تتعدد الأسباب والوأد واحد .. وما فقده قطاع النسيج بالجزيرة من مؤسسات عريقة ، غصت بمرارته الحلوق . ألهب المشاعر ، وحرك كوامن نفوس أهل الوجعة من شهود عصر هذه المؤسسات الموءودة ، فبادروا للإدلاء بشهادتهم ، توضيحاً للأسباب ، وطرحاً للحلول ، عسى الله أن يخرج من أصلاب ولاة الأمر من يبعث الروح في الموتى من مؤسسات هذا القطاع المكلوم بإذن الله .
المهندس تقني / حامد عبد الله بابكر ، معاشي ، عاصر عدد من مؤسسات النسيج بالجزيرة ، بمراحلها العمرية المختلفة ، أرجع أسباب توقف مصنع نسيج النيل الأزرق عن العمل ، إلي سوء الإدارة ، والتمويل ، وعدم التسويق ، وقدم الماكينات ، وضياع الخبرات البشرية ، وتراكمات الديون وحقوق العاملين ، ومنافسة المواد المستوردة للمحلية ، والاستيراد وعدم حماية الصناعة المحلية ، وضعف الدعم من وزارة الصناعة ، والسياسات العامة ، وارتفاع أسعار القطن ، وصعوبة تشغيله لاختلاف ماكيناته وقدمها ، مشيراً إلي إمكانية الاستفادة من هذه الآليات لإنتاج الدمورية ، والدبلان ، والزي ، وبعض المفروشات الصيفية .
فيما توقف مصنع نسيج المزارعين ، بفضل عدم وجود الكادر الفني في الأقسام المختلفة ، وعدم إلمام مجلس الإدارة بطبيعة المشاكل ، إضافة لممارسات النقابة في إدارة المصنع ، وعدم وجود خطوط إنتاجية ، وارتفاع أسعار المنتجات عن المستورد ، وطبيعة الماكينات واسبيراتها من شركات محددة عالية الأسعار ، وحوجة بعض الماكينات للإحلال بسبب القدم ، وحقوق العاملين والديون المتراكمة ، وعدم توفر الإمكانيات اللازمة لإنتاج الألياف الصناعية وتجهيزها .
أما مصنع C.T.M ، فتمثلت أسباب توقفه في مشاكل الإدارة ، وارتفاع أسعار المنتجات عن المستورد ، وحوجة بعض الماكينات للإحلال والإسبيرات ، والخطط الإنتاجية ، وعدم وجود كوادر فنية ، والخطط العامة ، والحماية . بينما أضرت عدم المواكبة ، وقدم وتقليدية التقنيات ، بمصنع الصداقة ، إضافة لطفو مشكلة الأقطان على السطح ، وبعض مواد التشغيل المستخدمة في إنتاج الدمورية ، والملايات الشعبية والزي . بينما لعبت مشاكل الكهرباء ، والإسبيرات ، والافتقار للتخطيط ، والكوادر الفنية بمختلف أنواعها ، الدور الرئيس في توقف مصنع الحج عبد الله بالغ القدم . وتضاف إلي هذه الأسباب مجتمعة ، عدم وجود مصانع للغزل والتجهيز . ويؤرخ المهندس حامد عبد الله لصناعة النسيج في السودان ومشاكلها قائلاً : بدأ التخطيط لمعظم مصانع النسيج الحالية مع بداية السبعينات ، وذلك بغرض إقامة أكبر مصانع في إفريقيا ، والشرق الأوسط . غير أن الدراسات ، والأهداف لم تكن كافية ، وطغت عليها القرارات السياسية ، عوضاً عن العلمية والفنية ، مما أثر سلباً على تشغيل تلك المصانع ، وما زالت هذه السلبيات تلقي بظلالها القاتمة على هذه الصناعة . وأضاف : في الستينات كان مصنع النسيج السوداني ، هو أكبر ، وأحدث المصانع بجانب مصنع الخرطوم ، وأنذارا بالجنوب ، وبعض المصانع الصغيرة ، حيث كان السواد الأعظم من العاملين بمصنع النسيج السوداني ، من أقاليم السودان المختلفة ، وكانت آثار النزوح ، والهجرة للعاصمة في تلك الحقبة ، مثار انتقاد البعض في الصحف اليومية ، وتزامن ذلك مع فكرة قيام المصانع فأتي القرار بإقامة مصانع للنسيج في الأقاليم بهدف التنمية ، ووقف الهجرات للعاصمة في كل من (نيالا ، كادوقلي ، شندي ، الدويم ، كوستي ، منقلا) ، ويضم كل مصنع 256 نولاً . وكان مفهوم كلمة نسيج هو : أنوال النسيج بدون مصانع الغزل والتجهيز ، وكانت المشكلة الحقيقة بالنسبة لتلك المصانع الستة ، تكمن في توفير الغزول ، وقد تمخضت أفكار المستشارين والخبراء في تلك الحقبة ، عن قيام مصانع للغزل في كل من الحاج عبد الله بحكم موقعها القريب من إنتاج القطن ، وبحري لأنها موقع صناعي ، وبورتسودان لأنها ميناء لتصدير ما فاض عن احتياجات المصانع الستة . ولكن تعثر قيام مصانع الغزل لأسباب تخطيطية ، وفنية ، وحدث أن تم استيراد الغزل من المحلة الكبرى ليتم نسجه بمصنع نسيج نيالا . وأشار المهندس حامد إلي أن القطاع الخاص كان له نصيب من المشاكل تمثلت في التخطيط والسياسات غير المدروسة ، والتمويل . مبيناً أنه ساق الأمثلة السابقة لمصانع القطاعين العام ، والخاص ، حتى يتسنى للباحثين عن مشاكل النسيج ، الإمساك برؤوس خيوط المشاكل المعقدة لهذه الصناعة ، والتي تزداد تعقيداً بسبب التوقف الطويل ، والتغير التقني ، في مجال المعدات ، والخبرات ، والمتطلبات . ولفت لمحاولة المخططين على مستوى القمة حل المشاكل القديمة دون النظر إلي المستجدات العصرية ، ومتطلبات الألفية الجديدة ، وضرورة فكرة إنتاج الدمورية ، والدبلان ، والزي بكميات محدودة ، واللجوء لإنتاج الألبسة الفاخرة ، والملبوسات النسائية ، والمفروشات ، والستائر ، والموكيت ، وغيرها من المتطلبات النسجية التي تنتج حالياً بدول شقيقة سبقناها في هذا المضمار الصناعي بزمان طويل . وإن كنا نعتبر القطن ، أساس لصناعة النسيج بالسودان ، فلا مانع من إدخال خامات أخرى كالألياف الصناعية . ونشير هنا والحديث للمهندس حامد ، إلي أن الجامعات ، والمعاهد ، توسعت في مجال النسيج ، وصارت تخرج العديد من المهندسيين ، والتقنيين الذين يفاجأون بضيق مواعين الاستيعاب والتوظيف ، واستحالة ولوج الأسوار المضروبة حول المصانع المتوقفة ، وإصابتهم بالعجز التام حيل إنقاذ هذا الوضع المتردي للمصانع . وعاد المهندس حامد ليؤكد أن التمويل ليس هو المشكلة الرئيسة لمصانع النسيج المتوقفة حالياً ، وجعله في المرتبة الثانية ، بعد التخطيط ، والتقنية المتغيرة ، والآليات المستخدمة ، والأهداف الإنتاجية ، والنظر لتلك المصانع بمتطلبات الألفية الجديدة ، وليس بخطط السبعينات . وطرح جملة من التساؤلات حول المشاكل الحقيقية لهذه الصناعة ، بقصد مناقشتها ، في وسائط الإعلام ، أو في الندوات العلمية ، أو المؤتمرات العامة ، والاستفادة من خبرات الدول الشقيقة (سوريا ، مصر) في عملية التجديد ، والإحلال للمصانع القديمة ، وذلك لإعادة هذه الصناعة العملية لقيد الحياة ، وإيجاد الحلول المناسبة لها . ما هي الخطط الإنتاجية المطلوبة ؟ وهل تلائم مصانعنا الحالية إنتاج هذه الخطط بالماكينات والتقنية الموجودة حالياً ، والكفاءات البشرية ، ومعوقات الصناعة الأخرى ؟ هل تمكنت مصانعنا إبان عملها بصورة جيدة من تحقيق الأهداف والخطط المنشأة من أجلها بغض النظر عن مصنع الصداقة الذي تميز بوضع ورعاية خاصة من الإخوة الصينيين ؟ ما هي مشاكل القطاع الخاص ، ودورها ، وإنتاجها عندما كانت في أحسن حالاتها ، وهل تتشابه المشاكل وأسباب التوقف ؟ هل سنعالج المشاكل المؤدية للتوقف ، أم سننشئ مصانع حديثة ، أم سنأخذ الخيارين معاً ؟ ما هي الإمكانات العلمية ، والتقنية ، والمالية المتوفرة لدينا لمواكبة العالم في الألفية الجديدة ؟
المفضلات