إستمر شاعرنا المحلق فى طوافه ببادية الحمران مؤملآ أن يعثر يومآ
ما على النور بن اللمم الذى لم يحسن ضيافته ليلة مبيته خلف خبائه حتى
عثر عليه وكلاهما على ظهر فرسه , فطلب المحلق من النور أن يصارعه,
فرفض النور , فهجم عليه المحلق , ونزعه من سرجه على الأرض وتصارعا
فسقط النور على الأرض , وقام من وقعته مستاء , وإستانف المصارعة ,
فسقط ثانيآ بعد عدة جولات وملاحمات , ثم هوى النور بعدها إلى الأرض ,
فضرط وخجل من نفسه , ونفض عن ملابسه العفار , وقام ليركب فرسه .
ولكن المحلق قص ذيل الحصان , وقطع أذنيه ( وهذا دأب كل من ينتصر
على خصمه من فرسان بادية البجة ) , وقال له :
يانور هل تحمل منى رسالة إلى إبنة العم تاجوج ؟
فأجاب : نعم .
فقال له :
قل لصافية العلامة
بين قوزين طارت حمامة
الضنب والإضنين كرامة
******
فلما وصل النور داره أخبر تاجوج بالرسالة , فأجابته :
ويحك هل صارعت المحلق فصرعك ؟
فقال : نعم , وكيف عرفت ذلك ؟
فقالت : أخزاك الله , أما تخجل ياهذا من نقل فضيحتك إلى , والله لن أرتضيك
بعلآ لى بعد اليوم . ورحلت عن منزل الزوجية الثانى إلى غير رجعة .
وتناقل الناس خبر مصارعة المحلق و النور , وما كان فيها من مفآجات حتى
إضطر النور إلى الإختباء عن المجالس والمجتمعات .
بعد طواف عدة سنين بين الأحياء العربية والبوادى الحمرانية إنهارت صحة
المحلق , فعاد إلى أهله ولزم داره , وتولت أمه الحنون العطف عليه والسهر
حوله لا تترك دواء او علاجآ نافعآ إلا أحضرته لوحيدها , ولكن لاشفاء له من مرضه
إلا بشئ واحد هو موته أو دنوه من تاجوج , وهذا من رابع المستحيلات , فبقى
فى بيته ينتظر اليوم الموعود .
وفى أحد الأيام زار الحى فقيه متجول , فأتته والدة المحلق وقالت له :
إن إبنى أصيب فى عقله بسبب حبه لإحدى البنات , فهل لك أن تقف
عليه عسى الله أن يأخذ بيده ويتم شفاؤه .
فقال الفقيه :
إن تلاوتنا ترفع ما به من مس , ومحايتنا تشفيه من المرض
الذى به . وسارا معآ حتى أتياه , وبدأ الفقيه فى التلاوة وحرق البخور
والبصل الخفيف , وإستمر ثلاثة أيام على تلك الحال .
وجاءت تاجوج , ورفعت ستارة البيت كى ترى ما يفعل الفقيه الذى حالما شاهدها
بهت وإضطرب عقله , وإندهش , وقد وجه بصره نحوها , وصار يكتب بعد أن يضع
قلمه فى التراب بدلآ من الدواة , فقال المحلق :
يافكى لا تكتب تقول مريضك طاب
فِـكرك إشتغل , قلمك مليته تراب
ضامرة الوسط بالنظر ليها خطاب
جا المحزوز من وسطه العالى فى القرقاب
******
فخجل الفقيه مما حدث منه خصوصآ وقد كان المحلق مراقبآ بل مسجلآ لكل
حركاته وما أصابه من سهمى تاجوج عندما رفعت الستارة , وأُعطيت له بقرة نظير
أتعابه , ثم إرتحل عنهم .
توالت على المحلق الأمراض والعلل , وكثر عواده والمشفقون عليه , بل
والمترحمون عليه إذ أن الآسقام أضنته حتى أدنته من نهايته المحتومة , فأشفقت
بعض قريباته عليه , وطلبن من تاجوج أن تزوره عسى أن يشفيه الله مما به من
السقم والهزال , وقامت معهن قاصدة دار الحبيب الأول .
فلما دنت من الدار شعر بوقع خطاها , وتعرف عليها فأنشد لمن حوله :
ما ها أم شبط , ما ها أم لبط
ما شقت فريق جابت خبط
مخروطة لى عند اللباط سكر نبت
أقطعن بى بشيش الشيخة جَـت
******
فلما دخلت تاجوج الدار , وقعت الأبصار على الأبصار , ودار الخطاب بينهما بلغة
العيون والألحاظ , وإنفرجت أسارير وحه المحلق , وكان التقطيب حليفها , فدنت
من سريره , ووضعت رأسه على فخذها , والدموع تتناثر من عينيها وقالت :
أهكذا صرت يا محلق ولا أدرى .
فأجابها : نعم .
ثم أنشد :
أتارى يا أم قبيل الغى (الكبرياء) عبادة
مسوحك بالعطر والناس مَـراضى
حِـسيسِـك فى الضمير قاطع الكبادة
تقتلى الزول سريع قبل الشهادة
******
ثم صمت ساعة يغالب فيها الموت , والدموع من تاجوج تتناثر على وجهه
كأنها العطر الندى , ويعيريه الإغماء , فإذا أفاق يقول كلمات متقطعة هى أبيات
من الشعر الباكى , ثم أغمى عليه , وإنكبت عليه تاجوج , فإذا به قد فارق الحياة
وإرتفعت روحه إلى بارئها .
أما تاجوج فإنها خرجت فى يوم من الأيام فى غافلة يزمع أصحابها الذهاب
إلى العزاء فى قرية نائية , وقد حملوا معهم الإبل والبقر والسمن والعسل , وسارت
القافلة حتى بلغت مكانآ يسمى " تكى لباب " عند وادى أبو عقيلة بالقرب من مدينة
كسلا , وهناك أناخت القافلة لشرب المواشى وأخذ كفايتهم من الماء , وكانت
القافلة مكونة من عشرة رجال ومعهم بعض النساء فى هوادجهن , فخرجت عليهم
عصابة كانت تتربص بهم فى ذلك المكان , وهجمت على القافلة , وقُـتل ثلاثة من
كل فريق , وفازت العصابة بالمواشى وسائر ما حوته القافلة حتى إن أحدهم أخذ
برسن ناقة تاجوج , ودافع عنها أحد الحمران , فأستونف القتال , ونزلت تاجوج من
الناقة مطعونة بحربة , فتلقاها أحد رجال العصابة وأطاح رأسها بالسيف فخرج من
عنقها لبن , ثم جرى الدم حارآ , وسقطت جثتها هامدة .
***********
*********
*******
*****
***
*
### وهكذا إنتهت حياة هذين العاشقين لتصبح خالدة ما نبضت القلوب ###
المفضلات