أخوتي الأفاضل سوف نتعرض من خلال هذه المساحة عبر منتدي ود مدني الرائع لدراسة و تحليل ضرب من ضروب الشعر الشعبي يعرف بالمسدار ظهر هذا النوع من الشعر في بوادي السودان و إرتبط إرتباطاً وثيقاً بالحياة البدوية إذ يعتبر شاعر المسدار هو الناطق بلسان القبيلة شأنه في ذلك شأن شعراء الجاهلية الأوائل كما يصور لنا الشاعر كافة نواحي الحياة البدوية و تتبع رحلات المرعي و الصيد و كافة نواحي الحياة الإجتماعية في ذلك الوقت
و سوف أحاول في هذه المساحة التعرض لبعض نماذج المسادير و محاولة التسلل الى اعماقها لنتنفس عبق الدعاش و التعرف على جمال الحياة البدوية
و للتعمق في هذا البحر الأدبي سوف أقوم بتقسيم هذا الموضوع الى عدة مواضيع يتناول كل منها جانباً من جوانب هذا البحر الزخر ، و الحق يقال بأني أقف مشدوهاً أمام هذا الفن السوداني الأصيل الذي سطر لنا مواقف أدبية و إجتماعية فريدة قل ما نجدها في نوع آخر من أنواع الشعر
1/ تعريف المسدار :
كلمة مُسدار مشتقة من الفعل سدر بمعني ذهب او ورد ، وتحتمل هذه الكلمة عدة معاني مرتبطة بالاشتقاق الذي ذكرناه ، فالمسدار في البطانة " وسط السودان " يعني المرعى أو المورد الذي تتجه اليه البهائم . ولفروع وبطون القبائل المختلفة مسادير معلومة تسدر اليها مواشيهم طلباً للماء والكلأ , وقد استعمل الشاعر عبد الله ابوسن شاعر قبيلة الشكرية كلمة مسدار في هذا المعنى حين قال :
عنــاق الاريل المسدارهـا جَبرة
تحدِّثنـي حديثـاً كُلـّوْ عَبـرة
أنا إن جَنَّيت قط ما ظنَّـي بَبْــره
( عناق الأريل : الظبية و هي كناية عن المحبوبة )
واستعملت بعض القبائل الاخرى كلمة المسدار في هذا المعنى ، فقال الشاعر الطيب ود ضحوية شاعر قبيلة الجعليين :
مادام بت أم قجة
واردة وصادرة بي المسدار
( أم قجة : هي الناقة)
وكلمة مسدار تعني القصيدة ، واستعمل هذا المعنى في القصائد الغزلية من فن " الدوباي " أو الدوبيت وقصائد المديح النبوي . وقد وردت كلمة مسدار في هذا المعنى في بعض المدائح النبوية مثل قصيدة "حاج الماحي " "شوقك شوى الضمير " التي يقول فيها:
الشمـس في العِصيَر
ردّاها وجات الـعـِيـر
يا اخواني بـــي تشمير
شيلو لِيْ المســادير
تشمير : شمر عن ساعده ، أي اجتهد ( بي تشمير: أي بإجتهاد )
فالمسدار يمثل نوعاً معيناً من القصائد الشعبية التي تسير على نمط الرجز الرباعي، وهي شبيهة بالقصائد العربية القديمة ، وتعني بسرد ومتابعة رحلة الشاعر إلى ديار محبوبته . وقد تكون هذه الرحلة واقعية كما في مسدار " قوز رجب " للشاعر" الصادق حمد الحلال" ، أو خيالية كما هو الحال في كثير من المسادير . واحياناً تكون الرحلة مجرد رصد وتتبع لسير الحسان كما في " مسدار الصيد " للحاردلو .
وفي بعض الاحيان تكون هذه الرحلات زمانية تعنى بتتبع منازل وفصول العام مع ذكر عواطف الشاعر المتأججة ولوعته لفراق محبوبته .، يدل هذا النوع من المسادير على معرفة ودراية تامة بعلم الفلك والظواهر الطبيعية المختلفة التي تواكب الانواء و " المنازل " المختلفة للنجوم ، وخير مثال لهذا النوع مسدار الشاعر"عبد الله ود شوراني" الذي يستهله بقوله :
غاب نجـــــم النَطِح والحر علينا إشتدَ
ضَيـَّـقـْنـا وقِصر لَيلُو ونهــــارُوْ إمتدَّ
نَظِرة المنــــُّو للقانون بِقيـــت إتحدَّى
فتحـت عندي منطقة الغُنا الإنســَدَّ
يخبرنا الشاعر عن غياب نجم النطح واشتداد الحر وقصر الليل، وكل هذه الدلالات الطبيعية تصاحب ( عِينة النطح ) وهي مؤشر لدخول فصل الصيف و النطح : اول " عينة " من " عين " الصيف
وكثيراً ما نجد أن المسادير تحكي قصة حول الشاعر وحبه ، وتصف مجبوبته وكيفية الوصول اليها ، وعليه يمكن اعتبارها شعراً قصصياً . الا أن عناصر القصة لا تكتمل في جميع المسادير رغم تغلب الطابع السردي على جزء غير يسير منها . واذا اخذنا كلمة المسدار بمعناها الشائع ، أي" القصيدة التي تحكي رحلة الحب " زمانية كانت أو مكانية وتطرقنا للمعنى الآخر الذي يرمز للمرعى والمورد ، يتضح الارتباط الوثيق بين هذين المعنيين ، فالإبل يشتد بها الظمأ فتشتاق للمورد العذب ثم تسدر إليه . وفي الصورة الثانية نجد أن الشاعر يشتد هيامه بمحبوبته ويزداد شوقه إليها ، فيسعى نحو ديارها مدفوعاً بحرارة الشوق ، حتى يصل فيطفئ ظمأ اشواقه بلقياها . ففي كلا الحالين هنالك ظمأ وشوق وارتواء غير أن الصورة الاولى حسية والثانية تمثل صورة معنوية ، ويتضح مما سبق أن هنالك تداخل وترابط نفسي يقارب بين المعاني المختلفة لكلمة مسدار ، كما يقارب بين موضوعه ومضمونه والشخصيات التي يرتكز عليها . فالشاعر والمحبوبة ، والجمل والبيئة التي تتم فيها الرحلة ، كل هذه العناصر تكوّن وحدة نفسية متداخلة يحاول الشاعر الربط بينها ما وسعه ذلك ، فالشاعر عندما يتذكر ما سيجد من متعة ونشوة عند وصوله ديار المحبوبة يعلم أن جمله سيصادف مثل حظه من المتعة والراحة ، وهو لا يتوانى في أن يبشر الجمل بذلك ، فهاهو الشاعر " احمد عوض الكريم ابو سن " يحدثنا في مسدار " الصباغ " كيف أن محبوبته تأمر من يقوم على خدمتها بأن يعنى بأمر جمل الشاعر ويوفر له " العلوق
"
أرُبْطو الجـانا ضامر لا كَبد ولا كرشة
سحّار الغروب جيب لي العلوق بي الورشة
نفِّصـنْ المراتب ؤطرَّحن بـي الفُرشة
داير يبـرى جرحاً في القلب مُــو خرشة
وفي كثير من الاحيان لا تحتاج جِمال شعراء المسادير إلى التذكير بما ستجده من عناية عند ديار المحبوبة ، فهي لا تحتاج إلى من يحثها على السير إذ انها تتحرك بإيعاز داخلي ، فديار المحبوبة هي المرتع والمرعى الخصيب. ويصور شاعر " مسدار رفاعة " تلك الصورة تصويراً بارعا حين ما يحكي عن حال بعيره قائلاً :
ضهـر قلعة مبـارك جيتــو تلعب شد
منعت اللســَّة* والكُرباج وقولة " هد "*
علــى التالاك إحســان رزقو ما بِنْعد
يومك كُلـّو تمصع ما انلحــق اليك حد
شد : لعبة يلعبها الصبيان يمسك فيها الصبي أحدى رجيله بيده و يفقز بالأخري ( هنا شبه الشاعر حركة سير الجمل بقفز الصبي في لعبة شد )
اللسة : تحريك الدابة للسير ( نقر الدابة بكعب الرجل )
هد : لفظة تقال للإبل حثا على السير .
تمصع : تجتر الطعام
في ما يختص بتسمية المسادير التي تحكي الرحلات المكانية ، عادة ما يطلق اسم القرية او المدينة التي تبدأ منها الرحلة على المسدار ، ويتضح ذلك في كثير من المسادير مثل " مسدار رفاعة " و " مسدار ستيت " و " مسدار الصباع " .
ويعتبر المسدار وثيقة هامة تبرز شتى العناصر الثقافية وتفيد كثيرا في دارسة تاريخ وتطور الادب السوداني وفي التغيرات الاجتماعية المختلفة التي تطرأ على البيئة السودانية .
و نواصل بإذن الله
المفضلات