتصر ردود الفعل على الاستراتيجية الأميركية الجديدة المتمثلة بنظرية الفوضى الخلاقة على قادة الدول فحسب، بل قابلتها شعوب المنطقة بقدر كبير من الرفض، والتي لا يغيب عنها الموقف العام لما حدث في العراق وسورية، والتشجيع الأميركي لقيام هلال طائفي حذّرت منه المملكة ودول المنطقة.
وعموما لم يكن أحد يتخيل أن تكون الولايات المتحدة في يوم من الأيام عدواً للاستقرار الذي طالما عملت على فرضه بكل الطرق، كما لم يكن أحد يتخيل أن تضحي بأصدقائها وحلفائها من خلال تبنيها استراتيجية الفوضى الهدامة، والتي تصفها بالخلاقة، ليس من أجل فرض الاستقرار، ولكن لخلق حالة فوضوية تصب في صالحها.
مشروع الفوضى الخلاقة تأسس على فكرة إقامة نظام جديد على أنقاض السابق

برنارد لويس أعلن موت العالم العربي ككيان سياسي
دونالد رامسفيلد عراب أول تطبيق رسمي لنظرية الفوضى في العراق
روبرت ساتلوف اقترح إلغاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من الدبلوماسية الأميركية
رؤية كوندليزا رايس التخلّي عن أمن واستقرار الدول حتى لو كانت حليفة
مايكل ليدين أول من صاغ نظرية (الفوضى الخلاقة) في إطارها السياسي الحالي
هنري كيسنجر اعتبر إشاعة الفوضى خطة تحت التنفيذ في الشرق الأوسط


---
جريدة الرياض
http://www.alriyadh.com/1873079]لقراءة الخبر كاملاً فضلاً اضغط هنا[/url]