صفحات من دفتر عاشقة

 

 

 

  للقاص :عبد الباسط آدم مر يود

 

·        شهادة التدوين

كنت اقف شاخصة ببصري يملؤني الاندهاش, استجلي توهان البنايات السامقة مناطحة السحاب في تغولها وانسرابها كالمسلات تخترق الفضاء, وبقلبي  وجفة وارتعاشة مصادمة اكتشاف الأمكنة والوجوه الغريبة لاول وهلة, وأنا القادمة من مدينة خفيضة المباني أليفة الوجوه ، يداي تقبضان حقيبة ملابسي أحاول أن افرغ خوفي وارشف منها الأمان ، البارحة استودعني أبى في المطار لعائلة قادمة إلى هنا, التصقت بهم في الطائرة مخافة المطبات الهوائية ونظرة رجل الأمن المخترقة لي عند الفحص ، من المطار إلى هذه المدينة قدم لنا سائق التاكسي سندوتشات, لسذاجتي كدت أن أتذوقها لولا مرافقي لكزني وأمه التي بجواري مانعا  إيانا بالتفاته منه ونحن في المقعد خلفهم هو والسائق ، وفي الفندق  حيث قضينا ليلتنا أطعمناها لهرة هرت  فأسبلت أجفانها وغشيها النعاس وتدلى لعابها ! هكذا استقبلتني هذه المدينة ، ثم سائق تاكسي آخر وضعني هنا أمام هذه البناية بإعتبارها بيت الطالبات ولم تكن كذلك بل هي مأوى عجزة ، وأنا بين الحيرة وارتعاشة مصادمة اكتشاف الأمكنة وصخب وزحمة الشارع وأزيز الترام على مقربة مسرعا تخرج يدك تلوح فتملأ سماء وجهي وصوتك ينادي فيملأ أذناي ،  والتلويح والصوت كانا مندغمين تماما في لحظة واحدة صوت وضوء كخطفة البرق والرعد ، تشكلتا ككورال لصدى الصوت والصورة ، وبين إسراع الترام واختفائك تحولت كلي إلى سؤال وقبل الإجابة انبثقت شاهقا كضوء المآذن ، فودعت الارتعاش والوجفة والوحشة الفارعة وعبرت بي سدرة الخوف  بأمان  لبيت الطالبات فحررت شهادة  التدوين للحظة الأولى .

·       مدارج القمر

كنت اقف عند الشرفة البحرية للشقة العالية والمساء بهيج ، والشمس تكسو وجهي وزجاج النافذة بغلالتها النحاسية  كقطعة لهب فيتلون الموج اللازوردي فيكون عندماً ليرسل رذاذاً يغسل وجهي ، وعند الأسفل حديقة العشاق تضج بالقبل والعناق الحار والتهماس الشغوف لتلك الثنائيات فيتنامي إلى السماوات العلى وتمخر زوارق أحلامهم عباب البحر ، كنت في مراوحة حادة بين قلبي المشغول بك وذاكرتي هي الأخرى تشغلها كلماتك (أنا أنت وأنت أنا وكلانا الحب ممتد) وهي تلون ملامحي وتعيد ترتيبي وتملأ فراغات روحي بعذوبتها, فيرتص بنياني من جديد ، اعشوشبت كلماتك  في دواخلي تماما ونحن نعبر حد التآلف بتلك الحديقة الصاخبة ، وحطت نوارسك من عليائها فوق هامة خاطري المكسور المتشظي بجراحات الماضي ، كنت اصدح مع الغروب أناجيك (عش معاي الحب عش معاي حناني خليني أنسي سنين عشتها وحداني ) وتفاجئني صديقتي بتداخل صوتي فيتعانقا صوتينا ويتجمعا كزخات المطر مكونان  ينبوع من الحنان يرد البحر فيصير حانيا عطوفا ، يستجيش بالحب ، جل هذا اليوم البهيج كنا أنت وأنا غافلنا الجميع, وقفنا على ربا يوتوبيا مدينتنا الفاضلة ، اقترحت المداخل للأحلام  أنت عند الضحى ، شنفتنا  ازاهير الحديقة بعطرها ، شقشقت عصافيرها مزغردة ، وأنا اكتنفني الصمت حتى الأصيل ، هززت دواخلي وبنيت على حطام ماضيها مدارج للقمر ، عدنا اكثر التصاقا وتشابك  أيدينا خفف رتابة غدو الترام في سيره المتئد ، لصفت الأرقام 86221 وحفرت في ذاكرتينا وكانت جسرا  باهرا  لتثنيات ومنعرجات حياة كل منا .

قابلت الشوارع وقع خطانا بفرح طاغي وطرزت حوافها الإسفلتية بالدهشة ، و زرعت شتلات للألفة في ضحكات وغمزات ركن السودان ، واحتقبنا نهاراتنا وليالينا وتسكعاتنا البحرية زادا  لرحلة العمر في العودة  للوطن .

·        انتشاء الأزمنة

كانت الأيام تقتات من رحيق صبري ، والأزمنة تتمطى على فحيح صدري ، وأنا أتمسك بعصي ذاكرتي الخازنة لانتشاء الأزمنة القزحية ، أجوب فيافي الأسئلة الصعبة عن جدوى الانتظار ، كنت تتمدد على سماء ذاتي وتغري في الصمود ، كان الخوف يبسط لي يداه ، وكنت تصعد بي عوالي الإنقسنا وخيرانها شعلة للدفئ الذاتي ، ثم تأتيني ضباباً خرافيا يتلوى فيَ يهزني ويحاصرني ويدخل إلي مسارب روحي ، استنشق فيه عبق معاناتك فاصطبر .

كنت أهش للقياك فيتسلمني شوقك ويعربد بي ، ويضاحكني حبك لي ويغامز انتظاري العنيد لك ، كان أهلي يوسوسون على عتامة خطى زماني, والزملاء الاماجد يتوزعوننا ضريرة لعشيقاتهم الغائبات, والزميلات الماجدات ينثرننا تمائم لعشاقهن الغائبين ، كنت التقيك على سفوح الأنقسنا في قلي وفادميه ودندرو فبوط , ونحمل محبتنا قناديل لوهج احتفالات الحصاد وعيدان لنيرانهم الليلية, فيعمدوننا إلهي خصب ونماء ، فتنتشي ازمنتهم وتتجشأ حليب الغنى وتضيء عتمتهم المستفحلة .

 

عبد الباسط آدم مر يود

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون