حجارة بورسودان.. بتمشي

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

نادوها من التحتانية وهي منشغلة بزراعة شتيلات البصل، وكان المنادي متقطع الأنفاس من الجري، فتركت ما بيدها وغسلت يديها ووجهها وأسرعت الى بيت أهلها وهي منزعجة لهذا النداء العاجل، ولم يبرّد بطنها المنادي، بل كان يبتسم في خبث وكأنه يخبئ لها مكيدة، كان ولداً صغيراً ولكنه مشاغب.. ويبدو انه كان يستمتع بالربكة التي سببها لها، وتعثرها في تقنت الجدول مما جعل قدمها تغوص في طينه وتضطر بالتالي الى غسل اقدامها وساقيها وحتى ما فوق الركبة- سيما وأن الرحط الذي تضعه حول وسطها يسهل لها ذلك- فيمازحها الفتى الصغير:
- نان ما تتبردي فرد مره!
- الغبا اليغباك
ترد عليه وهي تنظر إليه شذراً وكأنها بهذه العبارة تقول له (الناس في شنو والحسانية في شنو)، إذ تستغرب مزاحه في الوقت الذي فيه هي مهمومة من ذاك النداء- غير المعتاد- للحضور الى البيت.. وما إن تخطت الجدول حتى أزاحت جريدة من النخلة التي على حافة الجدول رحطها الى اعلى فبانت بقية جسدها الذي كان بالكاد يستره الرحط، ولم تهتم، فكثيراً ما لعبت وهي هكذا وعملت في الحقل وهي هكذا، بل وصارعت الصبية وهي هكذا، ولم تحس بشئ غير عادي، رغم أنها امتلأت أنوثة حتى اختفى الخيط المعلق في جيدها- والذي يتدلى منه (الحجاب)- بين نهديها المكشوفين..
وصلت الى البيت فأدخلتها والدتها الى (التكل) مباشرة، وكانت الفتاة قد لاحظت وجود بعض الرجال في الديوان مع والدها، وبما أن استقبال والدتها لها كان مستبشراً فقد زال التوتر في نفسها نسبياً، وتحول الى حب استطلاع، ولم تتركها والدتها في هذه الحالة من الارتباك، فقالت لها:
- مبروك
- مبروك على شنو يمه؟
- جاك عريس
- ....
ولم تنبس ببنت شفه، في انتظار أن تكمل والدتها الحديث، إلا أن والدتها أحبت ان تشوقها، فسكتت قليلاً، حتى إذا أحست أن ابنتها قد بلغ بها التشوق ما بلغ لمعرفة من يكون هذا العريس، قالت لها:
- فتح الرحمن ود الشيخ
- الفي بورسودان؟
- الفي بورسودان.. ياهو زاتو
انفردت اسارير وجهها، وظهر الحبور على محياها، فما احتاجت امها الى سماع القبول الصريح منها، فقامت لتنادي والد عائشه من الديوان لتخبره بقبولها بالعريس.. وهل كان من المنطق ان ترفض عريساً مثل هذا؟ عريس سيأخذها الى المدينة ويريحها من زراعة البصل وحش التمر وحش قش البهائم ونقل المويه من البئر وحلب البهائم وعواسة القراصة بجريد النخل وحطب العشر ذا الدخان المقرف..
سرحت عائشه بعيداً حيث يحملها اللوري الى كريمه بعيداً عن قريتها (الكرياب)، ستفقد صويحباتها، وستشتاق للعب مع الصبيان لعبة (شليل) ومع البنات (الصي) و(بُربُره)، ولكنها سترتاح من تعب الزراعة ونشل المويه من البئر، وستلبس الجلابية والتوب والجزمه بدلاً عن الرحط وشبشب (الكفرّيق) الذي تصنعه بنفسها من قعر جريدة النخل ومن سعفه..
قطعت زغرودة استرسالها في الخيال.. لقد وافق والدها على زواجها من فتح الرحمن ود الشيخ، وخرج يبارك لها، فخرج بعده الشيخ ومن معه ليباركوا للعروس.. واتفقوا على أن يعقد القران بعد اسبوعين- يجهزوا فيهما العروس- ومن هذه اللحظة رُفع عن عائشة تكليف الخدمة في البيت وفي الزراعة وفي زريبة البهائم..
وجلبت والدتها الطلح والشاف، وبدأ تجهيز العروس بدخان الطلح ثم بدخان الشاف، وعندما وصلت (الشيله) جلست النساء لـ (دق الريحه)، وبدأت المرحلة التالية من التجهيز بالدلكه واللخوخه وغيرها.. وخلال اسبوعين كانت عائشه عروساً بمعنى الكلمة.. وخلال ليالي العرس ضُرب الدليب وعُزفت الطنابير وغنى المغنون وصفق المصفقون ورقصت البنات، وقُطع الرحط، وذبحت الخراف وأقيمت الولائم وامتلأت الأزيار بالمريسه والدكاي، ثم فرغت الأزيار.. وقبض على حسين نائماً عند (طاقة) غرفة العروسين ليلة الدخله، حيث كان ينظر من تلك الكوة الى ما يدور، ويبدو أن المتفرجين الآخرين قد غادروا وتركوه وهو ينتظر دوره فأخذته سنة من النوم حتى شقشق الفجر، ورغم ان الشباب -أولاد وبنات- كانوا يفعلون ذلك في كل زيجة، إلا أن تعيس الحظ هو الذي ينكشف أمره في الصباح، لكن في النهاية يصبح الأمر طرفه ومدعاة للتندر والونسة.. وانتهت أيام العرس.
ركبت عائشه اللوري في الكابينة مع عريسها، بينما ركب المسافرون الآخرون على متن اللوري فوق مقاطف البلح وجوالات القمح وعفش الركاب.. وتهادى اللوري بين البيوت الطينية وغابات النخيل، وكانت بعض البيوت بلا أسوار، وحتى تلك التي بها أسوار كان يُرى ما بداخلها من على اللوري، فتلك مضجعة في ظل النيمة، وتلك تملأ الزير، وهذا جالس في ظل الصباح يشرب القهوة، ثم يمر اللوري بين حقول القمح والبرسيم فتزكم الأنوف رائحة التربة المروية بماء النيل وأريج زهر البرسيم، وتارة يقترب اللوري من ضفة النيل وتارة أخرى يحاذي أطراف الصحراء، وفي بعض القرى ينحصر طريق اللوري بين الجبل والبحر حتى إذا ما تمايل اللوري بسبب الرمال والصخور خاف الناس ان يقعوا من على ظهره الى مياه النيل مباشرة، خاصة أيام الدميري.
ثم يلوح لهم من بعيد جبل البركل المهيب، حتى إذا بلغه اللوري رأى الركاب تلك الأسود الرابضة عند سفحه وكأنها تتحدى عاديات الزمن، وتسخر من عوامل التعرية ورياح الهبوب والزحف الصحراوي.. لقد ظلت جالسة جلستها تلك عدة ألوف من السنين.. يمر الناس بها بالدواب وبأرجلهم، وبالعربات والسيارات، وهي جالسة تتفرج عليهم جيلاً بعد جيل، يمرون عليها أطفالاً يُفعاً، ثم صبياناً، فشباباً ثم رجالاً حتى يصبحوا كهولاً، ثم يمر أبناءهم فأحفادهم، وتشهد جنائزهم تمر من أمامها الى مقبرة القرية، وتشهد كرنفالات النفساوات والمواليد الى النيل، وكذلك (سيرة) العرسان واولاد وبنات الطهور الى النيل للإغتسال والتبرك بمياهه..
وصل اللوري اخيراً الى كريمة، رأت عائشه عربات القطار فظنتها مجموعة بيوت متجاورة، فقالت لفتح الرحمن :
- البيوت السمحات ديل هولا منو؟ هولات الحيكومة؟
- لالا ، ديل هولاتك (قالها وهو يضحك)
- هولاتي كيفن؟
- هولاتك لامن تصلي بورسودان، ديل عربات القطر الحتسافري بيهو!
بورسودان.. البحر المالح.. بيوت الخشب.. والكدايس (ناس بسم الله)، سرحت بخيالها في تلك المدينة البعيدة، التي سمعت العجائب عن قططها.. سمعت أن قطة أزعجت ربة المنزل فوضعتها في كرتونه وسلمتها لمسافر الى مدينة كسلا التي تبعد مسافة يوم كامل بليله عن بورسودان، ليطلق سراحها هناك، فأخذها المسافر بالفعل وأطلقها في مدينة كسلا، وفي اليوم التالي وجدت ربة المنزل القطة تجلس فوق الحائط وتحدق فيها بعيون متحدية، فما كان من المرأة الى أن ارتحلت من البيت، ومن الحي..
وفي قصة أخرى قال لها عمر أنه مرة كان في برندة أحد قصور سواكن القديمة- ربما قصر الشناوي- فرأي كديسة (قطة) تلتقط الخبزة من الأرض بيدها اليمنى وتضعها في فمها- كما يفعل البشر- وليس بفمها مباشرة من الأرض كما تفعل القطط، وتتذكر ليلتها أنها بحلقت بعيونها في الظلام حولها خائفة أن تكون إحدى كدايس بوروسودان في مكان ما في الحوش الذي يسمرون فيه هي والشلة، وفي الليل لم تنم من الخوف.. (كدايس شنو دي الزي الزول!)، ولم يكتف عمر بتخويفها بتلك القصة فقط، بل أضاف اليها أنه كان يجلس في المطعم في بورسودان، فأحس بشئ يربت على فخذه فنظر فإذا هو قط رافعاً جسمه على رجليه الخلفيتين ماداً يديه الى اعلى يلمس بهما فخذه ثم يتراجع الى الأرض وهو ينظر اليه.. إنه كان يطلب الطعام، فرمى له عمر قطة طعام فأكلها ثم كرر نفس طلبه الأول، وظل هكذا حتى غادر عمر المطعم، ولكنه قبل ان يقوم رأي شكلة (مشادة) بالأيدي بين رجل يجلس في الطاولة القريبة وقط، وكأنها مشادة بين رجلين، ويبدو ان الرجل لم يستجب لطلبات القط، ولم يعطه ما يريد، فحاول القط ان يأخذ ما يريد بالقوة، وهنا بدأت المشادة بينهما بكل جدية..
تتذكر عاشه تلك القصص والقطار يضرب في الصحراء الكبرى، لقد كان خيالها ملجأ لها من ذلك الملل من تلك الرحلة الطويلة، وتلك الصحراء التي لا تنتهي، رمال مترامية الأطرف، لا يتغير المنظر إلا ببعض الجبال والتلال التي يمرون عليها من حين لآخر.. ويتمنى المسافرون أن يصلوا الى المحطة التالية، والتي قد لا تكون أكثر من أربع أو خمس (قطاطي) ومكتب صغير لموظفي المحطة.. أما محطة عطبرة فهي كالعيد بالنسبة للمسافرين بعد طول الرحلة المنهكة الطويلة المملة، ففيها يغتسلون من حنفيات المحطة ويرتوون من المياه العذبة ويشترون الطعام الطازج- ويأخذون إجازة مؤقتة من الزوادة شبه الجافة والتي هي في الغالب (قراصة التمر)- وعند مفارقة محطة عطبرة تبدأ سلسلة الجبال الجرداء الجافة.. رحلة أخرى من الملل، والغبار الذي يثيره القطار في سيره- بالتكاتف مع حر النهار- يجعل المسافر لا يطيق نفسه من تراكم الغبار فوق العرق.. ولولا سلسلة جلسات دخان الطلح والشاف التي أُخضعت لها عائشه لكانت اشمأزت من رائحة بدنها، ولكن الدخان والخومرة والدلكة جعلها تتعرق ريحاً طيباً عكس بقية الركاب، مما جعل بعلها يلتصق بها طلباً للرائحة الطيبة تلك، وهروباً من رائحة جسده هو..
وأخيراً زكمت أنوفهم رائحة البحر.. رائحة غريبة تشبه رائحة السمك النيئ، عرف المسافرون أنهم قد اقتربوا من بورسودان، فبدأوا يغتسلون ويغيرون ملابسهم المتسخة والمغبرة، وبدأت النسوة يمشطن شعورهن ويدهن أجسادهن بالدهن الكركار، ويغيرن ملابس أطفالهن استعداداً للنزول في عروس البحر الأحمر، بورسودان..
هاهي عائشه في المدينة الكبيرة لأول مره، ركبت التاكسي مع عريسها من المحطة الى عش الزوجية في حي ابو حشيش.. منزل من الخشب، أرضيته بلاط، وحوشه ضيق، ولاحظت أن معظم البيوت بهذا الشكل والطراز.
وفي الليل بعد أن آووا الى الفراش سمعت أصوات اشياء تنقر في البلاط (كوك.... كوك.... كوك) فلم تستطع تمييز هذا الصوت الغريب في سكون الليل، فجمد الدم في عروقها ولم تستطع إيقاظ فتح الرحمن الغارق في نومه، وفي الصباح لم تسأله حتى لا يتهمها بأنها خوافه، وكذلك لأن الصوت ظل صوتاً فقط ولم يظهر شئ آخر، وكذلك لم تلاحظ أي شئ غير عادي في المنزل عندما أنبلج الصبح.
وبما انها عروس فقد قام العريس بحق الضيافة للثلاثة الأيام الأولى، فلم يتركها تطبخ، فكان يحضر الطعام من المطعم، كذلك الجيران والأهل لم يقصروا، فكانوا يحضرون طعامهم ليفطروا أو يتغدوا معها، وفي اليوم الرابع- وقبل أن يخرج الى عمله- احضر لها اللحم والخضار والزيت والبصل والبهارات وخلافه لتبدأ في تجهيز الغداء.. ثم خرج، فبحثت عن لدايات (أثافي) لتضع عليها قدر الطهي، فوجدت في الحوش بعض الأحجار الغريبة (لم تكن كأحجار الشمالية) بل كانت شبه حلزونية.. المهم أخذت ثلاثة منها ووضعت عليها قدر الطهي بعد ان صبت الزيت وقطعت فيه البصل، ثم وضعت الحطب وأشعلت النار، وذهبت لتقطع اللحم والخضار في البرنده.. وبعد مدة من الزمن جاءت لتضع اللحم والخضار في الحلة..
صرخت صرخة مدوية وجرت الى الشارع، والذين كانوا في الشارع دلفوا من باب الحوش واندفعوا الى الداخل ليروا ما الذي هاجم تلك المرأة حتى جعلها تصرخ مستغيثة وتخرج إلى الشارع بملابس البيت..
لقد رأت بأم عينها اللدايات (الأثافي) تمشي.. كل واحدة في اتجاه، وقدر الطهي على الأرض..
- حجارة بورسودان بتمشي، شوفوها ماشه.. حتى الحجارة بقت شواطين؟ ما الكدايس براها.. حتى الحجارة بقت شواطين.. ياها زاتا الكانت بتمشي بالليل وتسوي (كوك.... كوك.... كوك) في البلاط.. نادو لي فتح الرحمن.. جيبو لي فتح الرحمن.. البيت مسكون والحجار بتمشي..
- يا بت الحلال قولي بسم الله، ديل ما حجار.. ديل ابو جلمبو.. ديل حيوانات بحرية.. الشفع بيجيبوهم من البحر يلعبو بيهم ويخلوهم في الحوش واللا في الشارع، ولمن يجي الليل والجو يهدأ بتقوم تمشي، وبالنهار لما الحركة تشد بيتقوقعن في صدفاتن.. وانتي لمن حسبتيهن حجار وختيتيهن لدايات وولعتي النار شعرن بالحراره وطلعن من قوقعاتن وشردن من النار..
- لا لا بتغشوني ساكت.. الحقني يا فتح الرحمن، بيتك مسكون..
عندما حضر فتح الرحمن مسرعاً من عمله بعد أن ارسل له الجيران مرسال ليخبره بما جرى، كان الأمر قد بلغ مبلغه في نفس عائشه، ولم يستطع هو ولا غيره ان يقنعوها بأن المسألة لا علاقة لها بـناس بسم الله (الشواطين).. فظلت تردد: حتى حجارة بورسودان بتمشي.. خليها كدايسهم، ياهم ذاتهم ناس بسم الله.. وعندما استمرت معها هذه الحالة ذهب بها الى الشيوخ.. ولكن دون جدوى، ثم نصحوه بأن يعرضها على الأطباء.. فكانت النتيجة هي هي..
بعد بضعة أشهر لم يجد فتح الرحمن مناصاً من إرجاعها الى البلد حتى تجد من يراعيها من أهل بيتها، وحتى تبتعد عن البيئة التي أذهبت عقلها، فعادت الى الزراعة والخدمة في الحقل وحلب البهائم ونقل المويه، وما إن تقع عيناها على حجر حتى تجري الى البيت وهي تصيح: الحقوني.. الحجر ساكيني.. الحقوني.. حجر بورسودان لحقني للكرياب..



 

الرياض يوليو 2007

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون