صغيرا جدا كنت حين أنبتت لى جدتاى عليهما رحمة الله أجنحة من الخيال بحكاياتهما المسائية عن فاطمة السمحة والغول القبيح نتن الرائحة الذى خطفها ثم نام متوسداً ضفيرتها،وعن كهفه البعيد المظلم ، وعن حسن وحسين (أولاد عيسي الاتنين) الذين ظلت فاطمة السمحة تستغيث بهما وتناديهما بصوت رخيم عذب تقلده الجدتان وتتفننا في ذلك:
ياحسن وحسين اولاد عيسي الاتنين أنا الغول اكلنى
فيجيبها الصدى:
حسين جمال أنا البرد كتلنى...
تتوالى فصول الحكاية، ارانى حسن وحسين وهما يجولان فى الغابات ويعبرا بجواديهما الجبال ويحلقا فوق أعلى الأشجار وهما يحملقان يمنة ويسرة بحثا عن فاطمة ويصرخا وهما شاهران سيفيهما، فتتوارى الوحوش وتهرب من أمامهما،واسمع معها صوت فاطمة ضعيفاً خافتاً باكياً تحمله الرياح من الجهات الأربع. كنت انتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أهرول مسرعا الى تلك الغرفة الصغيرة التى تقيم فيها جدتاى بالتناوب فى رحلتهما السنوية بين مدنى وابوهشيم،أهرع الى الغرفة الصغيرة حيث التهم أشهى وجبة تنتظرنى فى كل ليلة،أحبس أنفاسى وتتعلق عيونى بشفتى الجدة وعروق رقبتها النافرة، يبدو سريرها المصنوع من الخشب والمنسوج بالحبال عرشا جميلا لملك عظيم من ملوك حكاياتها، وتبدو الغرفة بأكملها كهفا أسطوريا عابقا بالحكايات، ويبدو النمل الماشى على الارض الترابية مستمعاً مثلى للحكايات يجلبه الفضول مثلى فلايغيب أبداً، قد تتكرر الحكاية مراراً ولكن الجدة لاتسردها أبدا بذات الكيفية، بل تقدم وتؤخر وتحذف وتضيف كيفما شاءت، وتغنى بصوت منغم جميل اثناء الحكى غناءً يتبدل هو الآخر، وفى كل مرة يكون للحكاية تفاصيل جديدة لم ترد قبلاً، فتبدو الحكاية حكاية جديدة فى كل ليلةومختلفة عن سابقتها، الأبطال هم نفسهم، والأشرار هم نفسهم، والتشويق هو نفسه، لكن الحكاية تتجدد مثل العصافير على الشجر فى كل أمسية وتنبت لها أجنحة جديدة فى كل مرة تحكى فيها الحكاية.لم أكن املك جدة واحدة، بل اثنتان: زينب بنت الحاج جدتى لأمى، وفاطمة بنت خادم الله جدتى لأبى،كانتا تتناوبا الحضور إلينا من بلدتنا ابوهشيم القابعة أقصي الشمال، يحمل قطار(الصعيد) هذه الينا ويعود بتلك القطار العائد(قطار السافل)، فكنا نحظى بحكاياتنا دائما، وكان من حسن حظنا أن كلا منهما كانت مجيدة للحجى ونظم الشعر والغناء به وذات مخيلة واسعة وذاكرة عامرة بحكايات الناس والنخيل وأنفاس المكان،جدتى والدة أبى كانت امرأة طويلة القامة، جميلة الملامح، لها شلوخ صغيرة على وجنتيها، عيونها واسعة لاتشعرك أبدا بأنها ضريرة،بيضاء اللون بياضا نادرا في أهلنا، شعرها طويل لكنه بات بلون الفضة من فرط ماغزاه الشيب،كانت أسنانها البيضاء القوية المنتظمة تعطيها ألقا وشبابا وهى فى التسعين فتبدو أصغر من ذلك كثيرا،كانت ذات شخصة فريدة، فهى بالرغم من كونها ضريرة،إلا أنها استطاعت بألق روحها أن تنسج من الظلام المحيط بها ضوءا كاشفا بددت به وحشة الحياة من حولها، وجعلتنا ننجذب كالفراش إلى كهفها السحرى فى كل أمسية،كانت ترى بخيالها عوضا عن عينيها فتسافر بنا بعيدا بخيالها الخصب وشعرها الجميل المدوزن الذى يضفى على السرد حيوية وسحرا،كانت ضريرة لكنها أنبتت لنا أجنحة حلقنا بها بعيدا خارج الغرفة الصغيرة والبيت الصغير القابع فى حى عمالى صغير فى ودمدنى، حلقنا عاليا مع خيالها الخصيب وروحها النورانية، نرتاد قصور الملوك الظالمين والعادلين، نسمع قعقعة السيوف وشقشقة العصافير،نرى الغابات الجميلة والمخيفة، نرى وحوش الغابة أسودها وثعالبها وغزلانها،نغوص فى البحر ونرى أنياب التماسيح بارزة ، نتعرف معها على حيوانات الغابة قاطبة وتماسيح البحر وحيتانه التى تتكلم، ونتعرف على أحلام الأطفال تحدثنا عن الفقراء الطيبون والأشرار القساة،والشجاعة والجبن،وكانت قادرة دوما على ان تجعلنا جزءا من الحكاية واختيارنا دوما هو نصرة معسكر الخير، كنا فى خيالنا نسرح فنحمل سيوفا لامعة ونتقمص دور حسن وحسين ونبحث عن فاطمة وحين يجيئنا الغول فى أحلامنا نطعنه عشرات المرات بسيوفنا فى عينه الواحدة المظلمة ككهف ونصحو مفزوعين مبللين بالعرق في الشتاء. أما جدتى بت الحاج فهى كون آخر من الوسامة بحجمها الضئيل وعودها الضامر ولونها الذى يسميه أهل السودان خدرة وهو الى لون الطين أقرب،فكلما وطأت أقدامى جرفا أخضرا نظرت الى تربته السوداء حيث لازرع يغطيها وقلت لنفسى هذا لون وجنة حبوبة زينب بت الحاج، وكانت هى نفسها محبة عظيمة للجروف والطين والنخيل،أتذكرها وهى تلبس مركوبا احمرا جديدا وثويا ابيضا وهى متحكرة فوق حمارتها ضئيلة الحجم مثلها وهى فى طريقها من أبوهشيم الى الجزيرة أرتل فى رحلتها السنوية لجمع الحقوق، مبتسمة متأنقة كعروس ليلة عرسها، وتلك الوجنة الصغيرة تنكشف عن نونة صغيرة مثلما ينكشف الفم عن أسنان متصدعة فيبدو خاوياً،كانت جدتى حين تكون سعيدة وهو حالها الغالب دوما، تبرز وجنتاها فى شكل نتوء صغير للداخل وتبرق عيناها الصغيرتان،كانت هى الأخرى مخزن حكايات لاينضب، وصاحبة صوت جميل يعلو دوما بمدح الرسول الكريم فهى مستمعة جيدة وحافظة لكل مديح اولاد حاج الماحى محبى الرسول، وكانت شاعرة مجيدة لها أشعارها وأغلبها في مدح المشرق ذلك التمر الذى اشتهر به اهلها الرباطاب واحبته هى فلايغيب عن مجلس قهوتها المنعقد مرتين في اليوم الواحد ضحى وعصرا بطقوس خاصة وفريدة أهمها ارتفاع عقيرتها بالمديح والترحم على اجدادها وابائها الراحلين وممارسة هوايتها المفضلة التى تكسب منها عيشها بالاضافة الى الحقوق الموروثة( وتلك الهواية هى ضفر السعف وصنع المصنوعات المحلية منه سواء كانت قففا( سلالا) من السعف أو بروشا للصلاة أوغيرها.كانت تشعل نارها وتقوم بقلى البن حتى يسمر لونه،ثم تمرره على الجالسين لينعموا برائحة البن ودخانه، ثم تقوم بسحنه عن طريق الفندك الصغير ويد الهون، ثم تخلط البن بالماء المقلى المخلوط بالجنزبيل، وتدور الأقداح الصغيرة دورات منتظمة لكل دورة أسم يميزها( البكرى) و(التنى) و(البركة).كانت جدتى تبدو ملكة فوق عرشها تحيط بها رعية محبة تنهل من معينها كما ينهل الناس من نهر عظيم لايعرف التوقف، تبدو جدتى فى تلك اللحظات شيئا خالدا لايفنى أبداً، كنت ألمح المحبة لها في وجوه كل المحيطين بها وفى حرصهم على عدم الغياب عن مجلسها الصغير الذي يكون مقره برندة صغيرة ضحى والحوش الوسيع تحت الظل عصرا، لازلت أشم رائحة ذلك البن وأرى دخانه المتصاعد حول وجه جدتى الصغير وأرى عيونها تبرق كقطة ماكرة فى سعادة من ملك الكون كله، أنظر الى الشرقرق المصنوع من الألمونيوم وهو تعلوه ليفة صغيرة تمنع سقوط حبات البن الدراش التى لم تسحن جيدا الى الفناجين،أنظر الى صحن العجوة الصغير، حبات العجوة الحمراء المغسولة التى تذوب في الفم كالحلم والوهم، لايبقي منها سوى طعم لذيذ وشوق الى المزيد.لم يكن الناس يهتمون كثيرا فى ذلك الزمان بالملاءات والمراتب، كانت العناقريب الصغيرة وسيمة ساحرة بحبلها المنسوج عليها بلا غطاء ولامرتبة، والأوانى عادية وبسيطة مثل ناس ذلك الزمن،وجميع الادوات صناعة محلية خالصة، وكورة الطلس حاضرة والمياه من الزير الساقط نظيفة لامعة تقدم بلا وسيط يحملها فهى تحمل على كوز من الزير مباشرة للضيف،كانت جدتى زينب مزهوة بتاريخ أجدادها وشجرة عائلتها زهوا لايفوقه شئ إلا محبتها للرسول الكريم وآل بيته الذين سمت عليهم كل أولادها وبناتها والأحفاد الذين حظيت بحضور ميلادهم،لذلك تفهمت جيدا تلك الدموع التى غشيت وجه أمى بعد اكثر من ربع قرن من رحيل جدتى زينب حين وقفت أمى في بيت الله الحرام ونظرت من عل للطائفين بالبيت العتيق ومسحت دمعها وهى تقول(..قادر الله..كل دى أمة سيدنا محمد؟.. ياحليلك يا أمي الما بليتى شوقك للرسول....) ثم صمتت وأخذت تهمهم فى سرها وتدعو دعاء طويلا.كانت الجدتان حريصتان حرصا ظاهرا على إعارتنا ذاكرتيهما وماتفيضا به من محبة للمكان وتراثه وللجذور، لذلك كنا نرى عبر سردهما كل مافاتنا من مشاهد ومشاهدات ومن حياة اندثرت وغابت فى البعيد، ونرى كل تفاصيل المكان الذى جئن منه كأننا قاسمناهن الحياة فيه، كانتا تعرفان أننا ننتمى الى جيل مختلف نشأ بعيدا عن جذوره ولايعرف شيئا عن تلك الأمكنة، فأرادتا نقل كل معارفهن عن المكان والإنسان الذى يشغله إلينا وإرضاعنا حليب الحب له، كن بأصواتهن الدافئة ينقلن محبتهن للمكان وأهله حيث حبون ونشأن فى تلك البقعة الصغيرة فى شمال السودان التى بدأت تنأى عنهن وعنا، وكانت تلك جرعة أولى من جرثومة الكتابة والسرد أخذتها صغيرا وأمتلأت بالأسئلة حول اسباب ذلك الحب وتلك الرغبة فى مشاركة ذلك المكان وتلك الصور البصرية والسمعية الجميلة، كانت جرعة أولى مهمة عن طرق السرد والقص وأساليب التشويق والإيقاع المحكم، كانت محاضرات مجانية فى الهواء الطلق وتدريبا عمليا على كتابة القصة والسيرة والرواية، وأهم من ذلك كانت بيانا بالعمل حول أسباب الرغبة فى السرد والولع به، ومن ثم سكنتنى شهوة السرد بشكل دائم كعدوى جميلة لم أملك لها ردا، فوجدتنى منذ بواكير الصبا شغوفا بتقمص دور الجدة صاحبة النهر الذى لاينضب من الحكايات، لكن جمهورى كان أوسع من جمهورهن.
جدتى زينب بنت الحاج كانت امرأة نادرة المثال، فقد كانت عفيفة النفس ، كريمة، محبة للناس، عاشقة للعمل وملتزمة بالأكل من عرق جبينها بشكل فيه كثير من المبالغة والإفراط،لذلك ظلت تعمل وتكسب من عمل يدها حتى آخر أيامها وقد بلغت الثمانين، كانت نشيطة لاتحب المكوث فى مكانها ولاتحب البقاء بدون وجود مايشغلها،كانت تجئ من أبوهشيم الى ودمدنى فى كل عام في ميقات معلوم ، تبقى هناك حتى يحين آوان حصاد نخيلها الموروث بالجزيرة أرتل وأبو هشيم ، تشرف بنفسها على الحصاد وتوزيع الحقوق، وتشحن حصتها من التمر عبر السكة حديد من أبو هشيم بأقصى الشمال الى واد مدنى فى قلب الجزيرة حيث بيتنا، تركب القطار الى الخرطوم ثم تكمل الرحلة من الخرطوم الى وادمدنى بالطريق البرى، وعند وصولها يمسى شغلنا الشاغل معها هو السؤال عن شحنة التمر العزيزة فى محطة السكة الحديد القريبة بودمدنى،وحين تصل الشحنة نذهب حاملين بوليصة الشحن لاستلام جوالات البلح وننقلها الى بيتنا القريب، حيث تشرف بت الحاج على فحص شحنتها والتأكد من وصولها كاملة ثم توزعها ، قسم للبيت ويكون عادة من أجود التمر، والبقية للسوق، نحملها مرة أخرى على ظهر كارو لتاجر من تجار البلح الذين اعتادت ان تبيع لهم تمرها وتجلس جوار شحنتها حتى تبلغ الشحنة مقرها وتتم البيع وتتسلم نقودها وتحفظها جيدا فى محفظتها الجلدية المعروفة ب (الشكوة) وتستبقى بعض النقود في يدها لشراء احتياجاتها الخاصة من سكر وشاى وبن وصابون وغيره، فقد اعتادت الجدة ان تشترى احتياجاتها منفردة وان تساهم فى كل وقت بشئ ما فى احتياجات البيت حتى لاتكون عبئا ثقيلا على أهله،ثم تنفحنا بنفحات متكررة تجعلنا نتنافس على مرافقتها فى رحلاتها المختلفة. كانت تشترى السعف من سوق السعف من عائد تمرها وتظل طوال إقامتها عندنا تشتغل فى صناعة المنتوجات المحلية من السعف ، تصنع (القفاف) أى السلال من السعف وتصنع البروش( سجاجيد الصلاة) بأحجام مختلفة، ثم تحمل إنتاجها إلى السوق لتبيعه هناك وتشترى من جديد احتياجاتها المتجددة وسعفا جديدا لمواصلة انتاجها.
المفضلات