الأمة المرشحة للنهوض هي تلك التي تعتز بماضيها وتفتخر بتاريخها، مستمدة منه ما يشعل الحماس ويلهب المشاعر لتحقيق إنجاز مشرف في حاضرها ومستقبلها.


ولذا لم تغفل الدول الواعية حضاراتها السحيقة وتراثها القيمي والتاريخي، بل تغنت به وسطرته في مناهجها التعليمية، وأرضعته لأبنائها، فتناقلوه جيلاً بعد جيل.
ولعل من أهم منافع الاهتمام بالتراث.. زرع الثقة بالذات، والكفر بالتبعية الذليلة للآخرين، وإيجاد نفسية التحدي والتخلص من عقدة النقص، والشعور بالعزة والكرامة والإباء.


وفي فترات التخلف تضعف الثقة بالنفس، وينبهر الضعيف بإنجازات القوي، فيبدأ بتقليده في كل شيء حتى في تسريحة الشعر ونوعية اللباس وطريقة الأكل وطبيعة الكلام، بل ويتبعه شبراً بشبر وذراعاً بذراع، ويجري وراء كل تافهة تخرج من القوي دون وعي أو تفكير، وهذا شأن الضعفاء عبر التاريخ.


ولذلك لا تعجب كثيراً عندما ترى بعض العرب يتنطعون باستخدام الكلمات الإنجليزية بسبب وبدون سبب، ولا تعجب عندما ترى بعض المؤسسات التعليمية تتسابق في توظيف الخواجات لتعليم أبنائنا وبناتنا، ولا تعجب كذلك عندما تصبح اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في بلادنا العربية والإسلامية، كما لا تعجب عندما يستميت بعض العرب والمسلمين في مغازلة الأمريكان وإرضائهم ومن ثم إرضاء طفلتهم المدللة إسرائيل.
نعم، لقد انبهر نفر من أبناء جلدتنا بالحضارة الغربية التي أنتجت التكنولوجيا الحديثة، فطارت بالإنسان إلى السماوات، واخترقت به بطون الأرض، وغاصت بجسده في أعماق المحيطات، وفجرت باختراعاته الجبال الراسيات، بل وجعلت العالم الفسيح يبدو وكأنه قرية صغيرة، أو ربما حارة ضيقة يتنقل فيها الإنسان من أقصاه إلى أدناه في سويعات من ليل أو نهار.


ووصل حال بعض المنبهرين من العرب والمسلمين بإبداعات الغرب، أن فقدوا الثقة بأنفسهم وبحضاراتهم، لذا يصرخ أحدهم قائلاً: إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئتيهم، والنجاسات التي في أمعائهم!
وكتب آخر في كتابه اليوم والغد فقال: يجب علينا أن نخرج من آسيا ونلتحق بأوروبا، فإنه كلما ازدادت معرفتي بالشرق ازدادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما ازدادت معرفتي بأوروبا ازداد حبي لها وشعوري بأنها مني وأنا منها، فهذا هو مذهبي الذي أعمل به طول حياتي، سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب!!
وأكمل ثالث المشوار فقال في كتابه: مستقبل الثقافة في مصر: سبيل النهضة بينة واضحة مستقيمة، ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
إننا لسنا هنا ضد الاستفادة مما عند الآخرين، بل إننا ندعو لذلك ونشجع عليه، ونعتبره عين الحكمة، كما ينبغي أن نجوب الدنيا شرقاً وغرباً سعياً وراء كل فائدة يمكننا بها خدمة أمتنا والنهوض بها، ولكننا هنا ضد هذا الانبهار الذي يؤدي بصاحبه إلى عقدة النقص، ويولد الهزيمة النفسية، ويسبب تبعية للآخرين مزرية، ويمنع من تحدي الأقوياء ومنافستهم، ويحول دون المبادرات الفذة والإنتاجات المبدعة، بل ويفقد الثقة بالنفس والولاء لهذه الأمة.
لقد أصبح حال بعض المفتونين من أبناء أمتنا بثقافة الغرب كما قال الخليفة العباسي المهدي:
أرى ماء وبي عطش شديد ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيكِ أنكِ تملكيني وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعتِ يدي ورجلي لقلتُ من الرضا: أحسنتِ، زيدي


وما أروع ما قاله الحاكم الأندلسي المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية حينما خُيِّر بين موالاة الفرنجة والتعاون معهم وبين موالاة المسلمين والتعاون معهم، فاختار الثاني وقال: والله لأن أرعى الإبل في المغرب خير من أن أرعى الخنازير في أوروبا.
إن الغريب في هؤلاء المتأثرين بغيرنا، من أبناء جلدتنا وممن يحملون أسماءنا، أنهم نسوا أو تناسوا وغفلوا أو تغافلوا ذاك الإبداع الحضاري الذي أنتجته أمتنا طوال أكثر من اثني عشر قرناً من الزمان، يوم أن كانت أوروبا تغط في سباتها، راقدة على فراش جهلها، ملتحفة لحاف تخلفها، تلفها ظلمات بعضها فوق بعض