لماذا الهجرة

 

 للشاعرة : انتصار محمد الحاج

 

  والعالم يتحدث عن القرية الكونية وعلماء الفضاء يتحدثون عن امكانية العيش فى المريخ نتجلى نحن بكل هدوء وسكينة لنكشف عن جراحنا الغائرة منذ ما قبل الاستقلال وحتى الان لنتحدث عن الهجرة من الريف الى العاصمة المثلثة التى تؤكد كل ملامحها الواضحة للعيان بعيدا عن تلك المخفية باننا دولة كبيرة تدخل فى عداد الدول النائمة النايمة عفوا اقصد النامية التي لم تستطيع حتى الآن ان تؤمن لكل مجموعة من المجموعات السكانية بالمواقع المختلفة سبل العيش الآمن والعلاج السهل ومصدر الرزق المضمون والمدارس الجيدة. ...................................................................................

حدثني احد كبار المسئولين بالدولة عن العاصمة وان عدد سكانها نهارا سبعة مليون شخص وليلا خمسة مليون ! ولما سألت عن الاسباب اكد بان الاثنين مليون مهاجرين قادمين من الاطراف للعمل بالمهن الهامشية، وهمشناها نحن من وجهة نظرنا الاقتصادية، ولكن هى بالنسبة لهم الخيار الافضل والحلم الذى يؤدى الى تحقيق الذات- وان كان بيع مسحوقا لتبييض الاسنان او ملابس مستعملة او ماء .

وقبل ان اتجاذب معك قارئي الكريم أطراف الحديث حول الهجرة الى العاصمة المثلثة دعنى احدثك قليلا عن الهجرة وكيف كانت بدايتها.

 لا أريد ان اجعل الاحباط يتسلل الى نفسك عبر مقالى هذا، ولكن منطقيا انا وانت ومحمد احمد وادم وخيرى ومجوك نعلم ما هو النمو، وكيف يكون، وأذكرك- ان نسيت- قم بحفر الارض وضع عليها حبة ذرة واسقها يوميا ونظف ما حولها، ستلاحظ بأن الحبة المدفونة اصبحت شيئا اخضرا صغيرا نبت وظهر على سطح الارض، ثم صار شيئا فشيئا نباتا، وبمواصلة السقيا يصل مرحلة يعطى فيها قندولا، هذا التطور البسيط الواضح جدا هو النمو، وان كنا دولة نامية لنمونا كذلك، مع اختلاف المسميات، أترانا نمونا.؟؟؟

لا ادعوك للاجابة على هذا السؤال الآن ولكن دعه يرن باذنيك لكي نستطيع ان نتلمس جميعا من نحن واين نقف.

قارئي الكريم : كلمة هجرة فى اللغة العربية اتت من لفظة هجر الشىء بمعنى تركه مكانه وتحول عنه لشىء آخر، والهجرة من مكان الى مكان هى ترك هذا المكان، والسعى الى مكان اخر بحثا عن شيء معين- اما لدنيا يصيبها او لامرأة يتزوجها او لتجارة يسوقها، او لأشياء اخرى ذات علاقة بتحقيق الذات وتحسين الوضع الاقتصادى.

والهجرة الداخلية بالسودان منذ الازل انواع؛ اولها الهجرة من مناطق الحرب الى المناطق الآمنة واهمها هجرة القبائل السودانية الجنوبية من المناطق الجنوبية خوفا من الموت بأسلحة الفصائل المتقاتلة، وهنالك هجرة متحولة بحثا عن القوت وهربا من شبح المجاعات- كما يحدث بمناطق غرب دارفور- وهناك معاني اخرى للهجرة وهى :

الهجرة الموسمية للمشاريع الزراعية المروية :

تتراوح اعدادهم بين المليونين ونصف الى ثلاثة ملايين عامل فأكثر يتنقلون بين قراهم وبين المشاريع الزراعية المختلفة كل عام وطوال الاعوام الكثيرة الماضية ظلت اتجاهات هذه الهجرة وملامحها والسياسات المتعلقة بها والنتائج الناجمة عنها هي هي لم تتغير كثيرا، وقد اتخذت هجرة هؤلاء العمال اهميتها بسبب مشروع الجزيرة  فى ذلك الزمان، حيث اخذ المشروع اهميته حينما عانت مصانع لانكشير للغزل والنسيج بانجلترا من صعوبة الحصول على المواد الخام مما انتج المنافسة وحرم انجلترا من الاسواق الهامة المضمونة، فسعت انجلترا لايجاد حل لهذه الازمة واتجهت لزراعة القطن بالسودان مع البحث عن الايدى العاملة الرخيصة، وذلك لان سكان الجزيرة والمناطق الاخرى كانوا غير ميالين الى العمل المأجور الذي كانوا يعتبرونه ذليلا وحقيرا، وحتى الذين منحوا الحواشات لم يميلوا للعمل لعدم تعودهم عليه من جهة، ولانعدام الحافز لديهم من جهة اخرى، فقامت الإدارة البريطانية بتكليف العمد والنظار وغيرهم من زعماء القبائل بحث اتباعهم على العمل فى مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الاخرى . وشيئا فشيئا زادت نسبة المهاجرين للمشروع بسبب الركود والخلل الاقتصادي الذي اصاب البلاد، وللضغوط الإدارية، و للحملات الباهظة التكاليف التى كانت تقودها ادارة المشروع لاقناع المواطنين واغرائهم بالعمل فى المشروع، بالاضافة الى رغبة الموطنين بالحصول على السلع الصناعية المستوردة كشيء جديد عليهم، حيث كانت هنالك بعض السلع التى لا يمكن مقايضتها- كما اعتادوا فى الماضى ان يقايضوا بعض السلع المصنوعة محليا مع المستوردة من مصر- والتوسع الذي حدث فى الخمسينات في الزراعة الآلية المطرية بمناطق السافنا ادى الى ازدياد الخلل فى الزراعة التقليدية بدفعه للعديد من الايدى العاملة للبحث عن العمل الماجور، وبالتالي كان لابد من الهجرة الى مناطق الزراعة الالية.
 وللهجرة الموسمية ملامح وخاصيات يمكن ان نجملها فى الآتى :

الملامح الديمغرافية؛ وهى تميز الغالبية العظمى من المهاجرين بقوة الاجسام التي تستطيع احتمال الاعمال الشاقة فى الظروف الصعبة، وينحصر اغلبهم فى الفئات العمرية من 20  الى 45 سنة، بالاضافة الى الاطفال الذين تقل اعمارهم عن عشرة سنوات وهم حوالى 13% من المهاجرين الوافدين من مديريات النيل الازرق ودارفور وكسلا وكردفان. ولعل السبب الاساسى الذى ادى بالاطفال للانخراط فى الهجرة- ومزاولة الاعمال الزراعية كاللقيط- هو الفقر المدقع وانعدام الخدمات التعليمية فى القرى الاصلية, والخاصية الثانية هى تكرار هذه الهجرة لسنوات غير محددة قد تطول وقد تقصر، اى قد يستقر المهاجر او يذهب ثم يعود مرة اخرى بحسب ما سيجد عليه من احداث او مقدرات مالية، والخاصية الثالثة هى المحدودية، حيث ان غالبية المهاجرين- اى حوالى 70% منهم- تتراوح فترات اقامتهم ما بين  ثلاثة وخمسة شهور فى الفترة من يناير الى مايو من كل عام، اما الباقون فيقررون البقاء فى نفس المنطقة او الرحيل للمناطق المجاورة للبحث عن عمل لعدم تمكنهم من العودة الى مناطقهم لارتفاع تكلفة الرحيل، فيفضلون التنقل من مدينة الى اخرى من المدن القريبة كسنار والقضارف وكوستى والخرطوم وودمدنى، ومن ثم قد تتاح الفرصة لهم لايجاد وظائف دائمة فى الحكومة او القطاع الخاص، وبالتالى تكون اقامتهم اقامة نظامية.

ارتبطت الهجرة الموسمية بمسالب كثيرة انحصرت فى ارتفاع اصابات العمال بالملاريا والبلهارسيا والنزلات المعوية وغيرها من الامراض التى لم تكن مألوفة لديهم، كما تعرضوا لاصابات العمل المختلفة- وكان بعضها خطيرا جدا- دون مساعدة من ادارة المشاريع او المزارعين لهم، كما وان معدل وفيات الاطفال قد ارتفع بصورة كبيرة فى مناطق الانتاج الزراعى، والمناطق الاساسية للمهاجرين كانت تظل محرومة عن سواعد بنيها مما يولد نتائج خطيرة على هذه المناطق، ومن اكثر المناطق استفادة من الهجرات الداخلية النيل الازرق وكسلا والخرطوم، كما وان هنالك مناطق تعانى من فقد بنيها كالشمالية وكردفان ودارفور  .

ما استعرضته من حديث يؤكد وجود الهجرة المرحلية التى تبدا بقصد مكان معين ثم الذى يليه وهكذا حتى العاصمة لاسباب متمرحلة تتبلور بحسب المكان الذى تم الرحيل منه وحسب السبب، حيث كانت الهجرة للمناطق الزراعية للعمل، ومن ثم للتى تليها، للقيام بعمل مؤقت لحين الموسم الزراعى ثم للمناطق التى تليها لايجاد اجر اكبر، ومن ثم للخرطوم لايجاد مصدر دخل اكبر والبحث عن وظيفة، اما فى القطاع الحكومى او فى القطاع الخاص.

اوضحت الدراسات التى تم اجراؤها عام 1971 بان 40% من سكان العاصمة الذين كان يبلغ عددهم 700.000 نسمة كانوا من المهاجرين، بمعنى انهم ولدوا خارج العاصمة وقدموا اليها فى فترة ما من فترات حياتهم، واذا اخذنا السكان الذين تزيد اعمارهم عن 15 سنة سنجد بأن ما يزيد عن 60% منهم كانوا ايضا من المهاجرين، وكذللك 70% من ارباب الاسر، اذا سنجد بان الهجرة تلعب دورا كبيرا فى تزايد سكان العاصمة وينتج التزايد ليس فقط بسبب الاعداد الكبيرة من المهاجرين وانما ايضا بسبب معدلات الانجاب المرتفعة وسط المهاجرين وغير المهاجرين على السواء، واكثر المناطق ارسالا للمهاجرين هى  الشمالية ثم النيل الازرق وكردفان ودارفور وريفى الخرطوم وكسلا ثم الولايات الجنوبية و نسبة 6% فقط للمهاجرين الى العاصمة من خارج السودان، وفى غالبيتهم اتضح بان التوجه الى العاصمة كان مرحلة ثانية سبقها التوجه لمدينة اخرى قبلها.

واسباب هجرة المواطنين بصورة عامة يرجع الى البحث عن فرص افضل فى التعليم وارتفاع معدلات الفقر والبؤس، وستستمر نسبة المهاجرين فى التضاعف، وهو نتيجة طبيعية لتركز نسبة كبيرة من الاستثمارات بداخل الخرطوم، حيث ان اكثر من 80% من نشاطات البنوك والشركات التجارية تتركز فى العاصمة، واكثر من 70%من الصناعات، فضلا عن تركز المعاهد التعليمية والتسهيلات الصحية والمناطق الترفيهية والخدمات الاخرى، وقبل كل هذا- برغم لامركزية الحكومة- الا ان الكثير جدا من النشاطات اصبح مركزيا، حيث ان هنالك دوافع اقتصادية واجتماعية ونفسية ولعل التفاوت الكبير فى الكسب بين الريف والمدينة واحتمالات فرص العمل الكثيرة تؤدى بالمهاجر لاجل العلم للاستقرار بعد التخرج فى المدينة لتحقيق مصدر دخل اكبر، وبالتالى لتحقيق ذاته، كما وان الفقير الذى نزح من مكان اقامته قادما للخرطوم للبحث عن فرصة عمل افضل- وان كان عملا هامشيا- تكون بالنسبة له فرصة ذهبية تغنيه عن العودة لمكان اقامته حتى لا يعانى العدم والفقر. لماذا؟؟

 لان كل ما ينتج فى الاقاليم ينتهى بالعاصمة، كما وان الفائض الاقتصادى لا يعاد استثماره مرة اخرى فى نفس مناطق الانتاج، ولو كان يعاد استثمار فائض الانتاج بنفس مناطق الانتاج لما هاجر المهاجرين، ولتحرك المزيد من راس المال نحو الفائض واسهم فى انتعاش الانتاج ولقلت الهجرة عن الصورة التى نراها الان .

هذه الهجرة ايضا كان يمكن ان تسهم فى النمو الصناعى فى المدن، كما حدث فى اوربا ابان نهضتها الصناعية، ولكن النهضة الصناعية التى نرجوها لم تتحقق حتى الان بالمستوى الذى يخلق توازنا بين عدد المهاجرين وفرص العمل حيث زاد عدد المهاجرين وقلت فرص العمل المتاحة مما ادى الى حدوث البطالة والاعتماد والاتكال على الاقارب والبلديات فاثر هذا على اقتصاديات الاسرة، فبدلا من اعالة الواحد لأسرته فقط؛ نجد الانسان يعول اكثر من سبعة افراد اضافيين، وظهرت ظاهرة المهن الهامشية التى لا تسهم فى زيادة الانتاج بشىء يذكر، وزادت من نواحى الاختناقات، ولعل خلاف سوق الذهب الاخير وشكواهم المرة من الباعة المتجولين واضطرار الحكومة لمكافحتهم بالقوة اقرب مثال لكل ما سبق من اسباب اسهم فى تدنى دخل الفرد وادى  الى لجوء اعداد متزايدة من المهاجرين الى عمليات الغش والاحتيال والسرقة والنهب. ولعل العولمة ايضا قد اسهمت بالكثير حيث ان التكنولوجيا ذات الكثافة العالية من راس المال ادت الى ادخال معينات، هذه المعينات ادت الى الاستعانة بعدد قليل جدا من الايدى العاملة، برغم ازدياد عدد الخريجين والمتعلمين والباحثين عن العمل ومشاكل العطالة والبحث عن فرص افضل للعمل، هذه المشاكل كانت تغض مضجع البلاد منذ الستينات الى الان وبالطبع قد زادت المشكلة عمقا بزيادة عدد المهاجرين وزيادة عدد المتعلمين وزيادت الولادات، وبالطبع هذا سيؤدى الى حدوث اضرار خطيرة بالمنطقة المهاجر اليها، والمنطقة المهاجر منها، حيث ان اكبر نسبة للمهاجرين تنحصر فى السن التى يمكن ان يعطى فيها الانسان- وهى سن الشباب- وكما كان سابقا فى السبعينات تنحصر فئاتهم العمرية بين الخامسة عشر والخامسة والأربعين، وماذا سيكون ما قبلها؟ طفولة لا انتاج فيها وهرم بحاجة الى المساعدة وما ورائها؟.......... مناطق متخلفة تشكو نعيق البوم والغربان فيها لا يكثر فيها الا المسنين الذين هم بحاجة الى المساعدة وبحاجة الى من يحمل عناقريبهم لدى مماتهم .. و حدثنى احد الاصدقاء عن منطقته التى هاجر كل شبابها الى الخرطوم- ومن ثم الى الخارج- حيث لم يتبقى فيها الا العجائز فصار الشباب عندما يأتون في الإجازات يقومون بحفر عدد من القبور ويتركونها جاهزة. اى مأساة هذه واى الم هذا؟ ترى لو كان هناللك نموا فعليا وتنمية فعلية هل كانت ستكون قرانا هكذا ؟؟ونحن الذين نتغنى باقوال الحماسة:

للجار والصديق عشرتنا تتمنى

بنصون الامانة السيده امنا

كيف يتسنى لنا صون الامانة ونحن لانقدر على ان نصون اهلنا من كبار السن مجبرين وليسوا مختارين.

عزيزى القارىء حاولت بقدر الامكان ان اتجول عبر هذا الموضوع دون ان اضغط على جراحنا حتى النزيف  ولكن ليس بيدى حيلة فانا اسعد لمن يبكينى وينصحنى اكثر من حبي لمن يضحكني وينسيني. وادعوك بعد الاطلاع على هذا المقال ان تفكر معى كيف نتمكن من القضاء على الهجرة وهل سنستطيع ؟؟؟؟

انتصار محمد الحاج

 

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون