محراب الآداب والفنون

 

بقلم / أحمد محمد المبارك 

 

من فقرة مدتها خمس دقائق فقط وسط مجلة تقدم من تلفزيون الجزيرة الريفي؛ ملأ الدنيا وشغل الناس, تخطى كل الحواجز .. كسر كل القيود .. انطلق مغردا بين حواشات المزارعين .. وطلاب المدارس .. نقل الأشياء من الحياة للمراسم، وجعل المراسم تنطق كأنها الحياة .. كنا نجلس نرتقب كل أسبوع تلك الوجوه الجميلة .. التي تنقلك إلى آفاق يصعب الوصول إليها الآن ..لم ينتظر ليأتيه الناس … ذهب إليهم بنفسه.. حادثهم .. غازلهم .. أحبهم كما أحببناهم .. أخرج إلينا كل الجمال .. كل الحب .

 الخمسة دقائق زادت لعشرة، ثم لثلاثين دقيقة، ثم كان الاندماج مع برنامج آخر مكونا تلك البذرة الناضجة: محراب الآداب والفنون ... البرنامج الذي انطلق من الجزيرة وجذب كل الناس لمشاهدته .. ولعل المعجزة التي حققها- وعذرا لتسميتها معجزة، فهي كذلك- لأنه للأسف الشديد لم يستطع برنامج آخر من خارج العاصمة أن يبث من التلفزيون القومي غير محراب الآداب والفنون، ولا ندري هل هي مشكلة الآخرين ام مشكلة التلفزيون القومي؟؟ 

عندما استضافت قناة النيل الأزرق ذلك العملاق بابكر صديق كان يحدثنا كحبوبة تحكي لنا لننام .. لنحلم بعصافير تناغمنا مع بواكير الصباح .. نقلنا إلى مدن قصية فشلنا زمناً طويلا أن نصلها، ولعل إنسانيته المتناهية تجعلك تديم النظر إليه ولسان حالك يقول ليته لا يسكت.. ومن أكثر الأشياء لفتاً للأنظار أولئك الذين هاتفوه، جاءت كلماتهم جميلة جمال المتصل عليه، ولعل أبلغ الكلمات كانت كلمات د. راشد دياب عندما ذكر له "أن الفرق بينك وبيننا أنك تعمل للآخرين والآخرون يعملون لأنفسهم" .. لخص كل الكلام . حادثه أيضاً د. الفاتح حسين .. الذي لم تقل كلماته روعة عن كلمات الآخرين..

ورغم حاجتنا لصوت عبد الحليم سر الختم، لا شك أننا فقدنا ذلك الصوت الرائع للأستاذ المربي طه كرار- رحمه الله-  الذي كان عندما يحادثك عن قدامى الشعراء تحس كأنهم يجلسون معك تحت شجرة نيم، أو كأنك تجلس مع ست الشاي، او مع الحبيبة على ضفاف النيل الأزرق من أمام قبة سعدابي ... فقد جعل اللغة العربية بسيطة سهلة يعرفها الجميع ويا ليت الناس يكرمون هؤلاء الاماجد ..

عندما عدد المواهب التي أخرجها برنامجه، وكذلك بعد امتداد البرنامج الآن إلى "أصوات وأنامل" يمكننا بكل اطمئنان أن نقول أنه أبو المواهب السودانية ومفجرها وأتمنى أن يجد البرنامج الدعم الدائم.. ولو نظرت إلى البرامج التي من حولنا في القنوات الفضائية الرائجة ستقف بكل احترام لهذا البرنامج الذي سبق عصره وصمد لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، ولنوعية المادة التي يقدمها ,

وكعادة السودانيين، يفشلون دوما في تكريم المبدعون وهم أحياء ، وفاجأنا تلفزيون الإمارات بتكريم برنامج "أصوات وأنامل" كأحسن برنامج في القنوات العربية.. بالله عليك ألا يوازي هذا الإنجاز إنجاز د. عز الدين الذي فاز بجائزة الأمير سلطان، والذي يكرم تكريما يليق به أينما حل.

من الأشياء التي أحبطتني بصفة شخصية هي عندما ذكر أنه من الممكن ألا تجد حلقة واحدة مسجلة لبرنامج محراب الآداب والفنون بالتلفزيون الآن!!! وكنت أتمنى أن تقف المذيعة عند هذه النقطة، ولكنها لم تفعل، مما جعلني ازداد إحباطا وأتوجس خيفةً من أن هذه الحلقة الجميلة التي شاهدتها ربما لم ولن تسجل هي الأخرى.. لتزداد الهواجس والإحباطات .. ولكن تبقى الابتسامة التي رسمها ويرسمها دوما ذلك العنيد على شفاه كل الناس .. تبقى دوما بلسما لكل آلامنا كما فعلها قبله ود المقبول وطه كرار وكل الذين يبذرون لنا الحب أينما كنا .. فلهم وله أجل حب وتحية، وللنيل الأزرق أيضاً رغم هواجسنا سالفة الذكر ..

 

راسل الكاتب