(1) تاج السر جوهر
انتقل والدي تبعاً لوظيفته الحكومية من مدينة الحصاحيصا إلى مدينة ود مدني وكان ذلك سنة 1983 م وكنت حينها في التاسعة من عمري واستقر بالوالد العمل في وزارة المالية بمدني بينما استقر بالأسرة السكن في حي دردق قرب محطة 18 الشهيرة . وكانت أول سني الدراسة في ود مدني هي الصف الرابع الابتدائي وكانت كل دراستي الابتدائية في المدرسة الشرقية الابتدائية. لا زلت أذكر جيداً تلك الأيام ، وحتى بعد أن كبرت وأدركتي الكهولة ـ وبالمناسبة فإن الكهولة تبدأ بعد سن الثلاثين على الصحيح ـ ولكن لا علينا ولنعد إلى سياق ما كنا فيه من الحديث ، أقول : حتى بعد أن أدركتني الكهولة ووخط الشيب العوارض كنت كلما مررت على المدرسة الشرقية الابتدائية بود مدني مر على عقلي شريط طويل من الذكريات الجميلة . وبالرغم من أن اسم المدرسة قد تبدل من الشرقية إلى مدرسة أحمد عبد العزيز لكن ذلك التغيير لم يغير ما في القلب من المحبة والإلفة والشعور الدافئ الجميل كلما مررت أمام تلك البقعة .
كان الأستاذ : تاج السر جوهر ملء السمع والبصر بين تلاميذ المدرسة في تلك الأيام ، وبالرغم من أنه لم يدخل علينا الفصل الدراسي إلا بعد سنتين من وجودي في المدرسة ؛ لأنه كان لا يدرِّس إلا طلبة الصف السادس لكنني سمعتُ به أول أيام وجودي في المدرسة الشرقية ، ولذلك قصة لا تزال عالقة بذهني :
فقد كان الأستاذ المسؤول عن الطابور والنظام في المدرسة اسمه أستاذ : إبراهيم ، وكانت مشهوراً بأمور ثلاث :
أحدها : أنه كانت رجلاً فكاهياً من الدرجة الأولى ، يحب الفكاهة والنكتة وإذا وجد طالباً مهرجلاً ، فإنه كانت في بعض الأحيان لا يعاقبه بالجلد وإنما كان يكتفي بالسخرية منه حتى يجعله مسخرة أمام الطلاب .
والثاني : أنه كان مريخابياً متعصباً ، حتى أنني أذكر أنه في يوم من الأيام وجد الفصل جايط فأخرج الفصل كله بغرض جلده ولما بدأ بأول الطلاب ليجلده ، سأله عن اسمه فقال له : أسامة السر ، وكان اسمه مطابقاً لاسم أحد لعيبة المريخ ، ولأجل ذلك عفا الأستاذ إبراهيم يومذاك الفصل من الجلد وأمر الطلاب بالعودة إلى كنباتهم .
الثالث : كان شديد الضرب وبلغة أولاد المدارس : جلاد ؛ ويخاف منه جميع الطلاب يرهبونه ويعملون له ألف حساب .
أستاذ إبراهيم هذا كان مسؤولاً عن الطابور وبينما كان يتفقد الطلاب في الطابور ذات صباح ؛ مر على أحد الطلاب ينتعل سفنجة ـ وكان الحضور إلى المدرسة بالسفنجة مخالفاً للأنظمة الدراسية ، ولا زلت أذكر أن ذلك الطالب كان اسمه : هشام أحمد علقم وقد كان زميل دراسة وصديق طفولة وكان فضلاً عن ذلك جاراً لنا في السكن حيث كان بيتنا يفتح في بيتهم . على كلٍ لما رأى الأستاذ إبراهيم هشاماً يلبس السفنجة أخرجه في وسط الطابور ولطشه كف صاموطي حتى أن هشاماً من قوة الكف تدحرج إلى الخلف وسقط على أم رأسه ، ولا تسال عن ضحك الطلاب وحرج المضروب ، ومن ذلك اليوم وبأمر من الأستاذ إبراهيم اكتسب صديقي هشام لقب : هشام سفنجة . على كل في ذلك اليوم الأستاذ إبراهيم قال للطلاب مهدداً ومتوعداً : اعملوا حسابكم ولا بجيب ليكم العتاولة ناس السر جوهر !!
عندما وصلنا على الصف السادس [ سادسة شرق ] تعرفت عن قرب على شخصية أبو السرة وقد كانت له شخصية فريدة بحق ، كان صارماً في درسه ولا أذكر يوماً أنني رأيته في الفصل يضحك أو حتى يتبسم اللهم إلا مرة واحدة ، كان يتحدث فانقرش حسه وحاول جاهداً أن يخرج صوته فلم يستطع وبعد محاولات متكررة وجهد جهيد وزمن مديد أفلح أخيراً في الكلام ، فكان أول ما نطق به أن قال متبسماُ : حجارة البطارية قطعت !! كان تلك أول مرة أراه فيه يمزح .
في نفس الوقت كان أستاذ تاج السر جوهر حريصاً جداً على تدريس الطلاب وفهمهم للمقرر وكان يعقد اختباراً في كل أسبوع يصحح من ثلاثين فالذين يحوزون على الدرجات ما بين ثلاثين وخمسة وعشرين لا شيء عليهم ومن نزل عن الخمسة والعشرين يجلد سوط عن كل درجة نزلها ، وكان يوم توزيع النتائج يوم رهيب والطلاب ما بين سالم فرح وما بين مستقل من الجلد ومستكثر ، كان الأستاذ تاج السر يوزع أوراق الاختبار ذات النتائج ما بين ثلاثين وإلى خمسة وعشرين . . غسان عبد الغني ، عمار سعيد ، عادل عمر عثمان ، نزار عباس سليمان وفلان وفلان : ثم يقول كلمته المشهورة : الباقين ديل عاوزين ضرب .
ثمة أمران غريبان لم أرهما لغيره مما يتعلق بطريقته وأسلوبه في جلد الطلاب :
الأول : أنه كان يستعمل في أحايين كثيرة قناية في جلد الطلاب خلافاً لعامة المدرسين الذين كانوا يستخدمون خرطوش الماء الأسود الذي كان يسمى " عب الليل " .
والثاني : أن الطلاب كان بعضهم يستعمل اللبادة وهي قطعة قماش أو جلد أو نحو ذلك كانت تلبس تحت الملابس بغرض تخفيف الم جلد السياط . وكانت هذه اللبادة ـ وبعض الناس يسمونها الكركاسة ـ في بعض الأحيان تصدر صوتاً مميزاً حين يقع السوط على الجسم ، وبهذا الصوت الذي يصدر حين يقع السوط كان يستدل بعض المدرسين على أن الطالب كان يلبس لبادة ، وكان عامة المدرسين يأمرون الطالب بإخراج اللبادة ثم يواصلون جلده ، لكن أبا السرة كانت له طريقة غريبة فإنه كان بمجرد صدور الصوت الذي يدل على لبس الطالب للبادة ، كان يدخل يده وينزع اللبادة بنفسه ثم يواصل الضرب والعقاب .
كانت آخر مرة قابلت فيها أستاذي تاج السر جوهر يوم استلمنا نتائج امتحان الشهادة الابتدائية وكان ذلك في أواخر سنة 1986 م ولم أره بعد ذلك ولا أعرف أين هو أو ما الذي فعلت به الدنيا . أسال الله تعالى أن يحفظه ويبارك في عمره أن كان حياً . وإن كانت الأخرى أو الأولى فعليه من الله الرحمة والمغفرة .
المفضلات