صفحة 1 من 5 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 25 من 112

الموضوع: رحلة في قاع المدينة ..رواية

     
  1. #1
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    رحلة في قاع المدينة ..رواية

    بسم الله الرحمن الرحيم
    رحلة فى قاع المدينة ..رواية
    عبدالغني خلف الله
    الحلقة الأولي
    أحياناً تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحياناً تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد ..تتقاذفك الأنواء وتبحر بك إلي المجهول .
    ولو أن الأمور تسير علي وتيرة واحدة لأمكن التعامل معها بنمط سلوكي ثابت لكنها تتقلب مثل طقس هذا البلد .. وهأنا بعد كل هذه السنين الطويلة التي شكلت حياتي بكل تقلباتها الموجعة والمفرحة أحاول أن أفهم نفسي ولماذا كان عليها أن تمضي بهذا الطريق دون غيره .. وهل كان من الممكن تفادي ما حدث هنا أو هناك أم أنها سخرية الأقدار طوفت بي من هذه الناحية إلي تلك وما بينهما أكثر من صدفة خرجت من جنون الوقت لتضحكني أو لتبكيني ..ولماذا كل هذا اللف والدوران يا هذا ؟.. إسمي حربي ..صالح عويضه عبد النور الملقب ب(حربي ) .. لماذا لا تدخل مباشرة إلي صلب الموضوع يا حربي فتريحنا وتريح نفسك .. حسناً .. سأفعل .. فقط دعني أعود بذاكرتي إلي الوراء ..لا ليس قليلاً ..بل كثيراً .. فالمسألة أكبر من مجرد حكاية نلهو بها قليلآ ثم ينتهي الموضوع ..أريد أن أحاكم كل الذين زوروا ظلماً وعدواناً تاريخي ..غيروا من طبيعتي .. ذبحوا في دواخلي البراءة .. وأصبغوا علي الألقاب والصفات ..فأنا تارة البطل والمنقذ وتارة الخائن وربما المحتال والمنافق .. لم أكن بحاجة إلي كل هذه التعقيدات .. فقد كنت أعيش حياتي البسيطة بمنزلنا الكائن بالحي الجنوبي من المدينة في قلب الأحياء العشوائية .. منزل بسيط من (الجالوص) وشيء من الكرتون والمواد المحلية .. ومعي والدتي الحاجه (حوه ) .. ولم يكن لي أخ بل مجموعة من البنات ..وأنا كبير العائلة كما يقولون .. (ناديه) وتعمل ممرضة بالمستشفي العمومي .. و(سلمي ) وتساعد أمي في إعداد ( الكسره وأحيانآ تصنع (الطعمية وتسلق البيض) وتبيعهما في المساء أمام دكان الحاج رضوان ..وكان في وجودها بهذه الزاوية السبب في دخولي حراسة الشرطة أكثر من مرة بدعوي الإزعاج العام وتسبيب الأذي البسيط ..وكانت الأمور تنتهي بجلدنا عشرين جلده أمام محكمة (العمد ) .. فقد لاحظ غيري ولاحظت أنا أيضآ أن (سلمي )هي الأكثر جمالاً في الحي والأحياء المجاورة حتي جبل الأولياء .. كانت تُعني بمظهرها رغم فقرنا.. ترتدي أحسن الثياب المعروضة بسوق ( الحرامية ) كل جمعة .. وكان أكثر من صعلوك يستفزّها ويتحرش بها فتقتحم علينا البيت وهي تبكي ..(مالك يا بت ؟ ) ..فلان قرصني وفلان قال لي كلام ( قلة الأدب ) .. فتثور الدماء في عروقي فأذهب وأبطش بهم ..فقد كنت كأي صبي ميكانيكي مفتول العضلات حتي وأنا في تلك السن المبكرة من عمري .. لذلك لقبوني ب ( حربي ) .. أما شقيقتي الثالثة نسمه .. فهي (تعبانه ..هلكانه ) .. عنوان لجميع أمراض المناطق الحارة وربما المستعصيه .. لا تكاد تتعافي من مرضها حتي تقع مجدداً .. مصيبة عانيت منها وعانت منها نادية أكثر فأكثر ..تأخذها معها للمستشفي حيث تعمل وتحضر لها أطناناً من الأدويه .. والنتيجة .. لا شيء .
    لكن الحياة تمضي بدون مشاكل ولا تخلو من المسرات ..فقد كان الجيران منفتحين علي الحياة بصورة غريبة يعبون منها عباً وكأنهم سيموتون غداً .. يعيشون ليومهم و( بكره ) في علم الغيب .. فلن تكون الحال بأسوأ مما تركوها خلفهم في تلك البلاد البعيدة والتي هجروها بسبب الحروب والجفاف وتلك قصة أخري .. حياة تبحث عن الفرح .. تقتنصه كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. مثل ماذا يا حربي ..؟ كنا نخرج كل عطله في رحلة إلي الحدائق العامة .. نجهز ما تيسر من الطعام ونستأجر ( دفار ) عبدو الفولاني .. وعبدو هذا بدأ بعربة كارو تلتها أخري وثالثة حتي وصل إلي ما وصل إليه .. عربة نصف عمر كثيرة الأعطال وكانت حين تتعطل ينادي عليّ من فوق السور فألبي طلبه بسرعة البرق ..تعلمون لماذا ؟ ..لأن بالداخل صغري بناته أميره .. تحلف عندما تراها بأنها القمر ليلة إكتماله .. (شنكل) القادم الجديد للحي والذي اختارني من دون الصبية لأكون رفيقه وكاتم اسراره ..همس في أذني ذات يوم وقال لي ( الشافعه دي يا حربي خطيره ..والله المنقه ذاتو ) وأضاف في غيرة واضحة (ظاهر عليها الجو بتاعك ..) أجبته وأنا محرج ..أبداً والله دي بت الجيران يا (شنكل )..بت طيبه ومؤدبه .. كانت تحضر لي (الشربات) وأنا أعمل بهمة ونشاط مستخدمآ كل مهاراتي الميكانيكية لصيانة عربتهم .. وهي تخصني بنظرات يلفها الخفر والحياء .. وإذ ما أحاول أن أقول لها شيئاً أتذكر كم هو شاسع البون بيننا .. فهي طالبة وأنا صبي ميكانيكي .. ولكننا حين نصل إلي الحدائق تسمعني كلامآ يسري كالكهرباء في عروقي وتشتري لي ( آيس كريم ) ..مثل ماذا يا حربي .. ؟ أشياء لا أفهمها .. تقول ليك .. تقول ليك كلام ( الغُنا ) وكنت اعتذر عن الإنضمام لكل رحلة لا تضم أميرة ..وفي مرحلة من المراحل صرت أنتظر لحظة خروجها من منزلهم لتركب في الحافله لأقول لها صباح الخير.. شنكل قال لي تشجع وقل لها ما يجول في ضميرك ولا تخش الرفض .. ( صنف البنات المتعلمات ديل ما زي الحبوبات .. بدورن الكلام النضيف ) .. وهي فيما يبدو مقتنعة بي وإلا لماذا تسمعني في كل مناسبة ذلك الكلام اللذيذ .. الحاج رضوان ( سيد الدكان ) .. قال في وجود أمي الحاجه ( حوه ) .. هذا الولد ممتاز وينتظره مستقبل باهر ..وأخذت كلامه علي أنه مجرد مجاملة لأمي التي تحرص كل الحرص علي تسديد ديونها في أول كل شهر .. وهذا بالطبع ما يسعد عمنا رضوان..

  2.  
  3. #2
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثانية
    آه من تلك الأيام .. النوم في الحصير والسقف المثقوب الذي لا يحتمل الرذاذ ناهيك عن المطر وأكل( البوش) ..هل تسمي عيشة كهذه (أيام) يا أستاذ .. ولو .. كان لها طعمها الخاص وكان الجميع بجواري .. فرحل من رحل ومات من مات وتزوجت من تزوجت .. والله أبيع بقية عمري لمن يعيدني ويعيد لي تلك الأيام .
    أواظب علي العمل بالورشه ..ورشة ( الأوسطي سلمان الفاضي ).. هكذا ينادونه في المنطقه .. (سلمان الفاضي) وهو لكذلك .. فبالرغم من طيبته وضحكته المجلجلة إلا أنه فضولي .. يريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة عن العربة والزبون .. لا سيما العربات التي تكون طرفآ في حوادث الحركة .. وكنت لا أحب سماع تلك التفاصيل .. ( تخيل ..اللحم لقطوه حته حته من جوه العربيه ..و ) ..وعندما يصل الراوي إلي هذه النقطة أغادر الورشة إلي بائعة الشاي ( نانا الحبشيه ) وأنا في غاية الإحباط .. أبحر في سمرتها وأرتاح .. تناولني الشاي بيدها والبهجة بعينيها وتدندن لي وحدي ( الماز بجي تاني ..الماز بجي تاني ).. وكنت أذوب من الطرب فأرقص بجنون ..ولا أتوقف إلا عندما تختتم الأغنية ب( زمناً ما بجي ) وهي تضحك من أعماقها ضحكتها التي تحاكي سقوط المطر فوق سطح من الصفيح بحي( الكرتون) .. (زمنآ ما بجي وعاد شن الدباره كان ما بجي ؟!) .. لماذا أتذكر كل هذا الآن وأنا جاثم داخل هذه الزنزانه ..؟ لماذا ..؟ إنها أصول اللعبة السياسية يا معلم .. يوم لك ويوم عليك .. وهل سأنسي ؟ ليتني أستطيع ..أم أنني سأظل حبيس زنزانتي وذكرياتي إلي الأبد .. وقد نسيني كل من أحببتهم وأحبوني أو هكذا أتصور .. إلا( شنكل ) .. رفيق الصبا والشباب .. الشخص الذي حولني إلي لص في بداية حياتي دون أن أدري .. فقد كان يصور لي السرقات الصغيرة علي أنها نوع من المغامرة المثيره .. بدأنا بسرقة (طاسات ) الإطارات .. كل ما نحتاجه لإتمام السرقة (مفك ) صغير لا أكثر .. نتجول أيام الجمع بين أزقة وشوارع الإمتداد الجديد حيث تراصت عشرات العربات .. وكانت حصيلتنا في أول غارة لا تصدق .. ثلاث وعشرون قطعة حملناها داخل أكياس من جوالات السكر الفارغة .. وفي ثاني يوم حضر لي (شنكل) بالورشة وأعطاني نصيبي .. كان مبلغاً خرافياً لم أحلم به من قبل .. ذلك لأن المعلم سلمان الفاضي لا يكاد يمنحني أكثر من ثمن وجبة الإفطار وتذكرة الباص .. وعدت إلي منزلنا آخر اليوم كأي موظف أحمل بيميني (كيساً) من الفاكهة وبشمالي ( كيساً) من الخضروات وحفنة من الأرغفه .. توجست والدتي الحاجه (حوه ) من الموضوع برمته وأخضعتني لإستجواب رهيب ..( القروش دي جبتهن من وين يا وليد ؟ .. من شغلي يما ..شغل بجيب قروش قدر ده ؟ .. هوي يا وليد أمسك الدرب عديل .. أبوك الشاويش عويضه عبد النور خدم في الديش لغاية ما مات في الجونوب .. عمرو ما سوي العيب ..)

  4.  
  5. #3
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثالثة
    واجهت المعلم بشروطي في الإستمرار معه .. أولاً نصف العمولة لأي عربة أقوم بصيانتها إضافة إلي وجبة إفطار أو أغادر الورشة .. وكانت أكبر مفاجآت حياتي عندما وافق وكلفني بمناقشة الزبائن علي الأجر وأخذ نصيبي مقدمآ .. كانت فرحتي عظيمة ذلك الصباح ولم يمض بعض الوقت حتي توقفت عربة أنيقة وترجلت منها فتاة في ريعان الصبا والجمال وقد أحدثت زيارتها للمنطقة فوضي لا مثيل لها .. أولاً لأن رؤية فتاة تقود سيارة ليس بالأمر المعتادفي زماننا هذا ولكونها جميلة وآسره ..طلب مني المعلم أن أعاين عربة الأستاذه ..سحر إسمي سحر وأعمل مضيفه جويه .. وأنت .. فاجأتني بتقديم نفسها وأنا أرفع غطاء الماكينة لدرجة أنني نسيت إسمي لبعض الوقت .. ها .. معاي أنا .. أيوه طبعاً .. قلت شنو ؟ ..قلت ليك إسمي سحر وأنا مضيفه .. العربيه دي بتاعتي .. عاوزاك تراجع الماكينه .. تشوف السخانه دي من شنو .. حاضر يا ست ..إنتي بس إتفضلي أقعدي جنب المعلم وأنا حأقوم بالواجب ..لم يصدق المعلم سلمان الفاضي أن كل تلك الوسامة تجلس بجانب مكتبه في مقعد هو بالأساس مقعد عربة تحت الصيانة وأنها ستمكث بعض الوقت .. فنادي علي (نانا الحبشية ) وطلب منها قدحين من الشاي ومن ثمّ عاد ليمارس هوايته في الثرثرة وهو الذي أصّر علي بائعة الشاي أن تبيع من أمام ورشته حتي يتسني له محادثة كل من جاء يطلب كوبآ من الشاي .. لم يكن بالعربة خلل كبير ..ذلك لأن ( طرمبة ) الماء لا تعمل وتحتاج إلي قطعة غيار جديده .. ناولتي حزمة من المال وطلبت مني أن أشتري قطعة الغيار وأعيد لها الباقي .. ولم تحدثني نفسي الأمارة بالسوء بأن أختلس بعض المال المتبقي وهو كثير فأعدته لها بالكامل .. ربما لأن الإحساس بالحيوية والإمتلاء الذي أحدثته زيارتها لنا كان أكبر من أن أدنسه بكسب مادي رخيص .. نظرت في عينيّ لحظة ودست في يدي بضعة جنيهات .. وعكفت علي العربة أعمل فيها بهمة ونشاط وأنا أختلس النظر إلي وسامتها كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. وسارت الأمور بسلام وطلبت منها أن ننطلق لتجربة العربة التي صارت تعمل بصورة جيدة ..أعادتني للورشة بعد أن دفعت الحساب وشكرتني بحراره ولم تنس أن تسألني للمرة الثانية عن إسمي ..صالح ..وملقب بحربي ..حربي ؟! ..أيوه حربي ..أنا حأناديك بس صالح .. ممكن ؟ .. ممكن طبعاً .. مع السلامه .. مع السلامه .
    عدت إلي منزلنا مشغول البال مشوش الفكر .. وبرغم الجنيهات التي إستقرت في جيبي جراء صيانة عربة المضيفة (سحر) إلا أن صورتها تملأ كياني .. ناولت شقيقتي سلمي بعض الحاجيات وسلمت بقية المبلغ لوالدتي .. سألتني سلمي ( أخت ليك غداء ؟ ) .. قلت لها لا أريد .. أنا تعبان وأود أن أنام بعض الوقت .. لحقت بي سلمي وقد قرأت شيئاً ما في عيوني .. حاولت أن تستدرجني في الكلام .. مالك يا حربي .. سمعت بخطوبة جارتنا ولّه الحكايه شنو ؟ أميره إتخطبت .. صرخت وأنا أقف علي أرجلي .. وكأن بي مساً من الجنون .. غادرت المنزل علي الفورفتلقفني (شنكل ) لدي الباب واقترح عليّ أن نتمشي قليلاً ووجدته وقد أخذني تجاه منطقة المقابر .. حاول أن يطيب خاطري ببعض الكلمات دون جدوي .. كنت أعلم أن شيئاً كهذا سيحدث وبأنني لن أكون العريس بأية حال .. فوالدها الحاج ( عبدو الفولاني) رجل طماع وأناني وسيفكر في بيع أميره لا تزويجها .. ولكنني لم أتوقع أن تسير الأمور بهذه السرعه .. فأميرة لا تزال بالسنة الثانية بالثانوي العالي وهي ذكية وطموحة ..فلماذا لا يدعها تكمل تعليمها ؟ لماذا ؟ .. دع الأمور لله وهاك يا صاحبي هذه ..( ده شنو يا شنكل ؟ .. سجاره .. بنقو ؟) ..لا لا يا (شنكل) أعفيني من هذه المصايب (..مصايب شنو ؟ إنت ما راجل ؟ ..ظنيتك لسه ولد صغير .. ) وتحت ضغطه وإلحاحه دخنت لفافة ولفافتين وثلاثه .. كنت أود أن أغيب عن الوعي تماماً حتي أنسي مشكلتي مع أميره وأنسي صورة المضيفة ( سحر) .. (آه لو شفت عينيها وهي بتقول لي مع السلامه ..عيون متل الفناجين والرقبه طويله .. ملساء .. والعجب الصوت والشعر .. أوصف شنو وأخلي شنو .. يا شنكل .. عليك الله جربت حاجه زي كده ؟ ) ..

    التعديل الأخير تم بواسطة عبدالغني خلف الله ; 28-01-2013 الساعة 08:14 PM
  6.  
  7. #4
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    آآآه يا عبد الغنى
    كم تأثرنى تفاصيلك الدقيقه
    يديك العافيه

    زى ما بقولوا جايبا بى ضبانتا

  8.  
  9. #5
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزي محجوب ..مساء الخير لك ولكل الذين إنضموا إلينا في هذه الرحلة علي حد تعبير مذيعين التلفاز والإذاعه وسعيد بأن تكون شاهداً علي حيثيات قصة الأوسطي حربي مع كل الود .

  10.  
  11. #6
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الرابعة

    أرسل شنكل آهة طويلة أردفها بزفرة حارة لفحت وجهي بلهيبها وهو يهمهم .. ما جربته يا حربي لا يمكن أن يخطر ببالك .. حياتي قبل أن أجيء إلي هنا كانت جحيماً لا يطاق .. فأنا نتاج زواج غير شرعي .. حملت بي أمي سفاحاً وقذفت بي إلي صندوق لحفظ النفايات .. أيوه ( ود حرام ) ..أليس هذا ما تود قوله يا حربي ..العفو يا (شنكل) ..(وإنت كان بإيدك شنو ؟ ) ..أشكرك يا صديقي .. لقد وضعت بالقرب مني نصف قطعة معدنية من فئة العشرة قروش ..لعلها لا تزال تأمل في إستعادتك .. بعد سبعة عشرة عاماً يا حربي .. لا أريدها وإن ظهرت سيكون حسابها معي عسيراً .. كان يتوجب عليها إسقاطي أو تحمل مسئولية إنجابي سفاحاً .. إمرأه ضعيفه ..إمرأه دنيئه .. لعل الظروف التي كانت حولها أقوي منها .. لا تدافع عنها ..ظروف أقوي من الأمومه ..أية ظروف هذه ..ترميني هكذا دون رحمة ولا تخاف عليّ من البرد والجوع والكلاب الضالة .. كيف تفكر يا غبي ؟..هل فعل البنقو فعله فيك .. أنا آسف ..آسف جداً ..المهم وجدني إبن حلال بين الحياة والموت وسلمني للسلطة والتي بدورها سلمتني لمنزل اللقطاء .. وبقيت هناك خمس سنوات والأسئلة الحائرة تزلزل كياني الصغير والمسئولة تعطيني أجوبة ساذجه .. فتارة أنا إبن الرعد وأمي السحابة وأخري إبن الشمس وأمي ( القمرا ..) .. وكبرت وكبر معي آخرون ..احبهم وأقربهم إلي قلبي طفل يطلقون عليه إسم (كافوله ) في نفس سني تقريباً ..وذات مساء لفته الظلمة وهوج الرياح هربنا من النُزل وذبنا في قاع المدينة .. كان (كافوله) يحرص علي قطعة من القماش توضع تحت ذقن الطفل وثلاث (بزازات ) وجدها المصلون داخل السلة التي كانت تحتويه ومعها رسالة من أم مجهولة توصيهم خيراً برضيعها .. وقد ملئت الزجاجات الثلاث بالحليب .. وقد روي أول من غادر المسجد بعد أداء صلاة الفجر أن اللبن كان دافئاً لدرجة أنهم تشككوا في منازل الجيران .. لذلك حرص علي قطعة القماش تلك ومن إسمها أخذ إسمه .. تصور شخصاً كل نسبه قطعة من القماش وثلاث زجاجات حليب .. وفي قاع المدينة تلقفتنا عصابة من الصبية يكبروننا سنآ فعلت بنا العجائب .. لقد إستغلونا بشكل بشع .. توزعونا مثل قطيع من النعاج ولم يراعوا فينا إلاً ولا ذمة .. ناس ما بتخاف من الله .. وأسرف شنكل في وصف مأساته داخل المجاري بالسوق .. ينام بين شذاذ الآفاق ويرتدي أسوأ الثياب .. ولو علم أن والدته ( جوليا ) تسهر الليالي بالسنين الطوال في ( نيويورك ) البعيدة بإنتظار عودتها للخرطوم لتبحث عنه من جديد وتأخذه إلي حضنها وتضمه إلي شقيقته ( لوسيانا ) المولودة لها من أب أمريكي .. لو علم كم تتعذب بعيداً عنه ربما التمس لها العذر ولكن .. ماذا قلت يا (شنكل) .. تأكلون بقايا الموائد بالمطابخ وتلحسون أوراق ( الباسطة ) المنسية في القمامه بعد أن تهشوا عنها النمل .. معقول الكلام ده يا شنكل ؟! ..(وحياة خوتك الما منها فايده ) ..
    لم أعد بقادر علي تتبع الحكاية فقد أحسست ثقلاً شديداً في أجفاني وأن رجليّ بالكاد تحملانني فطلبت من شنكل أن يكمل لي القصة في وقت آخر واستندت علي كتفه لأصل بصعوبة إلي باب منزلنا .

  12.  
  13. #7
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الخامسة
    نأيت بنفسي عن الوقوف كل صباح لتحية أميرة وهي تخطو نحو باص المدرسه .. ويبدو أنها انزعجت من تهربي منها لما يقارب الأسبوع فاقتحمت منزلنا قبيل الغروب وقد تعللت بأنها تود الإطمئنان علي شقيقتي (نسمه) فكانت المواجهة بيننا .. إغتنمت فرصة مغادرة شقيقتي (سلمي) لتعد لها كوباً من الليمون لأقول لها في إنكسار شديد مبروك الخطوبه ..(خطوبة منو ولمنو ؟ ..) وقد ردت عليّ بغلظة واضحة ..خطوبتك طبعاً .. ضحكت ضحكة هي مزيج من الضحك والرفض والبكاء .. ورانت لحظة صمت قاتله .. ثم .. هل تسمي الحاج رضوان سيد الدكان خطيباً ..الحاج ..؟!! ..نعم قابل أبي وخطبني عروسة له تؤنسه ما تبقي من عمره لأقضي أنا ما تبقي من عمري بلا أنيس .. وسكب في وجه أبي الوعود البراقة .. سأشتري لها منزلاً وأسجله بإسمها وأسجل لها الطاحونة والطابونة ..وطبعاً لم يصدق والدي النعمة التي هبطت عليه من السماء فوافق علي الفور وناداني ليبارك لي في حضوره الخطوبة ..إنتفض كمن لسعه ثعبان وانهال علي بعبارات الإطراء .. فقد الرجل وقاره وانكسر أمامي مثل غّر مراهق ..قلت لهما في حزم شديد لا يقبل التأويل .. أنا أريد أن أكمل تعليمي حتي الجامعة ولا أريد الزواج .. لملم الرجل بقية كرامته المجروحة إن كان لديه أصلآ كرامه وخرج .. أنا أحبك أنت يا حربي .. أحبك حباً ملك علي حواسي ولا بد أن تكون شيئآ ليقبلك والدي .. إلي متي ستكون صبي ميكانيكي ؟!.. إن حبنا يكبر يا حربي فلماذا لا تكبر معه .. وصرت أردد أنا ؟! .. فتقاطعني بمزيد من التحريض .. سافر ياخي إغترب أعمل حاجه وإلا سوف أهرب معك إلي آخر الدنيا فنتزوج بالقانون .. قالت هذا والإنفعال الشديد أفقدها أعصابها فبكت .. بكت بكاءاً مراً .. دنوت منها أخفف نهنهاتها .. وصرت أمد يدي نحو شعرها متردداً خائفاً ولست واثقاً إن كنت في عالم الحقيقة أم في عالم الأحلام .. وتشجعت فوضعت يدي في كتفها وأنا أردد عبارات لا أفهمها فانفلتت نحو باب الغرفة لتصطدم بسلمي المتعجلة كعادتها .. فتطايرت الأواني يمنة ويسرة وهي تردد أنا آسفه يا جماعه أنا آسفه يا جماعه .

    زارني شنكل بالورشه ولم يكن بيدي شيء يذكر ..مجرد (بوليتين ) إنتهيت من إستبداله واستأذنت من المعلم (سلمان الفاضي) ومن ثمّ توجهنا نحو (نانا الحبشيه ) .. ولدي جلوسنا همس شنكل في أذني ( ديشك يا حربي ..دي ما منقة كسلآ عديل .. إسمها نانا وهي صاحبتنا .. أها تشرب شنو ؟ قول لي تاكل شنو ؟ أخوك ما أكل من أمبارح .. طيب نمشي المطبخ .. ومالك مدبرس كده ؟ .. والله يا حربي ما قادر أشتغل .. الطبليه ما جايبه حاجه بعد ما إكتشفت الشرطه إني ببيع البنقو .. تبيع البنقو يا شنكل ؟ .. حرام عليك ياخي ما لقيت حاجه تاكل منها عيش غير البنقو ؟ .. صدق أنا تاني يوم لسجارات المقابر ما جيت الشغل .. وفضلت كذا يوم ما قادر أفك أو أربط حاجه .. لا لا مش بنقو بنقو .. وزنات خفيفه يعني تمشي الحال .. بالمناسبه عندي صاحب عزيز عليّ نفسو يتعرف عليك .. يظهر أن ليلة القدر نزلت عليك ..حأسيبك أعمل كذا مشوار وأمر عليك بعد الشغل .. لم أكن مرتاحآ لهذه الدعوة وقد صدق حدسي .. فقد أخذني شنكل إلي الطرف الغربي من المدينه وقد وصلناه بعد حلول الظلام .. طرق الباب طرقاً خفيفاً وتبادل مع شخص بالداخل عبارات مثل (المنفله في العربيه ) .. وعبارات أخري لم أستوعبها .. فتحت لنا الباب صبية مليحة قدمها لي علي أنها بطه .. وفي غرفة معزولة بالمنزل دخلنا لنجد رجلاً في الخمسينيات من العمر .. المعلم الكيك .. الأوسطي حربي .. نهض الرجل في تثاقل واضح ويبدو أنه واقع تحت تأثير ما .. وسلم علينا بحرارة ..عادت بطه بزجاجة من الخمر وثلاثة أكواب وصبت منها لثلاثتنا وهمست في وجهي .. شرفتنا .. شرف الله قدرك .. جاوبتها هامساً وأنا لست متأكداً تماماً بأنها فهمت ما أعني .. تجرعت الكأس الأولي لأجد شيئاً مر المذاق سري كالنار في حلقي .. ( عرقي بلح أصلي ) .. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أتذوق فيها الخمر .. هذا إذا كانت ( المريسة ) تقارن بهذه (الصودا الكاويه ) .. ودخل الرجل في الموضوع مباشرة .. بصراحه يا حربي .. هنالك إخوة لنا يحضرون لنا العربات المسروقة ونقوم بتفكيكها إلي إسبيرات وبيعها ولدينا ثلاثة شبان يعملون معنا ونحتاج إلي رابع .. وقد حدثني (شنكل) عنك حديثاً طيباً .. فكر في الموضوع جيداً فإما أن تقبل وإما أن تحفظ أسرارنا .. لأن الخيانة في مثل هذه المواضيع جزاؤها الذبح .. قال ذلك وقام بتمثيل الذبح وفمه يصدر صوتاً كصوت السكين .. ولا أطيل عليك ..ثم .. (بطه ..بت يا بطه .. خدي الأستاذ وكملوا سهرتكم براكم ..) .
    قادتني(بطه) إلي غرفة مجاوره وصبت لي المزيد من الخمر .. سألتها في سفور واضح .. لماذا أنت هنا ولديك كل هذا القدر من الجمال .. ترددت في الإجابة علي سؤالي ولكنها عادت لتقول لي .. أنا هنا غريبة الأهل واللسان .. كنا نعيش في أطراف الجنوب أنا ووالدي ووالدتي وثلاثة إخوه لم يتجاوز أكبرهم السادسة من العمر .. وفي ذلك الصباح المشئوم ذهبت إلي الحقل لإحضار بعض الحطب بصحبة والدتي وعندما عدت وجدت المتمردين قد ذبحو أهلي .. ذبحوهم كلهم .. أوثقوهم بالحبال وذبحوهم .. سالت الدموع من عينيها الواسعتين وهي تواصل قصتها .. علمت منها ان أنهم لم يتركوا لها شيئاً .. نهبوا الأبقار وحتي العنزات الصغيرات .. وجوالات الذره التي حصدوها حديثاً وقامت بدفن أهلها دون مساعدة من أحد .. دفنتهم في (المطمورة) التي حفرها والدها بيديه ليحفظ فيها مئونة العام .. طيبت خاطرها ونقدتها بعض المال ووعدتها بأن ألتمس لها مهنة تحافظ بها علي شرفها.. وتعول بها نفسها .

  14.  
  15. #8
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة السادسة
    أشتاق بطة ..أشتاق ضحكتها ..أشتاق لثغتها.. براءتها.. عنفوانها وصباها .. شنكل قال لي ساخراً .. هل تحب عاهره ؟ ..لا ليست عاهرة وإنما ضحيه يا شنكل .. ضحية المجاعة والسياسة والحروب .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لكانت (بطه) الآن عائدة من ( طق ) الهشاب وهي تهش أمامها أغنامها عزيزة مكرمة بين أهل القبيلة .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لما كان هنالك تصحر ونهب مسلح وترد في الخدمات .. وهل تتزوجها ما دمت تحبها لهذه الدرجة ؟ .. نعم سأفعل وسأنفض عن كاهلها كل صنوف المهانة والمذلة والإستغلال من قبل صاحبكم ( الكيك ) وغيره ..ستعود نقية صافية وبريئة قبل أن تأتي إلي هنا .. كلامك هذا يا حربي يذكرني صديقي ( كافوله) ..هو أيضآ إلتقي صبية تعمل كبائعة متجولة .. ضمها إليه وتزوجها ..وعندما طلبت منه أن تساعده في المعيشة بأن تبيع الشاي صرخ في وجها .. شاي لا .. !!هنا تذكر أن شقيقة حربي هي أيضاً تبيع الشاي فأردف قائلاً كانت تريد أن تبيع الشاي في موقف (اللواري) .. لو كان أمام بقاله كما هو الحال بالنسبة لسلمي أختك لكان ذلك مقبولاً.. أنت تعلم أكثر مني مستوي الفوضي هناك .. وقد زرتهم أكثر من مرة ولاحظت التغير الرهيب الذي أحدثه الزواج في سلوكها بيد أنها ما لبثت أن ملّت العزلة داخل المنزل وهي التي تعودت علي الضحك و( طق الحنك ) مع كل من هب ودب .. فدبت بينهما الخلافات وانتهي الأمر بالطلاق .. أما أنا فلن أدع أي إمرأة تدخل رأسي أبداً حتي ولو كانت( برجيت باردون) .. إذا كانت أمي قد خانتني فماذا أتوقع من الأخريات ..؟! ودي قابلتها وين يا شنكل ؟ ..قابلتها ؟ ..أنا أقابل ( برجيت باردون ؟ ) .. دي ممثله في (سنما جنوب .) يا وهم .
    إستيقظ ..سكان الحي علي جلبة وضوضاء وقال احدهم أن الشرطة تحاصر المنطقة من كل ناحية وتمنع المغادرة والخروج لأي كائن من كان ومهما كانت المسوغات للدخول أو المغادره .. هرع الزعيم حربي ( وهذا هو إسمه الجديد طبعاً ) .. ومعه الحاج رضوان وعبدو الفولاني وعدد آخر من السكان إلي حيث يقف الضابط المسئول عن التفتيش عند المدخل الغربي للحي قريباً من دكان جباره الغسال وورشة الأوسطي صابرالنجار .. وكانوا بصدد التعرف علي أسباب هذا الإجراء الذي لم يعهدوه من قبل .. وقد يكون معظم إهالي الحي لم يسمعوا أصلآ بكلمة ( كردون ) هذه التي تناقلتها الأفواه ذاك الصباح ومعناها التطويق التام للمنطقه .. إنعقدت ألسن القوم دهشة وكذلك طوابير طويلة من الصبايا والصبيان الذين حالت الشرطة دون توجههم للمدارس وكذلك عدد من العاملين بالمستشفيات بأرديتهم البيضاء وبعض الجنود .. إنعقدت ألسنتهم دهشة عندما شاهدوا بأم أعينهم حربي وهو يأخذ الضابط بالأحضان وصدي ضحكاتهما يغمر المكان .. وسرت عدوي الضحك للجميع .. فضحك التلاميذ والتلميذات والجنود والموظفون الممنوعون من المغادرة وكذلك النساء المسنات والفتيات والأطفال ..(شقه غريبه يا جنابو ..) .. هو إنت ساكن في العشوائي يا معلم ..؟ خير إن شاء الله .. ومن ثم إنتحي به جانباً وقد إشرأبت الأعناق وران صمت رهيب بإنتظار ما يسفر عنه تحادث الضابط وحربي..أخبره بأن أحد المواطنين يرقد الآن بالمستشفي بين الحياة والموت ..لأن أحد سكان الحي إعترض سبيله ليلاً بينما كان يمر بالطريق الموازي للحي ونهب منه دراجته وبعضاً من المال بعد أن دارت معركة رهيبة بين الإثنين وقد جرح كلاهما أثناء العراك .. بيد ان الجاني أخذ الدراجة والمال وذاب بين تضاريس الحي .. أبدي حربي تفهماً لخطورة الحدث ووعد صديقه أو بالأحري زبونه بالورشة .. ببذل أقصي جهد للقبض علي المتهم .. وقد رجاه حربي أن يسمح للتلاميذ والعمال بمغادرة الحي بمعرفته وضمانته الشخصية فوافق علي الفور .. فكان الناس يمرون فرادي وجماعات والزعيم حربي يبادلهم النكات والتعليقات ..واستمرت عملية التفتيش زهاء الساعة تقريباً .. وفجأة حضر ثلاثة جنود من الشرطة وهم يقتادون (شنكل) وقد بدت عليه آثار الإعياء والتعب ولاحت في وجهه كدمات وجروح صغيره لا تخطئها العين .. (لقيناه جنب المقابر وهويمثل دور المخمور) .. فتشوا منزله وخذوه للقسم .. ولم يكلف (شنكل) نفسه عناء توضيح موقفه إذ إعترف أمام الضابط وحربي وسكان الحي بجريمته وأرشد الشرطة علي مكان المسروقات مخبأة حيث يقيم في غرفة عند مدخل المقابر تحفظ بداخلها معدات الحفر.. وكان حربي قد نهاه عن الإقامة بها دون جدوي ..أشعر بالأمان هنا أكثر من المجاري .. قال له ذات مره .. ولا أخاف الأموات بقدر ما أخاف من الأحياء .. وهكذا رفعت الشرطة ( الكردون ) وانصرف الناس إلي أعمالهم وهم يتأسفون علي الحالة التي وصل إليها (شنكل) القادم الجديد للحي وصديق الزعيم حربي الذي كان أكثرهم حزناً علي مصيره لا سيما إذا ما ماتت الضحية لا قدر الله .. بيد أن هذه الحادثة رسخت في أذهان الناس المكانة الكبيرة التي يتمتع بها حربي أصلاً بالحي العشوائي .

  16.  
  17. #9
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة السابعة
    كانت( جوليا ) تعد الساعات والأيام والشهور بإنتظار لحظة عودتها للسودان لأكثر من سبب بعد غياب إمتد لأكثر من عشرة أعوام قضتها بمدينة نيويورك بأمريكا .. ولم تكن هجرتها إلي ذلك البلد عن رغبة حقيقية في الهجرة بعد الأحداث العاصفة التي زلزلت كيانها وقلبت أوضاعها رأساً علي عقب .. كانت تعيش كغيرها من الفتيات أحلام الدخول للجامعة والحصول علي وظيفة محترمة ومن ثمّ الزواج وتكوين أسرة تلفها السعادة والهناء .. ولكن أحلامها ذهبت أدراج الرياح .. فإن كان بالنسبة للجامعة فقد حققت هدفها وأكملت دراستها بنجاح .. وإن كان علي صعيد الوظيفة فقد إلتحقت بوظيفة محترمة بإحدي المنظمات الإغاثية .. وقد كان معها بالمنظمة ( وجدي ) إبن الجيران وفارس أحلامها منذ أن كانت صبية صغيرة بالمرحلة الثانوية .. بادلته حباً بحب وكانت تكثر من زيارة شقيقته (ماريا) بسبب أو بدون سبب لتكون قريبة منه .. وقد إستغل وجدي هذا الضعف الأنثوي الكامن في أعماقها أبشع إستغلال .. فكان يختلي بها بمكتبه بالإدارة (اللوجستية) ويمتهن جسدها دون شفقة ولا وازع من خلق أو ضمير ويحقق عبرها نزواته الفجة والآثمة وهي بالكاد تقاوم عربدته إلا عندما تشعر أن الأمور تسير بإتجاه يتناقض وطبيعتها وتربيتها فتوقفه عند حده . . كانت تعزي نفسها عقب كل محاولة بأن وجدي سيتزوجها دون أدني شك وقد أعلن ذلك صراحة لأسرتها وأسرته وصار يأخذها في مشاويرطويلة بإعتبارها خطيبته وزوجة المستقبل .. ولكن تلك الشخصية المعقدة كانت تخفي تحت إهابها ذئباً بشرياً لا يرحم .. ومن ثمّ كان ما كان ووقعت الكارثة الكبري .. وعندما تبينت جوليا أن وجدي قد غدر بها وأنه يتهرب من لقائها أخبرت بذلك زميلتها ورفيقة صباها (هند) وساءت الأوضاع بشدة عندما اكتشفت أنها حامل بعيد سفره إلي روما منقولاً لفرع المنظمة هناك .. رجته أن لا يسافر وأن يكمل مراسم العرس حتي لا يعرضها وأسرتها للفضيحة وبكت أمامه بدموع كالمطر .. وبدا لبعض الوقت وكأنه يقوم بالتجهيز للزفاف فاطمأن قلبها بعض الشيء إلي أن فوجئت ذات صباح بأنه قد سافر بالفعل .. ركضت نحو منزلهم لتقرأ في عينيّ شقيقته مظاهر الرثاء والسخرية بل والتشفّي .. لماذا هذه المعاملة اللاإنسانية يا هذه ؟ أين حق الجيرة والزمالة بكل مراحل الدراسة منذ الإبتدائي ..؟ تستاهل جوليا كل ما جري لها .. هذه المتغطرسة المغروره .. لماذا هي دائماً ومنذ أن كنا مجرد تلميذات الأوفر حظآ في كل شيء .. إجتذبت إهتمام شباب الحي وترتدي أحدث الثياب والمصاغ الذهبية وهي الأكثر تألقاً وظهوراً في جميع المناسبات .. تركب عربة جديده تحمل شعار منظمة الأمم المتحده وعندما ندعوها لتناول كوب من الشاي تتعلل بالمشغولية (عندي ترجمه .. عندي مؤتمر هام .. إعداد الميزانية يأخذ كل وقتي) .. لا تبحث عن الحجج والذرائع لتفادينا .. هكذا إذن .. أنت تغارين منها ولا ريب .. أغار من محبطه إسمها جوليا ..لا يا سيدي .. أنت لا تعرفني دون شك ..وعادت جوليا أدراجها تجرجر أذيال الخيبة والندم ولم تتمالك أعصابها المرهقة المفاجأة فدخلت في حالة من الهستريا أقرب للجنون .. بذلت جوليا جهودآ مضنية حتي لا تظهر عليها آثار الحمل وقد عزت أعراضه للملاريا .. كان المستر رتشارد المدير الأقليمي للمنظمة يراقب جوليا عن كثب ويتابع تلك الخطوات العنكبوتية التي يقوم بها وجدي ودوافعه الدنيئة فعمل علي نقله إلي روما دون أن يشعره بذلك .. مرت الشهور سراعآ وساعة الصفر تقترب يومآ بعد يوم .. حثتها نفسها أكثر من مرة بالإنتحار ولكنها كانت تصرف تلك الرغبة عنها من أجل طفلها القادم .. وعندما شعر المستر رتشارد بأن موقفها قد بدأ يزداد سوءآ أرسلها في مامورية بإحدي الدول المجاورة حتي يتسني لها ترتيب أوضاعها ومن ثم مداراة الفضيحة التي توشك أن تحل بها .. وفعلآ سافرت إلي هناك ووضعت طفلها وتركته بإحدي دور الحضانة وعادت للخرطوم .. وكان ما كان من أمر تخلصها منه بتلك القسوة التي لم تتعود عليها .. بيد أن هذا الأمر عاد عليها فيما بعد بإحاسيس ثقيلة جثمت فوق صدرها ليل نهار إلي أن أقدم المستر ريتشارد في لحظة صفاء نادرة جمعته بها في حفل عشاء بمناسبة رأس السنة علي الإفصاح عمّا يعتمل في جوانحه ..وكيف أنه معجب بها منذ أول يوم إلتحقت فيه بالمنظمة وكيف أنه كان يراقب ما يحدث بينهما بحياد وإخلاص شديدين دون أن يعطي لنفسه الحق في التدخل بشئونها الخاصه .. you don’t know what you have done to me.. قال لها بالإنجليزية بعد أن عجز في الإفصاح عن مشاعره بالعربية المكسرة وزاد علي ذلك بأن إقترح عليها نقلها لرئاسة المنظمة بنيويورك ليلحق بها ويتزوجها مسدلآ بذلك الستار علي أقسي فترات عمرها .. ولكن صورة طفلها لم تبارح خيالها في يوم من الأيام بالرغم من وجود ( لوسيانا ) طفلتها الوحيدة في حياتها .. كان يضغط عليها بإطلالته الملائكية وضحكته الآسرة ووجهه الصبوح .. لذلك عمدت إلي أخذ مئات الصور الفوتغرافية له قبل التخلي عنه وعاينت جسده الصغيرالأنيق شبراً شبراً لتتأكد من أية علامة تقودها إليه فيما بعد ووجدت ضالتها في ذلك الوشم العريض أسفل كتفه الأيمن .. ثم بادرت بشق تلك القطعة المعدنية من فئة المائة جنيه إلي نصفين ودست نصفاً بين ثنايا قميصه واحتفظت بالآخر داخل خزانة ملابسها ..

  18.  
  19. #10
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثامنة
    عدت من الورشة وأنا بمعنويات عالية وكأنني امتلكت الدنيا بما فيها ومن فيها فقد زارتنا بالورشة المضيفة سحر لإجراء بعض الصيانة بعربتها .. كنت وقتها مستلقياً تحت عربة حكومية أراجع بعض النتوءات التي حدثت هنا وهناك بعد تعرضها لحادث مروري في طريقها من وادمدني للخرطوم .. عندما غمرني صوت هامس .. أوسطي حربي ..أوسطي حربي .. لم أتبين صوتها للوهلة الأولي ولكن قدماها وحذاؤها اللامع ذكراني من تكون .. سحبت نفسي من تحت العربة بعد أن اصطدمت بألف شيء قبل أن أقف علي رجليّ .. أستاذه سحر ؟! .. مش معقول ؟! ..( شنو المش معقول يا غبي .. لعلك توهمت أنها بنت الجيران أو واحدة من الأهل ..) هكذا قال لي ضميري موبخآ .. تغيرت لهجتي وصورة الفرح الذي احتواني إلي لهجة هادئة .. مرحب يا أستاذه .. أيّ خدمه ..؟ .. يعني ما نسيت إسمي ؟ ..همست في وجهي وابتسامة ملائكية تتوزع علي شفتيها وعينيها وتضاريس قدّها الصبي ..لا ما نسيت معقول أنسي يا أستاذه سحر ( هو شنو الما معقول ومعقول دي يا شاب ؟! أظنك قايلها دفعتك في الجامعه ) .. هكذا عقب ضميري .. ولا أدري لماذا يضيق عليّ وهو جزء مني .. أليس بوسعنا أن نتآخي مع هولاء الناس الرايقين النظيفين ولو للحظات ؟ .. وهنا تذكرت طبقة التراب الكثيفة التي تربعت فوق ( الأبرول) وفي مؤخرة رأسي .. وعندما فتحت باب العربة لتريني الإشارة الضوئية بال( طبلون ) والتي تشير بوضوح إلي أن ( الماقنيتا ) لا تعمل .. ترددت برهة في الجلوس خلف المقود وبدأت في نفض التراب عن ظهري فإذا بها تساعدني في ذلك .. لامستني أصابعها الرقيقة التي طرقت ظهري وقلبي طرقات رقيقة وكادت أن ترسلني إلي غرفة الإنعاش .. شجعتني علي الدخول وهي تقول لي لا تهتم .. غدا موعد صيانتها الأسبوعية .. (علي فكرة )لماذا لا تحضر لنا بالبيت غدآ وهو يوم جمعه ولا أظن الورشة تعمل يوم الجمعة لمراجعة الماكينة وتبديل الزيت والغسيل هذا طبعاً إذا لم يكن لديك مانع .. أعرف إنك أوسطي كبير والغسيل لا يليق بك ولكنني سأدفع ( للعفريتة ) في كل الأحوال فلماذا لا تستفيد أنت من المبلغ .. ها قلت شنو ..؟ أقول شنو يا .. يا أستاذه سحر .. (بلاش) من الألقاب يا حربي ..أنا مضيفه ولست معلمه .. ناديني باسمي فقط .. وهكذا صنت لها العطل وأخذت منها عنوانها وأخذت هي روحي وضميري ومصيري .. لقد أخذت كل شيء .. كل شيء وغادرت والفرح الطفولي الغامر يلون كل إيماءة .. كل حركة من حركاتها ..انطلقت بالعربة تاركة لنا الغبار والدهشة والأشواق .. نعم عدت وأنا أترنح كالسكاري من فرط سعادتي .. توجهت مباشرة نحو أمي أسألها .. من أنا ومن أكون وكيف كبرت وترعرعت ولماذا لم نكن هنالك بذلك الحي الراقي قرب سحر وأسرتها .. اسندت كتفي علي صدرها وبدأت أنشج بالبكاء كطفل صغير .. كنت متعبآ وحائرآ وقلقآ وخائفآ من الغد ومن سحر .. من روعتها ونعومتها وهيبتها .. فهل يجوز لي مجرد التفكير بها علاوة علي حبها وعشقها .. أرسلت تنهيدة عميقة خرجت من بين حنايا صدرها .. آه يا ولدي لو تعلم ما قاسيناه وكابدناه من أوجاع .. كنت أعمل في الوادي حين ولدتك .. أجلستك فوق الأعشاب وكأنني دجاجة تفقس بيضها في الهواء الطلق .. لملمت بقاياك وصراخك يزلزل كياني وكأنني سأفقدك في منعطفات تلك البرية .. صرخت باعلي صوتي علّ أحدآ يسمع ندائي فيحملنا إلي بيتنا أعلي السفح ولكن لا أحد .. جاوب الصدي صراخي وهتافي ولكن لا أحد .. حملتك وأنا أستحم بالدم والألم أسقط ثم أنهض .. اسقط ثم أنهض .. حتي وصلت مشارف القرية حيث تلقفني خالك وصرخ باعلي صوته ( عووك ..هوي يا ناس ..حوه إخيتي ولدت ليها ولد ) ..وعاشت القرية أياما وليالي ترقص تحت ضوء القمر وعلي ضوء ( الرتاين ) فرحآ بمقدمك .. فقد ولدتك بعد أن مضي علي زواجي من أبيك سبع سنين بالتمام والكمال .. وعندما سمع بالخبر وكان وقتها في الجنوب يعمل في الجيش ..أخذ إذنآ وعاد للبلد وبالرغم من معارضة أهلي أصرّ أبوك علي أن نذهب معه حيث يعمل .. ومن ثمّ بدأت رحلتنا الغريبة والفريدة مع التجوال والحركة المستمرة من بلد إلي بلد ومن نقطة إلي نقطه .. وكنت عندما يشتد أوار القتال بين المتمردين وجيش الحكومة أحملك علي عجل وآخذك للمسجد ..وأغطيك بآيات الله أدعوه .. وأدعو الرسول ومن بعدهم أولياء الله الصالحين أقول ( يا الله تحفظ لي وليدي صالح .. يا الله إن أنا مت وليدي يعيش ويكبر ويبقالي ظابط متل الظباط رفقا أبوه ..) .. وظللنا علي هذا المنوال ..هي تحكي الحكايات المشوقة عن أناس وأماكن وحروب وقتلي .. وكانت تقلد صوت الأسلحة وكأنها خبير في المتفجرات ( الإنرجيا تعوي متل الجراو .. والمورتر يسوي يييي دو .. والبرين تتاتت تتا تت ..) ..حدثتني عن ظروف مرت بهم ومصاعب لا تخطر علي بال ..واختتمت مرافعتها بقولها ( الحرب كعبه يا وليدي ..الله لا يضوقك ليها ) .

  20.  
  21. #11
    رحمة الله عليه Array الصورة الرمزية mahagoub
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    11,330

    منتظــــــــــــــــــرين

  22.  
  23. #12
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزي محجوب ..مساءات الروعة والجمال وكانت فرحتي كبيرة عندما لمحت وسام التميز الثقافي في خانتي ..يا اللللله ..كم أنا سعيد ..اشكركم من كل قلبي ومعكم تحلو المشاوير الإبداعية ..شكراً مرة أخري .

  24.  
  25. #13
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة التاسعة
    أتاني صوت من اللاشيء يقول ( منو الفي الباب ؟ ) .. تلفت يمنة ويسرة لأعرف مصدر الصوت ولم أجده .. نظرت إلي أعلي السور وبين ثنايا البوابة الفخمة فلم أر شيئاً .. ومرة أخري قرعت جرس الباب ليأتيني نفس الصوت وهذه المرة بشيء من الغلظه ( منو.. منو الفي الباب ؟!!) فأدركت أن الصوت لا بد أن يكون قد خرج من ثقب في السور أشبه ب(مايكرفون ) ..قلت في تردد (أنا .. أنا حربي الميكانيكي ) .. ولكن صوتي ذهب أدراج الرياح .. إنتظرت خمسة دقائق أخري وقرعت الجرس مرة أخري لتفتح الباب خادمة صغيره ..( عاوز شنو ؟ .. من فضلك قولي للأستاذه سحر .. الميكانيكي وصل .. سحر نايمه .. تعال بعد ساعه ) .. كان استهلالاً سيئآ بعكس ما توقعت .. هذا لأنك لم تحسن التوقيت .. اليوم جمعه وهؤلاء الساده يروحون في نوم عميق حتي وقت متأخر من نهار اليوم .. ولكن الحياة تبدأ مبكرآ عندنا في الحي .. هذا عندكم في الحي العشوائي .. لأنكم إستيقظتم في هذه الحياة بعد فوات الأوان بعكس الناس هنا .. والعمل ؟ ..العمل أن تتسكع في دروب هذا الحي الراقي حتي تستيقظ سحر .. إتفضل .. قالت لي بأريحية مدهشه .. ( الخدامه قالت إنك جيت بدري .. أنا آسفه شالتني نومه ..إ تفضل أدخل .. ) .. ومنذ الخطوة الأولي شعرت بأنني ألج قصرآ من صنع الأساطير وليس منزلاً .. هذا المرمر والسيراميك الذي يغطي كل شيء .. أم الحديقة الغناء بأزهارها الملونة أم الفيلا الفخمة بطوابقها الأربعة ؟ .. وغير بعيد جثمت عربة سحر .. إستأذنتني لتغيّر ملابسها فقد هبطت بملابس النوم وآثار النعاس بادية عليها .. لم تكن منزعجة أو سعيدة بوجودي وقد إرتسمت علي وجهها هالة من الجمال المطمئن دون سفور .. جمال يريح النفس والخاطر ويبعث علي الحيوية والتجدد .. لم أضيع وقتآ فأمامي مهمة عسيرة .. غيرت ملابسي التي حضرت بها وارتديت (الأبرول ) وبسم الله إبتدينا .. أخذت مني الصيانة وغيار الزيت والتشحيم سحابة ذلك اليوم بعيد المغرب .. وكانت سحر تطوف وتطوّف بي في دنيا غريبة من الروعة والإمتاع .. تناولني الطعام وأقداح الشاي وتتجاذب معي أطراف الحديث .. ماذا كنت تقول لها وماذا كانت تقول يا حربي ..حدثتها عن ناس البيت ووالدي الجاويش عويضه الذي أستشهد في ( واسكيج ) وقد أسبغت عليه صفة البطولة والإقدام وحدثتها عن سلمي شقيقتي والمستقبل الذي ينتظرها في عالم الغناء وكيف أنها غنت في حفل نجاح بنت الجيران وكانت ولا البلابل .. وهنا قالت لي الخميس الجاي عرس (سلافة) إبنة خالي ليت سلمي تغني لنا في ذلك اليوم وطبعاً وافقت وقلت لها ( وكمان مجانآ عشان خاطر الأستاذه سحر .. تاني الأستاذه يا حربي ما قلنا بلاش ألقاب .. عشانك يا .. يا سحر .. أيوه كدا كويس .. قلت ليها كل الكلام ده وزياده وهي قالت ليك شنو ؟ .. هو أنا عارف كانت تبتسم ومرات تضحك .. المهم مضت الصيانة بسلام وعندما فرغت منها كنت قد تعرفت علي جميع أفراد العائلة .. والدها ووالدتها وشقيقها عصام ..وطبعآ الخادمة التي قامت بخدمتي .. سلمتها المفاتيح وأنا أقول لها ( غايتو مش علي الغرض ) .. بيد أن الجميع قد شهدوا بأن عربة سحر لم تلق صيانة كهذه منذ اقتنائها لها .. كانت بكامل أناقتها وهي تتهيأ للخروج في مشوار مسائي .. أصّرت علي توصيلي حتي منزلنا وحين ولجت الحي العشوائي بأزقته المتعرجة لوت أعناق ساكنيه رجالآ ونساءآ .. شيبآ وشبابآ وأطفالآ .. حتي شجيرات (النيم) المتباعدة تمايلت طربآ لمقدمها .. وانتظرت لتسلم علي سلمي وأمي وهي داخل عربتها وكأنها حورية صغيرة خرجت لتوها من أعماق البحر .

  26.  
  27. #14
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة العاشرة
    ولج إلي الورشة شاب تبدو عليه سيماء الحيرة والتردد .. فهو يقدم رجلآ ويؤخر أخري ولم يلبث حتي غادر الورشة ثم عاد أدراجه ..(الجني المتل ضيف العشا المتحرن ده عاوز شنو؟ ) المعلم( سلمان الفاضي) وقد نفد صبره .. توجهت نحوه وسألته في هدوء وترحاب .. نعم .. أي خدمه ؟ ..أريد التحدث إلي الأوسطي حربي .. أهلآ وسهلآ ..أنا حربي ..تفضل ..أريدك علي إنفراد ..إستأذنت من المعلم وأخذته إلي حيث( نانا الحبشيه) .. طلبت له قدحآ من الشاي وشجعته علي الكلام .. إسمي ( كافوله ) .. صديق ( شنكل ) .. أعرف .. هل تعرفني يا أوسطي حربي .. نعم أعرفك فقد حكي لي عنك ( شنكل ) أكثر من مره .. طبعاً أنت تعلم أن .. وحكي لي كيف أنه زار شنكل في الحراسة وعلمت منه أنهم نقلوه إلي سجن ( دبك ) رهن التحري وأن الرجل المصاب تجاوز مرحلة الخطورة .. ومن ثمّ عرج علي أوضاعه الخاصة وكيف أن المصلحة التي كان يعمل بها قد فصلته من العمل بعد أن خفضت العمالة وسدت في وجهه جميع الأبواب التي طرقها .. وقد نصحه ( شنكل ) بمقابلة المعلم
    ( الكيك) .. وحكي كيف سارت الأمور بعد لقائه إذ عهد إليه بـ(طبلية شنكل) وطلب منه بيع البنقو المعّد في لفافات صغيرة ضمن الحلوي وبقية الأشياء .. وأهم من ذلك أنه قابل ( بطه ) وأنها رجته بأن يقابلني وينقل لي رغبتها الشديدة في لقائي .. طلبت منه أن يمر عليّ بعد ساعات العمل ومن ثمّ انطلقنا إلي هناك .. وفي الطريق إكتشفت أنه إنسان طيب وودود .. حكي لي كيف أنه لا يزال يمضي الأعياد بمركز اللقطاء رغم كل هذه السنين التي أعقبت هروبه منه .. لم ينقطع ولا مرة واحدة عن تمضية العيدين بين الأطفال الجدد وأسرة المركز .. إنه بيتي الذي آواني ورباني .. إلي أن أقنعني شنكل بفكرة الهرب وليته لم يفعل .. إذ انتقلنا إلي عالم الضياع والجوع والمهانة .. لقد كبرنا يا أوسطي حربي ولكن بعد أن ماتت في دواخلنا كل معاني النخوة والرجولة والشهامة .. لقد ذبحوا كرامتنا وسخرونا لنزواتهم ورغباتهم الشريرة .. علمونا النشل والسرقة والإحتيال .. وكنا ضحاياهم وغيرنا كانوا ضحايانا دون أن نعلم .. لقد كنا صغاراً ولم يقل لنا أحد أن هذا حرام وذاك حلال .. فاختلطت الأشياء في عقولنا الصغيرة .. والآن ؟ ! .. لقد كبرت ووعيت وفهمت معني الحياة .. وتنوي أن تأكل وتشرب من المخدرات يا ( كافوله ) ؟ وهل البنقو حرام ؟ .. طبعآ .. بالبنقو ستخرب أسر وستقود الأولاد للجنون والإدمان يا ( كافوله) .. لا تفعل ذلك أرجوك .. وكيف سأعيش ؟.. لا يا صديقي .. بل ستعمل معي في الورشه والرزق علي الله .. تساعدني في مناولة المفاتيح وتراقبني وأنا أعمل وسوف تتعلم بسرعه .. صدقني ستتعلم بسرعه .. وهكذا أقنعته بالعمل معي وكنا وقتها قد وصلنا بيت المعلم ( الكيك ) أو بالأحري وكره السري لتجهيز البنقو وبيع قطع غيار السيارات المسروقة ..
    لم يكن المعلم بالداخل فتلقفتني بطة لدي الباب وأخذتني إلي غرفتها وهنالك بكت بكاءاً شديداً وهي توشوشني بكلمات العتاب والأشواق .. أنت لم تفهمني يا حربي ولم تدرك عمق مشاعري نحوك .. إنني أبكي ليل نهار منذ أن غادرتنا ولو كنت أعلم مكانك لما تأخرت في الخروج لأبحث عنك يا حبيبي .. كيف جاز لك إعطائي الأمل ومصادرته مني .. شهر كامل ولا تحدثك نفسك بزيارتي أو حتي التفكير بي ؟ .. قلت لها هذا ليس صحيح يا (بطه) .. أنت دائمآ في بالي وأنا أفكر بك طول الوقت لدرجة أفقدتني التركيز في عملي .. هل ترين هذا الجرح في يدي ؟ .. إنه بسببك .. لأنني كنت أقوم بصيانة ماكينة (حافله) كبيره وأنا أفكر بك فسقطت علي يدي ..( كدي وريني ..كُر عليّ يا حربي ..إن شاء الله أموت ولا يطعنك حتي دبوس ) ومن ثمّ أخذت يدي وقبلت الجرح وهي تبكي وتهمهم بكلام غير مفهوم وانتابها ما يشبه الحمي وسرت في جسدها البض القشعريرة .. وتركتها تبكي وتبكي حتي نال منها التعب .. ورويدآ رويدآ سكنت روحها وعاد إليها مرحها .. وغادرتها بعد أن قطعت أمامها أصدق الوعود بالزواج وبالمقابل وعدتني بأنها لن تخونني حتي لو بذلوا كل كنوز الدنيا رخيصة تحت قدميها .. أما (كافولة ) فقد قرر الإنتظار ريثما يعود المعلم (الكيك) .. ليعيد إليه مبلغاً من المال كان قد أعطاه إياه كمقدم أتعاب علي أن يأتيني بالورشة غداً .. وعدت إلي المنزل في ساعة متأخرة من الليل وأنا مثقل بالشجن والعشق والأشواق .. بيد أنني كنت سعيداً .. ياه كم كنت سعيدآ وقد اكتشفت كم تحبني بطه ..

  28.  
  29. #15
    اللجنة الاستشارية
    Array
    تاريخ التسجيل
    Aug 2006
    الدولة
    ودمدني / بانت
    المشاركات
    1,705

    يا للروعة ..

    إنها حقيقة رواية لها كل أبعاد وفنيات الرواية .. إنها بحق تحمل التشويق عنواناً والواقع رسالة .. إنها إبداع لرجل أتوقع أنه بقامة روائيين كبار ولم يفصح لنا عن ذلك وإنما دخلنا لنحمله وقصته بشوق من يشتاق لإبن يحمله في حناياه ويبتعد عنه قسراً ويبكي فراقه ..
    نتابع حتى النهاية بإذن الله

  30.  
  31. #16
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    صباحات الروعة والإشراق ..يا عصام وأنت ترافقنا في هذه الرحلة بقاع المدينة ..لن يكون المشوار سهلاً لكنك وبحرفك الموسوم بالرقة والجمال ستتحمل كل مفاجآتها الحلوة والمره ..تحياتي لك ولمن حولك .

  32.  
  33. #17
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الحادية عشرة
    انفلت صوت من ( المايكرفون ) داخل الطائرة معلناً الوصول إلي مشارف الخرطوم طالباً من الركاب الامتناع عن التدخين وربط الأحزمة .. ولكن (جوليا ) شردت بنظراتها تقرأ البيوت والأشجار من ذلك العلو الشاهق تحاول فك طلاسم معالمها المتغيرة بعد كل هذه السنين .. نبهتها المضيفة لربط حزامها وحزام ابنتها ففعلت وهي لا تحول نظراتها عبر النافذة نحو الخرطوم الرائعة .. نحو ثري الوطن الجميل .. إييه .. لكمّ انتظرت هذه اللحظات .. أيام وأسابيع وشهور .. بل وسنوات وهي تعد الثواني والساعات بانتظار العودة إلي أحضان الخرطوم والناس والأشياء والأهل وقبل كل هؤلاء طفلها المفقود .. طفلها الذي يفترض إن كان علي قيد الحياة قد صار رجلاً .. إنها تتذكر قدميه الصغيرتين وابتسامته الملائكية وهي تدسه داخل ذلك الصندوق الصغير بعد أن قبلّته وضمته إلي صدرها مليون مرة دون أن ترتوي .. وهرولت بعيداً تغادر المكان ولكنها ما أن تبتعد قليلاً حتي تعود أدراجها لتقبّله من جديد .. ولم تغادر إلا بعد أن ألحّت عليها صديقتها ( هند) وأكدت لها بأنها قد وضعت كل الإحتياطات الضرورية لضمان سلامته .. كانت لحظات قاسية ظلت تؤرقها وتوقظها من نومها مذعورة في جنح الليالي الباردة هنالك بنيويورك .. كوابيس لا تعلم متي وكيف تنتهي وزوجها الرائع رتشارد يهديء من روعها في كل مرة وينهض ليحضر لها بعض الماء لتشرب ومن ثمّ يأخذها إليه يمسّد شعرها حتي تنام .. انتهت إجراءات الجوازات والجمارك وخرجت لتجد كل أفراد أسرتها بانتظارها خارج المطار وداخل الصاله وهم يهتفون ( جوليا مرحبا ) ..وأخذوها بالأحضان .. أحضان الوالد والوالدة والشقيقات .. الخالات والعمات ..وحتي أسرة وجدي كانت هناك .. إنها حقوق الجيرة والعشيرة والرهط والأصدقاء .. سلمت عليهم تحت دهشة الصغيرة ( لوسيانا ) التي لم تتعود في أمريكا علي مثل هذا الطقس الدافيء وتلك العواطف المشبوبة .. كانت مرهقة ومتعبة من رحلة استمرت لأكثر من سبع وعشرين ساعة من الطيران المتواصل والانتظار الطويل بالمطارات .. (أمستردام والقاهرة ) وأخيراً آن لها أن تلقي عصا الترحال وترتاح ولكن لحين .. ففي جعبتها الكثير من الهموم وما ينتظرها من مفاجآت تصيبها باليأس والإحباط ..وقد توشحها بالبهجة والأفراح .
    لا تزال بطة تحاصرني بروعتها وأنوثتها الطاغية ..معها أجد نفسي وذاتي .. تتدفق عواطفي ثرة وندية بلا رتوش أو تكلف .. معها لا أحتاج كل ذاك العناء الذي أكابده في كل لحظة أقف فيها أمام سحر ..هذه تعطيني الإحساس بالتفوق وتلك تعطيني الإحساس بالتواضع .. هذه تمنحني الشعور بالراحة والإطمئنان .. فإن تكلمت فهي التلقائية والبساطة والعفوية ومع تلك أشعر بالخوف وإن تكلمت فهي التأتأة وإنحباس الأنفاس ومحاولة إنتقاء العبارات .. لذلك أشتاق بطة وسوف أزورهم اليوم وسأحمل لها بعض الهدايا والفاكهة والحلوي .. ماذا سأقول لها إن سألتني عن الخطوبة ..هل أعطيها وعداً وأحافظ عليه وكيف يتسني لي زيارتها بانتظام في منزل قريبتها وقد أقنعتها بالهروب من عوالم المعلم ( الكيك ) البائسة .. وقد لاحظت ولا ريب كيف تضايق زوج قريبتها من وجودي معهم ولا بد أنه أخضعها لسؤال ( نكير ) كما يقولون .. يجب أن يكون للموقف شكل آخر .. فهل أطلب من سلمي شقيقتي أن تذهب معي فنخطبها أم أن عليّ الإنتظار قليلاً فلا أتسرع .. هذه الأمور يا حربي لا ينفع معها الإستعجال .. لا بد أولاً أن تكّون نفسك وتعرف إلي أين سينتهي بك المقام بعد الإزالة التي لوحت بها السلطات المحلية وهل تملك دخلاً ثابتاً يمكّنك من تكوين أسرة حقيقية و.. و .. كفي أسئلة لقد دوختني بتساؤلاتك الممّلة يا هذا .. النصيحة غالية وصعبة .. فاسمع كلام من يبكيك يا صديقي ولا تسمع كلام من يضحكك .

  34.  
  35. #18
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثانية عشرة
    روما إسم رائع لمدينة أروع ..ولجوليا أكثر من سبب لزيارة فرع المنظمة هنالك ولوحدها دون أن تصطحب ابنتها التي راقت لها الإقامة بالخرطوم بشمسهاالمشاكسة ومدي الإهتمام والدفء الذي تحظي به من الجميع .. فجوليا تريد إجراء مراجعة عامة لأعمال فرع المنظمة التي باتت تشغل فيها منصب المفتش العام .. وقد أفادت بعض التقارير التي تلقتها رئاسة المنظمة بنيويورك أن ما يصل من فرعها بروما من مساعدات لمنطقة (البلقان) لا يتطابق والبيانات المضمنة في التقارير الدورية .. ولسبب آخر يشدها بشكل غامض نحو ذلك البلد وتحاول جاهدة إستبعاده من ذاكرتها وهو يتعلق بحقيقة وجود ( وجدي ) خطيبها السابق .. الرجل الذي أهانها وتسبب في حملها سفاحاً دون مراعاة لسمعتها وسمعة أسرتها .. لقد كان قاسياً معها ولم تجّد دموعها وتوسلاتها معه عندما قرر السفر إلي (روما) ليدعها تواجه المجهول هي وطفلها المرتقب وكم حاول إقناعها بإسقاطه بيد أنها تشبثت به وليكن ما يكن .. وقد كانت تجربة ألقت بظلالها الكثيفة علي مجري حياتها علي مدي السنوات الأخيرة وتلك الأحلام المزعجة والكوابيس التي توقظها من نومها مذعورة يتصبب منها العرق .. ظلال قاتمه لتجربة لا تنسي ولو لا نضج وثقافة وسعة صدر زوجها المخلص المستر رتشارد لكانت في موقف لا تحسد عليه .. وهي إن تنسي لن تنس تهكم وإذلال شقيقته ماريا عندما توسلت إليها أن تقنع شقيقها بالعدول عن السفر وإتمام مراسم الزواج .. فماذا وجدت منها غير الإزدراء والسفه .. آه من وجدي وشقيقته .. كانا عكس والدهما وأمهما الرائعين .. لقد غضبت والدته منه غضبآ شديدآ عندما نكص بوعده في الزواج منها .. لدرجة أنها قالت له صراحة ( أنا ما عافيه منك لو سافرت بدون ما تتجوز جوليا ) .. لكنه غدر بها .. طعنها من الخلف وسافر مشمولاً بغضب أمه وشعورها المرير تجاهه .. أيام .. أيام تفعل بنا ما تشاء وهاهي تأخذ دورتها وقد حانت لحظة رد الحقوق إلي أصحابها .. لا .. لن تنتقم منه .. فأخلاقها والقيم التي تؤمن بها تمنعانها من ذلك .. وستكلف شركة متخصصة بمراجعة الحسابات بفرع روما وبعد ذلك تبني إجراءاتها اللاحقة بطريقة نزيهة ومحايدة ومهنية .. لن تنتقم منه ولو أنه يستحق ذلك .. ستكون أكبر من ذلك بكثير سيما وأن القدر قد عوّضها المستر رتشارد بوقاره وتفهمه وصبره عليها وعوّضها بابنتها الرائعة ( لوسيانا) وقريبآ جدآ ستعثر إن شاء الله علي ابنها المفقود منذ سبعة عشر عامآ .
    قضت يومها الأول بالفندق لا تغادره وأجرت بعض الإتصالات بزوجها بنيويورك وأسرتها بالخرطوم توصيهم بمراعاة ومراقبة ابنتها وبالأشياء التي تحبها وتعودت عليها وتلك التي تنفر منها .. وكذلك بصديقتها ( هند ) لتكون علي إتصال دائم بالملجأ قبيل العيد ولحين عودتها من روما .. كما أجرت إتصالآ مع الشركة الإيطالية العالمية لأعمال المراجعة وتقويم الأداء الحسابي واتفقت معهم علي إرسال فريق من المراجعين القانونيين لفرع المنظمة .. أوقفها موظف الإستقبال لمعرفة سبب زيارتها قبل أن يسمح لها بالدخول وعندما قرأ بطاقتها الشخصية وقف محييآ لها ومن ثمّ قام بتوجيهها نحو مكتب المدير وهو يردد ( مرحبآ جناب المفتش العام .. مرحبآ مسز رتشارد ) .. وكأنه يود تنبيه الموظفين والموظفات علي موقع وأهمية الضيفة التي يزفها أمامه .. ولم يكن المدير مرتاحآ لوجودها بهذه الصورة المفاجئة .. إذ كان يجب إخطاره حتي يقوم بواجبه نحوها من استقبال في المطار وحجز بالفنادق والحاق عربة وسائق يكون تحت تصرفها كما تقضي الأصول المرعية بذلك .. ولعلّه يرتاب من هذه الزيارة غير المعلنة وما تنطوي عليها من مفاجآت .. أطلعته علي الغرض من زيارتها وأعلمته بحضور فريق من المراجعين المتخصصين بين لحظة وأخري وطلبت منه تقريرآ شفهيآ عن سير العمل وكانت تدون كل كبيرة وصغيرة ..ومن ثمّ قاما بجولة علي أقسام الفرع المختلفة .
    كان ( وجدي ) منكبّآ علي مراجعة بعض الأوراق عندما رفع رأسه ليجد المدير وبرفقته سيدة لم يتبين ملامحها للوهلة الأولي .. صباح الخير السيد المدير .. صباح الخير آنستي .. وهنا انعقد لسانه من الدهشة ( جول ..جول ..جوليا ؟!!!) .. دعني أقدم لك المسز رتشارد المفتش العام للمنظمة وقد قدمت من نيويورك لإجراء مراجعة روتينية لحساباتنا .. عليك بتجهيز كل الأوراق المطلوبة و .. عند هذا الحد دخلت عليه سكرتيرته لتهمس في أذنه بأن هنالك شخصين يقولان أنهما من الشركة الإيطالية العالمية للمراجعة وتقويم الأداء الحسابي ينتظرانه بالمكتب .. من ؟! .. الشركة العالميه .. هنا قاطعته جوليا بلطف .. عفوآ السيد المدير .. أنا من أمرت بإرسالهم لأنني أريد تقريراً شاملاً ومفصلاً عن حسابات الفرع كطلب المستر رتشارد مدير عام المنظمه .. ومن ثمّ غادرا .. ( وجدي ) وقد ألجمته المفاجأة .. بدا لها وكأنه شيخ في السبعين من عمره .. مرهق وكئيب وقد علت أرنبة أنفه نظارتان سميكتان توحيان بضعف نظر شديد .. وتلك الهالة السوداء التي أخذت موقعها تحت أجفانه ويداه المرتجفتان وقد عجزتا عن الإمساك بلفافة تبغ كان يدخنها .. ولاحظ أنها حتي لم تسلم عليه ناهيك عن مصافحته وسؤاله عن أحواله .. جلس وهو يشعر بأنه يتهدم كحائط قديم تآكل بفعل الزمن والرياح والمطر .. حاول أن يستجمع قواه دون جدوي .. ولم تمض دقائق معدودة حتي دخل عليه فريق المراجعة وبدأ في مواجهة أصعب لحظات حياته .

  36.  
  37. #19
    مشرف القسم الثقافي

    Array الصورة الرمزية ياسر عمر الامين
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدنى
    المشاركات
    2,635

    متعك الله بالصحة والعافية استاذنا عبد الغنى...ومعك فى هذه الرحلة وفى كل رحلة يكون قلمك المبدع ربان سفينتها...

    يا وحى الهامنا وموضع احترامنا يا مدنى الجميله ليك مليون سلامنا.
  38.  
  39. #20
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    شكراً ياسر ..أتمني أن أكون في قامة ومكانة وادمدني الإبداعية التي أدهشت السودان في شتي المجالات ..وأسعد كثيراً وهذه الرحلة تمضي وأنتم تتابعونها ..شكراً مرة أخري .

  40.  
  41. #21
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الثالثة عشرة
    غنت سلمي في حفل نجاح أميره وحصولها علي مجموع كبير يؤهلها لدخول كلية الطب الشيء الذي فاقم من أزمتي مع أميرة وقصة حبنا شبه المستحيلة .. قالت لك لا بد أن تكون طموحاً وتعمل ليل نهار لتحّسن من وضعك المالي والإجتماعي حتي تكون جديراً بها وهي لا تريد ذلك التفوق في حد ذاته وإنما لتجنبك الإحساس بالدونية وأنتما تؤسسان حبكما الوليد وبيتكم المرتقب .. هي لا تريد الجاه من أجلها هي وإنما من أجلك أنت يا رجل وبدلاً من تطوير مقدراتك وولوج عوالم أخري غير الميكانيكا تبقي متشبثاً بمهنتك ومحيطك العام أمثال( سلمان الفاضي ونانا الحبشيه وبطه وشنكل وكافوله ).. ما هذا ( ياخينا ) هل تريد أن تقنعني بأن هذا الوسط يليق بطالبة جامعية مرشحة لأن تكون طبيبة.. ولكنها مهنه شريفه وهؤلاء الناس علي قدر حالهم لا ينافقون ولا يخدعون أحداً ولا يأكلون أموال الناس بالباطل ولا يطبلون للحكام ولا يسرقون .. فماذا تأخذ عليهم .. وهل الفقر عيب ..؟ ما قلنا حاجه .. ليس كل إنسان ناجح أو ثري أو رجل أعمال بهذه الصفات التي ذكرتها .. علي العموم أنت حر ..تلك هي أميره أمامك ولك .. أنظر إليها وهي جالسة بين صويحباتها مثل ( الرتينه ) .. أنظر للوجه المستدير والخد الريان والأنف الروماني المخروط جل الخالق ..أ نظر إلي (الروج) علي الفم وكأنه حبة من العنب .. ألا تحدثك نفسك بكل هذا المجد وكل هذه الأناقة المفرحة المترفه ؟.. نعم غنت سلمي شقيقتي في الحفل وكانت متألقة ورائعه ..أغنيات رصينة وإن هي عرجت علي أغاني البنات فإنما لتغيظني ..إسمع هذا الكلام ( الليله جوا وبلالي ما جا .. قامت الطياره ورفعوا الإشاره ..كاميليا حرقت يا شباب كفاره ) .. كاميليا هذه لا بد أن تكون مضيفة قضت نحبها في حادث تحطم طائرة أو هكذا يجب أن تكون وإلا لماذا تنظر إلي سلمي نظرات ذات مغزي وقد علمت بقصتي مع المضيفه سحر .. آه من هؤلاء الفتيات .. يعتقدن أن الحب ملهاة ومدعاة للتندر ولو علمن أيّ جرح تسببه معاناتي بسبب سحر لما تندرن وتهكمن بي .. قدمت هدية متواضعة لأميرة وقد نهضت تبشر عليّ بكلتا يديها عندما توجهت صوبها لأبارك لها ولم تنهض لأحد قبلي أو بعدي فما مغزي هذا ا لتصرف ؟!!
    أمضيت سحابة ذاك اليوم وأنا منهمك في صيانة عربة سحر كما هو الحال كل يوم جمعة .. بيد أنني كنت شارد البال ومحبطآ من لقائي الأخير ببطة .. وعلي غير عادة سحر لم تمر عليّ إلا لمامآ وقد لاحظت عليها التوتر الشديد .. ماذا هناك يا حربي ؟ ..ماذا هناك يا تري ؟ .. معقول أكون أنا السبب في كل هذا التجهم ؟ .. (بمناسبة شنو ) يا أخانا ؟ .. هل تتسبب أنت في تعاسة إنسان ملائكي مثل سحر .. ومن أنت لتفعل هذا ..؟ أنت تبالغ دون شك .. هل أسألها وأقول لها لماذا أنت تعيسة ومهمومة يا آنسة سحر ؟ .. لا .. لآ .. دونك العربة الصغيرة عربتها تنسم العطر المبعثر في زواياها .. تلمس موضع أكتافها ويديها علي المقود والثم حتي الزجاج الذي نظرت من خلاله إلي الشارع .. أما أن تربط نفسك بمجرد زفرة حرّي تغادر صدرها فهذا هو الجنون بعينه .. دعنا نذهب بك إلي أقرب عيادة نفسية يا زعيم لتعالج من حالة الفصام هذه التي تعتريك منذ الأمس .. كانت صامتة وهي تعيدني إلي الحي العشوائي .. شاردة وحزينة ولم يصدر عنها أي صدي سوي أصابعها تحركها فوق المقود بعصبية متفاقمه .. ثم .. اسمع يا حربي .. إنت بقيت واحد من ناس البيت ومن حقك تعرف ما يدور فيه .. والدي سيحاكم غدآ بتهمة الإختلاس .. فهو مدير مصلحة كبيره وقبل حوالي عامين أدخلوه السجن قيد التحري بتهمة باطله .. تهمة إختلاس ملايين الجنيهات .. كانت مؤامره يا حربي مؤامرة قذره .. واستمرت جلسات المحاكمة أكثر من عامين وغداً النطق بالحكم .. ليتك تحضر لتقود عربة والدي حتي مباني المحكمة وكل ما يريده الله سبحانه وتعالي خير .. بالطبع سآتي يا أستاذه سحر ..( تاني ) أستاذه سحر .. أنا آسف يا آنسه سحر وأشكرك من كل قلبي لكونك إعتبرتني كواحد من أفراد العائلة هذا شرف لي وساكون فجر الغد عندكم إن شاء الله .

    التعديل الأخير تم بواسطة عبدالغني خلف الله ; 09-02-2013 الساعة 01:29 AM
  42.  
  43. #22
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    الحلقة الرابعة عشرة
    لم أنم ليلتها تلك .. فغداً سأقود عربة والد سحر (المرسيدس) وأحمله عليها إلي المحكمة .. صحيح أنني قدت كل أنواع العربات وأنا أعمل لها ( تستات) .. ولكن ما يقلقنى شخصية والد سحر بحد ذاتها .. رجل كالأسطورة .. طويل القامة حليق الذقن كثير الصمت .. مع شيء من الغلظة .. ضغطت علي أحد الأزرار بالباب فجاءني صوت من الداخل يقول ( منو الفي الباب وكان صوت سحر ) وها نحن قد تعلمنا التعامل مع التكنلوجيا الحديثة يا صاحبي ( مايكرفون في الحيطه ؟! ) ..أنا حربي .. صباح الخير .. صباح النور .. لحظه من فضلك .. كان صوتها هامساً وتبدو عليه آثار النعاس .. صوت هامس مترف وكأنه مطلع لأغنيه .. فتحت لي الباب بنفسها .. كان واضحآ أنها غادرت سريرها للتو .. شعرها المبعثر فوق أكتافها وقميصها البنفسجي وفرعها المتناسق ونسمة فاترة من العطر الأنيق ينداح من حولها وكل شيء فيها يشيء بأسرار غامضة من السحر والدلال .. قلت لها سأجلس هنا في الحديقة .. فأصّرت عليّ أن أدخل الصالون .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي أغادر فيها دائرة اختصاصي هنالك في الزقاق خلف المبني حيث تحفظ العربات .. توغلت في البهو وكدت أتزحلق علي الرخام المصقول وغرقت في نهر من الموكيت الكثيف وهتفت في نفسي وأنا في غاية الإنبهار .. يااه هل أنا في قصر من قصور ألف ليلة وليله ؟ أم ماذا ؟ .. تأملت اللوحات والصور وكان كل شيء حولي ينضح بالأناقة والجمال ..عادت سحر بعد ربع ساعة وهي تحمل ( صينية الشاي .. وهمست في وجهي ..(أخد راحتك البيت بيتك ) ..بيتي أنا ؟!! .. كيف ؟! .. حاولت أن أتعامل مع الأشياء التي وضعتها أمامي دون جدوي ..فال( سيرمس ) لا تعمل .. حاولت ضغطها من جميع الزوايا والجهات وهي ترفض أن تمنحني ولو قطرة واحدة من الشاي .. وال(سكرية ) هي الأخري لا تجود بشيء .. عادت سحر بعد أن غيرّت ملابسها لتجد كل شيء في موضعه .. ( معقول لسه ما شربت الشاي ؟ ) .. يالك من إنسان خجول .. تعاملت هي مع الأواني وشربنا الشاي سوياً .. كانت بسيطة ولطيفة وهي توصيني علي والدها .. أبي لا يحب القيادة المتهورة ..لا يحب أن يقطع عليه السائق أفكاره ويشوش عليه بالثرثرة الفارغه .. وما إلي ذلك من النصائح التي …استوعبتها تماماَ .. وغادرتني علي أن تذهب للمصلحة تأخذ إذناً وتلحق بنا في المحكمة .
    عملت بنصيحة سحر وقدت العربة باتزان شديد وفي صمت مطبق .. دلّني علي طريق المحكمة وهو يداعب حبات مسبحته إلي أن وصلنا .. إلتقاه شخص يبدو أنه محاميه وعدد من أقاربه .. وشعرت بغربة حقيقية وسط هؤلاء القوم .. وبالرغم من أنني بذلت جهدآ واضحآ من حيث المظهر لكي أشكل شيئاً ما .. إلا أن الجميع تجاهلني .. عادت سحر ومعها شقيقها ولوّحت لي من بعيد وهي تركض فوق درجات المدخل .. شقيقها عصام هذا لا يطيق رؤيتي وكان كثيراً ما يتعمد إذلالي .. لدرجة أنه طلب مني في إحدي المرات أن أنظف له حذاءه .. مكثت أكثر من ساعتين داخل العربة ولا شيء يدل علي أن النطق بالحكم قد صدر وفجأة تناهي إلي أسماعي صوت صخب وضجيج .. ومن ثمّ خرج الجميع سحر ووالدها وأقاربه ولاحظت أن الجميع يسلم عليه مباركاً .. فماذا حدث يا تري .. ركضت سحر نحوي .. بارك لبابا يا صالح .. لقد برأته المحكمة وأمرت بإعادته لمنصبه ومنحه كل حقوقه .. مبروك يا أستاذ التهامي .. الله يبارك فيك يا ابني .. والله قدمك علينا قدم خير .. وهكذا عدنا في رتل من السيارات للمنزل ونحرت الذبائح ووزعت الحلوي .. وأمضيت ذاك اليوم وأنا أتحرك (كالبلدوزر ) .. أحضر الخراف وأذبحها وأنصب (الصيوان وأرص الكراسي ).. احضر الحاجيات من السوق وأناول هذا وأوصل تلك .. وفي المساء دس والد سحر مبلغآ كبيراً من المال في يدي وكذلك فعلت سحر وعدت إلي الحي العشوائي وقد ضمنت علي الأقل المبلغ الذي يكفي لخطوبتي ببطه .
    سطع نجم شقيقتي سلمي في عالم الغناء ببيوت الأفراح وتحسنت تبعاً لذلك أحوالنا المالية بشكل مطرّد .. لذلك قمنا ببناء عريشة أنيقة من الحديد والخشب ونثرنا في جنباتها الورود والزهور حتي نتمكن من استقبال سيدات المجتمع اللواتي يأتين لتحديد موعد مع سلمي لإحياء حفل الزفاف هذا أو ذاك سيدات مثل الجياد المطهمة يخلبن الألباب .. وكانت معظم الحفلات نهارية ..

  44.  
  45. #23
    اللجنة الاستشارية
    Array
    تاريخ التسجيل
    Aug 2006
    الدولة
    ودمدني / بانت
    المشاركات
    1,705

    جلوس دائم واصل يا رائع ..

  46.  
  47. #24
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية صلاح سر الختم علي
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    ودمدني سابقا 114 ومايو
    المشاركات
    1,436

    المبدع الجميل عبد الغني خلف الله
    كنت مصرا علي عدم قراءة الرواية بالقطاعي وانتظرت حتي سنحت لي فرصة القراءة بدون توقف لجميع الحلقات
    فوجدت بناء بديعا ونصا منسابا في عذوبة وسحر
    نص فيه صدق فني باذخ حد انه يبدو تدوينا لسيرة أكثر منه رواية تعتمد علي الخيال
    والنص جديد كل الجدة
    برغم من صعوبة موضوعه كونه مطروق من قبل كثيرا لكن الجدة في طريقة التناول والعرض
    اللغة جميلة جدا
    والشخوص ظاهرة ومهيمنة جدا علي مسار الأحداث
    وليس في الأحداث حشو
    وليس في الوصف حذلقة
    وهناك عالم حقيقي ينهض من بين السطور كمارد ينهض من تحت الرماد
    ياصديقي انت كاتب متمكن من أدواته
    وتسرد الحكاية بيسر كما يحتسي المرء كوبا من الماء
    واصل يا ايها المبدع
    وحاول إطالة نفسك في السرد الي أبعد مدي تستطيعه
    فأنت تعمل علي قطعة رائعة من الحرير بمهارة غير عادية
    فلاتتوقف
    ولاتضق ذرعا بالرواية
    واصل اغناؤها بالتفاصيل
    فالرواية تحتمل الكثير من المسارات والتفاصيل
    سعدت حقا بالقراءة لك

  48.  
  49. #25
    عضو مميز
    Array
    تاريخ التسجيل
    Dec 2012
    المشاركات
    400

    عزيزي عصام ..أروع صباح لأروع صحبه ..سعدت بوجودك معنا في قاع المدينة ..هذا مع تحياتي .

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid